ستة قرون على رحيل ابن خلدون

15-06-2006

ستة قرون على رحيل ابن خلدون

بعد جهود فكرية مرهقة, استطاع فلاسفة الاغريق اخراج الفكر البشري من حاضنته السحرية, ومن كهوفه الخرافية,الى فضاء المنطق المنظم, رافضين بذلك ان يبقى الفكر مستودعاً للخرافات, لكنهم , وبسبب انتمائهم لطبقة الاسياد,لم يفهموا وقائع الحياة, وغرقوا في الطوباوية, فجاءت الحقيقة لديهم, مستقلة بذاتها , ومنفصلة عن نسيج الحياة, التي كانوا يرون بأنها من شأن العبيد والعمال, وعليهم ان يرتفعوا عن مستوى تفكير تلك الطبقة المنحطة.‏

ابتعد الفلاسفة الاغريق, عن كون الانسان هو مقياس الحقيقة, وخرج في مقابلهم أناس آخرون, التصقوا بالحياة الواقعية, ووجدوا انه ليس في الدنيا حقائق مطلقة, انما هي حقائق نسبية,وقد اطلق على هؤلاء اسم (السفسطائيين) ولم يطل الامر, حتى هزم السفسطائيون, على يد القوة الاجتماعية النبيلة, التي رفضت واقصت هؤلاء الذين لا يملكون الا قوت يومهم, ولا تسندهم لا قوة ولا جاها . وامسكت طبقة الاسياد بزمام الفلسفة في يدها, ومنعتها عن غيرها. ويقول علي الوردي شارحاً ذلك الواقع:( إن هذا كان من الاسباب التي جعلت التفكير الواقعي الاجتماعي نادراً في تراث الفلسفة القديمة. فقد كانت الفلسفة مشغولة عنه, بما وراء المجتمع والحياة من افكار مطلقة. واذا تنازل احد الفلاسفة, فنظر في امور المجتمع, اخذ ينحو, في ذلك منحى طوباوياً وعظياً,اي انه ينظر فيما (يجب ان يكون, لا في ما هو كائن فعلاً) , كما فعل افلاطون في جمهوريته او الفارابي في مدينته الفاضلة).‏

جاء ابن خلدون, ورفض منطق القدماء, الذين بحثوا في القضايا الاجتماعية, لأنهم اتبعوا منهج الوعظ والخطابة.ولم يكن همه , دعوة الجمهور لاتباع الطريق القويمة والاخلاق المحمودة, بل كان هدفه البحث في طبيعة الحياة الاجتماعية, لاكتشاف القوانين التي تسيطر عليها وتحركها, بغض النظر فيما اذا كانت ذميمة او حميدة. ولهذا وبناء على هذا المنطق الجديد, يكون ابن خلدون اول من قام بمحاولة جدية للنزول بالفلسفة من عليائها, والدخول بها في معترك الحياة الواقعية, وكشف الآليات التي تحركها.‏

ذهب ابن خلدون مذهب سابقيه , وآمن بمبدأ السببية, وقال في مقدمته:( إن الحوادث في علم الكائنات, سواء كانت من الذوات او من الاعمال البشرية او الحيوانية, فلا بد لها من اسباب متقدمة عليها, بل تقع في مستقر العادة فوجه تأثير هذه الاسباب , في الكثير من مسبباتها, مجهول, لأنها انما يوقف عليها بالعادة, لاقتران الشاهد بالاستناد الى الظاهر, وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة).‏

وهكذا , فابن خلدون يتشارك والغزالي في اننا نعرف مبدأ السببية من طريق العادة, لكنه يتفوق عليه بالقول: إن هذه العادة, قد تكون مخطئة ,لأن علمنا بالأسباب محدود, لعجز العقول البشرية عن فهم كيفية تأثير الاسباب في الحوادث.‏

