أسلمة المعرفة

15-06-2006

أسلمة المعرفة

ما انفكت في السنوات الأخيرة تتعالى في العالم العربي والإسلامي بعض الأصوات المنادية بضرورة القطع مع ما تسميه بالعلوم الغربية، وإنشاء منظومة معرفية علمية إسلامية. وتحاول هذه الرؤية التي يتبناها بعض الأكاديميين، أن تبني شرعيتها من خلال التركيز على خصوصية العلم الغربي باعتبار ارتباطه النهائي بظروف نشأته، أي السياق الثقافي والاجتماعي الغربي.

كما يخلص أصحاب هذا الرأي إلى استحالة تطبيق منهج محكوم بالخصوصية على سياقات أخرى مغايرة تماما للحالة الغربية، وهذا هو حال الإسلام.

ويركز هؤلاء بدرجة أولى على مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تتخذ من الإنسان موضوعها الأساسي. ذلك أن هدفهم غير المعلن يتمثل في رفض مقنع للحفر في خبايا الذات تحت شعار أسلمة المعرفة.

فالنقاش حول المنهج ليس إلا وسيلة لإخفاء الموضوع -أي الإسلام والإنسان المسلم- وإخراجه من دائرة الممكن التفكير فيه.

أعتقد أن مثل هذا الموقف الذي يحاول -دون وعي- خلق قطيعة إبستيمولوجية يبقى موسوما ببعض السذاجة المرتبطة بسطحية فهمه للثالوث المفهومي لنظريته، أي العلم والغرب ثم الإسلام.

هذا زيادة على كون القول بغربية العلم يمثل إجحافا في حق دور الإسلام التاريخي في بلورة العقلانية الإنسانية. لكن قبل البرهنة على ذلك، لا بد من التوضيح أن المقصود بمصطلح المعرفة الوارد هنا هو المعرفة العقلانية التي عادة ما نختصرها بمصطلح العلم.

فالمعرفة في مستواها المطلق تشمل كذلك مصادر أخرى مثل المعرفة النقلية أو المعرفة الحدسية التي تركز عليها المنظومات المعرفية الدينية المختلفة.

هل يإمكان العالم الغربي أن يفكر في مجتمعات لم ينشأ فيها؟ السؤال ليس بجديد، وهو لا يقتصر على حالة المسلمين، فقد طرح خاصة في مجال علم الأنثروبولوجيا الذي ما زال إلى اليوم يدفع ثمن الظروف التاريخية لنشأته، أي ارتباطه الثابت أو المزعوم بالمد الاستعماري الأوروبي.

وليس أدل على ذلك النقاش الطويل خلال التسعينات من القرن الماضي، والذي أثاره كتاب الباحث الأميركي من أصل سريلانكي غاغاناث أوبيسيكيري في رده على عالم الأنثروبولوجيا مارشال ساهلينز حول أسطورة المستكشف الإنجليزي توماس كوك.

فقد رأى الأول أن ساهلينز غير مهيأ لفهم عقلية الشعوب التي تعامل معها المستكشف لأنه لا يفهم ثقافة جزر هاواي التي قتلت النقيب الإنجليزي كوك بعدما اتخذته إلاهها في البداية.

ويرى أوبيسيكيري أن فكرة تأليه السكان المحليين للبحار الإنجليزي ليست إلا عينة تثبت عملية إنتاج الآخر -غير الأوروبي وغير الأبيض- في المخيال الغربي. وهو يذهب أكثر من ذلك عند نقده لما يمكن تسميته بالسلوك المعرفي الغربي الذي يستبطن الغرب كنموذج وكمرجع لفهم سياقات أخرى.

في نفس هذا السياق يمكننا أن ننزل كتاب إدوارد سعيد حول الاستشراق، رغم أنه سابق للسجال حول قصة النقيب كوك. لقد كان الهدف الرئيسي لعمل سعيد تفكيك الخطاب الاستشراقي حول الشرق وإبراز أن هذا الشرق لا يعد في نهاية الأمر إلا صورة مبتكرة توهم -اعتمادا على جاذبيتها المعرفية- بأنها الشرق ذاته بعناصره الثقافية والاجتماعية الحقيقية.

لقد ندد سعيد في الحقيقة بالسلوك المعرفي الذي لم يتخلص من عائقه الإبستيمولوجي الرئيسي أي ذاتية الباحث. كما أنه ثار ضد تلك الصورة المغلوطة عن الشرق والمتولدة حتما عن ذاتية البحث كممارسة مرتبطة بسياق غربي.

يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك في تقفي أثر الأدبيات التي خصصت لنقد العلم الغربي. وفي هذا الإطار لابد من الرجوع إلى ثلاثة أسماء سخرت جهدها لهذا الهدف: الألماني نيتشه والفرنسيان ميشال فوكو وجاك دريدا.

