باولو كويلو يبحث عن أسطورته الذاتية

15-06-2006

باولو كويلو يبحث عن أسطورته الذاتية

ربما أراد باولو كويلو ، الروائي البرتغالي الأصل ، برازيلي المولد ، أثناء كتابته لرواية ( الخيميائي ) أو ( ساحر الصحراء ) أن يطمئن القارئ الي أن فن الرواية ما زال قادرا علي استيعاب المتعة وبثها في نفسه ، متعة القراءة ومتعة الاكتشاف ومتعة الدهشة أثناء عملية التلقي ، ومن ناحية أخري ربما جاءت هذه الرواية لتكسر شوكة الواقعية السحرية من جهة وتذلل الصعوبات وتلغي الشروط القديمة التي أوجدها المنظرون من اجل كتابة رواية عظيمة من جهة أخري ، مع أنها ومن ناحية الشكل جاءت كالمعتاد . فهي ليست ضمن الطيف اللاتيني للواقعية السحرية التي سحرت الروائيين طيلة عقود منذ اكتشافها ، وليس من المنصف أن تؤخذ علي أنها مجرد فنطازيا مشبعة بمبادئ الشجاعة والحب والأيمان . ولا تشبه أسطورة زائفة ، الغرض منها تفريغ الأحداث من دون معني . وقد يتناهي إلي البعض أنها مكتوبة بنفس الطريقة التي تحث العامل علي النشاط وتحرض فاقدي الأمل من أجل النهوض ومن ثم البحث عن الكوة المفقودة في الجدار العازل عن العالم ، أو تشجع العاشق في سبيل المضي إلي المحبوبة ، أو تستفز الفقراء لكي يهيموا في الأرض ، كلا يبحث عن كنز هو في الواقع ليس إلا وهما . هذه الأمور استهلكها أسلاف كويلو من قبل وامتلأت رفوف وجيوب العمال والفقراء والعاشقين بقصاصات وخطابات الطبقة العاملة والرومانسية الحالمة فاندفعوا نحو أحلامهم في رحلة البحث عن فتات الخبز والحب وأشياء أخري ، وهذا لا يعني أن مجموع المضامين التي تحملها هذه الأشياء لم تتطرق إليها الرواية ، لكن العمق الذي قصده كويلو في ساحر الصحراء تعدي حدود الأشياء والثوابت التي حارب ويحارب الإنسان من أجلها .
لم يعبأ باولو كويلو بـ " الموضة " الحدثاوية كثيراً ، وكان بإمكانه أن يبدأ الرواية وينهيها كما يفعل الكثير من أقرانه المعاصرين ، لكنه بدأها بمدخل وأنهاها بخاتمة ، واغلب الظن انه لم يذكر اسم البطل إلا في موضعين ، في السطر الأول من الرواية وفي أول سطر من خاتمة الرواية . ومنذ البداية ، وهو يتنقل ويجتاز التفاصيل المملة والحشو الفائض عن الحاجة ويذكر ما هو أثمن بكثير من الأشياء المبتذلة ، مؤمن بأهمية الصدق مع نفسه وبأهمية الرواية وسريان مفعولها حتي وان لم تكن طويلة ، متيقنا أن الإسهاب سوف لن يجدي نفعا في حال انه جاء من اجل المماطلة ، فارغا من المعني . لقد تحدث باولو كويلو عن الأسطورة الخاصة أو الذاتية كثيرا ، ولا ضير إن اكتشفنا أن الرواية وعالم الرواية كان من ضمن الأشياء أو الأهداف التي وضعها كويلو في دائرة هذه الأسطورة الشخصية أو الذاتية . وان لغة العالم هي نفسها اللغة التي أجبرت ملايين القراء في العالم علي إن يفتتنوا بسحرها المشع بين السطور والفِكر والحوار الباعث علي الدهشة . ونري أن الشاب أو الراعي الاسباني في الرواية واجه شتي العقبات وخاض في المجهول منطلقا من نقطة ارتكاز الإنسان : قلبه ، مصدقا وهم يكاد يلامس بقربه الحقيقة ، وحقيقة أكثر قربا من سواها إلي الوهم . كل هذا حدث من دون تقبيح أو شتيمة يعزو المرء السبب في توجيهها للعالم إلي العالم نفسه أو إلي أسلافه ، كما لم نر علي ذلك الراعي لباس اللامبالاة ، بل ظهر مهتما وراح يتعلم لا لأجل البقاء فحسب ، بل من اجل أن ينوه للأخرين إلي إمكانية المضي قدما ، فقط لو أن ثمة ما يستحق أن يتكبد من اجله عناء الوصول . والحق يقال ، أن كويلو نبذ فكرة ضياع الإنسان في دهاليز حياته وعالمه المغلق ، فخلق لنا رواية تدحض اليأس المستبطن في من يتصور انه في لب الضياع سابح . فعرف ما يريده القارئ لا ما يريده العالم ، لان العالم بطبيعته وفي كل الأحوال ليس معنيا بخرابه بقدر ما يكون الإنسان باعثا ومستنفرا لقوي الخراب فيه . لقد مضي البطل ، بغض النظر عما أذا كان يثق بالعالم الذي سيتآمر من أجله أو لا ، مضي وهو لا يعلم كنه الحقيقة التي تبدو كالوهم ، وفي ذات الوقت مضي معتمدا علي وهمه أو حلمه الذي لم يكتف بأن يراه أثناء نومه مع غنمه في كنيسة مهجورة ومتداعية . بل تجاوز حدود الحلم والكنيسة المتداعية مع إن الكنز موجود فيها ، في مكان ما تحت الأرض ، ومضي إلي أسطورته الذاتية وهو يعلم انه ربما سيفشل في النهاية رغم عدم يقينه من أن روح الفشل قد سادت في داخله حتما حتي قبل أن يرحل واثبت ذلك عندما راح يعمل في متجر الكريستال ويجمع المال من اجل العودة إلي وطنه ظاهرا ، أما في باطنه فلم يكن مقتنعا من انه فشل حقاً ، وبالتالي فأن الفترة التي قضاها في جمع المال من عمله مع بائع الكريستال في ( طنجة ) كانت فكرة مماطلة مع وهمه أو حلمه أو مع الحقيقة التي راحت تغازله كل حين . والتي مفادها انه لم يجمع هذا المال لكي يشتري به غنما وإنما ليشق طريقه نحو أسطورته الذاتية أو الشخصية التي يعي تماما أنها تنتظره في الأهرام ، لذا شعر بضرورة السعي وراءهامهما كان الثمن . لكنه لم يرغب في أن يصارع أفكاره المضادة أو المتباينة ثم ينقض ما أصر عليه في الليل ، عند انبلاج أول الفجر . يقول باولو كويلو علي لسان الشيخ " إنك عندما تريد شيئا بإخلاص ، فأن العالم كله يتآمر لمصلحتك " ومثلما تآمر هذا العالم الذي لم ينعته الراعي الاسباني بالخيانة بعد , من اجل أن يعثر علي أسطورته الذاتية ،فأن العالم نفسه تآمر في مصلحة كويلو عندما أراد أن يحقق أســــطورته الذاتية أيضاً و التي بلغت ذروة العطاء في رواية ساحر الصحراء .

المصدر: الزمان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...