أعلن ابن خلدون, في فصل ( في ابطال الفلسفة وفساد منتحليها) من مقدمته الشهيرة بأن المنطق الذي يتبعه الفلاسفة, قاصر من ناحيتين : الاولى: من ناحية النظر في الالهيات, والثانية: من ناحية النظر في الموجودات الجسمانية, وهي التي يسميها الفلاسفة بالعلم الطبيعي واذا كان الغزالي يرى وجود نوعين من المنطق : الاول هو الارسطي الصالح لكل العلوم,ما عدا الالهية منها,والثاني هو الكشفي الذين يبحث في الامور الالهية,فإن ابن خلدون قد اضاف الى هذين النوعين, منطقاً ثالثاً هو المنطق الحسي, الصالح لفهم الامور الاجتماعية, فالحس عند ابن خلدون ,اصدق من القياس المنطقي والتجريد العقلي, في فهم الامور الاجتماعية.‏

ثار ابن خلدون على اصحاب المنطق القديم, الذي اهتموا بشكل الافكار وصورتها دون محتواها او مضمونها , ورفض انشغالهم بالكليات العقلية العامة, وعدم مبالاتهم بالمحتوى المادي للواقع, فطلب من المفكرين ان يكونوا اصحاب منطق مادي:( ليس مرادنا الامكان العقلي المطلق, فإن نطاقه اوسع شيء, فلا يفرض حداً للواقعات , وانما مرادنا الامكان بحسب المادة التي للشيء) ويفرق ابن خلدون بوضوح بين الصور الذهنية المجردة,وبين الوقائع المادية الخارجية.‏

دفع ساطع الحصري فكرة العصبية عند ابن خلدون الى الواجهة , وجعلها المحور الذي تدور حوله معظم المباحث الاجتماعية, اما طه حسين ,فيرى ان محور النظرية الخلدونية, هو موضوع الدولة.‏

في حين ان د.علي الوردي,خالف الاثنين, معلناً ان نظرية ابن خلدون , تدور حول موضوع اكثر شمولاً واوسع نطاقاً من موضوعي العصبية و الدولة, الا وهو موضوع البداوة والحضارة وما يقع بينهما من صراع, ووجد ان لهذا الموضوع جانبين : سكوني وحركي.‏

يهتم الجانب السكوني بتعيين خصائص البداوة والحضارة,كل على حدة, اما الحركي فيتمثل في دراسة التفاعل والتصارع بين البداوة والحضارة, وما ينتج عن ذلك من ظواهر اجتماعية مختلفة.‏

والملفت للنظر ان آباء علم الاجتماع الحديث,مثل كونت وسبنسر , يقسمون دراساتهم الاجتماعية الى قسمين: حركي وسكوني.‏

إن التصارع بين البدو والحضر, في دورات متتابعة, هو تاريخ المجتمع البشري, وان انقسام المجتمع الى بدو وحضر, لا بد سيؤدي الى الصراع بينهما, حيث سيحل اليوم الذي يهجم فيه البدو على الحضر المترفين, ويسيطرون عليهم.ولكن البدو, حين يتنعمون بترف الحضارة, سيبدؤون بفقدان صفاتهم القوية وخشونتهم وعصبيتهم, وتضعف دولتهم , التي سيسيطر عليها بدو آخرون, ما يزالون محافظين على صفاتهم الاصيلة, ويؤسسون مكانهم دولة جديدة. وهذا ( فإن الماضي اشبه بالآتي من الماء بالماء), كما يقول ابن خلدون نفسه .‏

كل دولة لها عمر, ولا يمكن ان تدوم الى الابد, فهي تبدأ نشيطة وفاعلة,ثم تهرم وتموت. والعصبية التي يركز عليها ابن خلدون, هي الرابط الاجتماعي, الذي يربط ابناء القبيلة او الجماعة,ويجعلهم يتعاونون في السراء والضراء.‏

جاء ابن خلدون بنظريته, في نهاية الازدهار الاسلامي , كنتيجة لتراكم الفكر في تلك المرحلة,فألف رؤية فريدة, لم تستفد منها ا لثقافة الاسلامية التي تهاوت, وتركت ابن خلدون بعبقرية افكاره, منسياً , معزولاً , وحتى مضطهداً,دون ان ينال نظرة ازدراء,على اقل تقدير, وبدأ الزمن الذي لم يعد هناك فيه مكان سوى للذين يروجون الجهالة , ويقمعون كل من يجد ويمضي باتجاه الاصالة والعقلانية مفضلين النوم في الظلام, على الخروج الى اشعة الشمس, ليروا ا لحقائق كما هي.‏

 

عقبة زيدان
المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...