كان نيتشه قد ثار على النظم المعرفية في عصره وبين قصورها وطالب بتجاوزها. لقد قدم هذا الفيلسوف أول محاولة لتجاوز عقل الأنوار، فمثّل بذلك جذور ما بعد الحداثة في زمن ما زالت فيه الحداثة منبهرة بأولى فتوحاتها.

وبدوره نحا ميشال فوكو نفس المنحى وأنجز عملا نقديا رائعا معتمدا على النبش في السياق الإبستيمولوجي العام لولادة المعرفة في الغرب، وقد لخص جهده وطريقته في مفهوم أركيولوجية المعرفة، وهو منهج قادر على الخروج من يقينية عقل الأنوار.

لقد تبلور هذا المنهج النقدي أكثر مع أعمال جاك ديريدا الذي مثلت تفكيكيته إعلانا مباشرا عن ضرورة تجاوز المعرفة الفلسفية للحداثة المؤسسة على عقل الأنوار.

هذا هو إذن السياق النظري العام لما يمكن تسميته بأدبيات نقد المعرفة العلمية في السياق الغربي، وكما أسلفنا فهي تعود إلى جذور سابقة للجدال الحالي في العالم العربي والإسلامي حول أسلمة المعرفة العلمية. فهل يمكننا أن ننزل التوجه نحو أسلمة المعرفة العلمية في نفس هذا السياق؟

لا أعتقد بأن رفض ما يسمى العلم الغربي في بعض الأوساط التي تنادي بأسلمته يتنزل ضمن نفس التوجه الإبستيمولوجي النقدي الذي تم استعراضه، رغم أن بعض الطروحات تقدم نفسها على أنها كانت سباقة إلى مثل هذا العمل النقدي.

فقد غاب على هؤلاء أن العلم في السياق الغربي ليس مجرد وسيلة منهجية لإنتاج المعرفة، وإنما يشكل موضوع هذه المعرفة كذلك. إن القدرة الإبداعية لهذا العقل تكمن في قدرته على التفكير في ذاته، وهو ما يعطيه إمكانات التجدد والحيوية.

فنفس هذا العقل الذي أنتج نظرية النشوء والارتقاء أنتج كذلك علم الوراثة الذي كشف عن بعض قصور نظرية داروين. كما أن هذا العقل الذي أنتج التحليل النفسي أفرز أيضا العديد من النظريات في العلوم الاجتماعية التي حدّت من يقينية فرويد.

ثغرات العلم ليست جديدة على العلم الغربي طالما أنها مثلت موضوعا فلسفيا مزمنا كان غاستون باشلار قد خصص له حيزا هاما من أعماله.

أقول هذا كي أفنّد الادعاء بأن الدعوة إلى تجاوز العلم الغربي ناتجة عن عجزه عن فهم الإسلام والمسلمين كموضوع، فهناك حدود لهذه المعرفة بالطبع لكنها مرتبطة أكثر بنسبية المعرفة العلمية، وهي ليست مرتبطة بعلاقة هيكلية بين الشرق والغرب أو بخصوصية الشرق.

نضيف إلى هذا أن الثغرات والحدود ليست متعلقة فقط بالإسلام وبالمسلمين والعروبة، فهي ماثلة كذلك في حالة دراسة المجتمع الغربي نفسه.

من بين الأدلة كذلك على محدودية وخطأ المنطلقات المعرفية للدعوة إلى أسلمة العلم نذكر ذلك الخلط المفهومي والتاريخي الذي انبنى عليه هذا الموقف. فهو لا يميز بين مختلف مستويات العلم، أي النظرية والمنهج والممارسة.

لقد انتقد إدوارد سعيد وأوبيسيكيري نظريات الاستشراق والمعرفة الأنثروبولوجية الاستشراقية كممارسة وليس كمنهج، وذلك لسبب بسيط هو أنهم انتقدوا ذاتية الممارسة المعرفية اعتمادا على صرامة المنهج وموضوعية النظرية، وهم لم يطالبوا قط بتأسيس علم إسلامي وآخر هندي أو صيني.. لقد ميزوا بين ذاتية العالم وموضوعية العلم.

يبدو الأمر على نحو أخطر إذا أضفنا إلى هذا الخلط المفهومي خلطا تاريخيا يتجنى ليس على الغرب فقط وإنما على الإسلام أيضا. فالقول بغربية العلم فيه الكثير من التجني على التاريخ وعلى الإسلام لما فيه من تناس لمحتوى ثري من العلم ومن المعرفة العقلانية العربية الإسلامية التي يتضمنها العقل الغربي.

يقول الأوروبيون ويساندهم في ذلك المثقفون التقليديون في البلاد العربية والإسلامية، بأن أصل العقلانية الغربية يعود إلى الفلسفة الإغريقية. لكن إلى أي مدى يمكننا اعتبار العقل الفلسفي عقلا إغريقيا محضا؟ وحتى وإن كان الأمر كذلك هل يمكن اعتبار بلاد الإغريق في العصور القديمة جزءا من أوروبا أم من الشرق؟ الإجابة بسيطة فأوروبا كفضاء حضاري لم تكن موجودة وقتها، هذا ما يفسر اتجاه فتوحات الإسكندر المقدوني شرقا وليس غربا، أي نحو العالم الكلي لتلك الفترة، بلاد الفراعنة والرافدين وفارس والهند.

يقدم الداعون إلى أسلمة العلم أفكارهم على أنها تندرج ضمن رؤية لتحقيق الذات العربية والإسلامية بعيدا عن هيمنة الآخر الغربي. غير أن المنطلقات النظرية الخاطئة لهذا الرأي تجعل الموقف من الغرب المزعوم يخفي موقفا آخر تجاه الذات، أي تجاه الإنسان في السياق العربي والإسلامي.

إن القول بغربية العقل والمعرفة العقلانية فيه تجنٍّ كبير على علم الكلام العربي الإسلامي وعلى المعتزلة الذين أسسوا البعد العقلي للإيمان في الإسلام. كما فيه تجنٍّ كبير على أعلام مثل ابن سينا والرازي والجاحظ والفرابي وابن رشد، هؤلاء الذين لم يكتفوا بأطروحات أفلاطون وسقراط بل أضافوا إليها الكثير من عمق إبداعاتهم.

لقد بقيت هذه الأسماء لأزيد من قرنين البوابة الرئيسية لاطلاع أوروبا على المعرفة العقلانية. لا يمكننا أن ننكر في هذا السياق أن مبدأ القياس كأصل من أصول الفقه الذي أسسه الشافعي، هو في الحقيقة مبدأ أرسطي أدخله بعض رواد الفكر المعتزلي مثل أبو الهذيل العلاف والجاحظ وإبراهيم النظام.

قد لا تعني أسماء هؤلاء الفلاسفة شيئا لبعض المنادين بأسلمة العلم، ذلك أنهم محكومون بطبيعة فهمهم الضيق والإقصائي للإسلام، لأنهم عادة ما يحصرونه في البعد القيمي الإيماني (التوحيد) وفي البعد الإجرائي العملي (الفقه) دون النظر إلى السياق الثقافي العام.

من الواضح هنا أن إقصاء الآخر الغربي ومعرفته يخفي عملية إقصاء جزء من الأنا عبر قراءة انتقائية للتاريخ وللهوية والتراث، قراءة تستند إلى هواجس السياق السياسي العام أكثر من استنادها إلى معرفة تاريخية رصينة.

لا بد من التذكير هنا أن علما بوزن ابن خلدون الذي يعتبره دعاة أسلمة العلم نموذجا لرؤيتهم، بقي ينتظر علماء أوروبا للخروج من طي النسيان في وطن استسلم لسذاجة القول بمرجعية السلف الصالح.

نذكر كذلك أن أرنست غلنر درس قبائل الأطلس المغربي انطلاقا من فكرة العصبية القبلية ومن مبدأ التعارض الهيكلي بين عالم المدينة وعالم البداوة، أي انطلاقا من أفكار ابن خلدون.

إن الخط الفاصل بين العلم من ناحية وبين السياقات الثقافية والدينية ليس على تلك الدرجة من الوضوح التي تمكننا من تبني قراءة للمعرفة العلمية غارقة في الخصوصية.

فهذه المعرفة في بعدها المطلق تمثل إفرازا لتجربة إنسانية تاريخية راكمت على إثرها شعوب عديدة وبدرجات متفاوتة تجاربها لتصيغ ما نسميه اليوم بالعلم.

وعلى الذين يحاولون تأسيس علم إسلامي محض وبالمعنى الفلسفي لمفهوم العلم، الاقتناع باستحالة ذلك لأن أي ربط للمعرفة العقلية بالخصوصية الدينية هو في النهاية نفي للعلم ذاته.

يمكننا الذهاب أبعد من ذلك لأن قضية تحديد نوعية المعرفة التي يحتاجها الإنسان في السياق العربي والإسلامي، تتجاوز حدود السجال الأكاديمي لترتبط بفكرة النهضة.

فقد حققت اليابان نهضتها كما بدأت الصين والهند تشق نفس الطريق لأن شعوب هذه البلدان انخرطت في مسار المساهمة في خلق الحداثة الإنسانية الوضعية من منطلق وعيها بضرورة الاستفادة من تراكم التجربة الإنسانية.

على عكس هذا الخيار ما زال الكثيرون في الفضاء العربي والإسلامي ينادون بشعارات فارغة من أي مضمون مثل أسلمة العلم أو كذلك أسلمة الحداثة، شعارات تهدف أصلا إلى إبعاد الإنسان في هذا الفضاء عن الحداثة الحقيقة.

 

عادل لطيفي

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...