أورهان باموق : الرواية هي استعادة لطفولة مفقودة

21-06-2006

أورهان باموق : الرواية هي استعادة لطفولة مفقودة

(العالم كبير, ولكنه في داخلنا عميق كالبحر) على عبارة ريلكه هذه يعلق أحد الفلاسفة: (بعيداً عن كبر البحر والأرض خلال الذاكرة فقط نستطيع بواسطة التأمل استعادة رجع أصداء الزمن والخيال وحده قادر على أن يهرب من المعطيات المباشرة فنجده قد ابتعد على الفور إلى مكان آخر من العالم الكبير والداخل العميق كالبحر الذي تحدث عنه ريلكه وعبر المسافة التي تفصل الأديب عن (نعومة الماضي) ويقربه من ملمس الحاضر يمكن له أن يستعيد مسوداته,

خربشاته, مذكراته, الأولى بروح الطفل الذي كانه.. لطالما أكد غاستون باشلار أن الطفولة لدى الأدباء ليست عاطلة عن العمل? أما دافيد تورو فقد أكد:( يبدو أننا نمضي السنوات الراشدة بالاشتياق لقول أحلام طفولتنا فتتلاشى من ذاكرتنا قبل أن نتمكن من تعلم لغتها).‏

هذا يفسر بعضاً من مقدمة الأديب التركي أورهان باموق في مذكرته التي وضع عنواناً عريضاً لها (اسطنبول) وتحت هذه الكلمة دوّن (الذكريات والمدينة) كأن اسطنبول حلت محل كل طفولته اختزلت باموق الطفل: (آمنت في زاوية من زوايا عقلي ومنذ سنوات طويلة تمتد حتى الطفولة يعيش أورهان آخر توءمي مثيلي الذي يشبهني في كل شيء والمطابق لي تماماً في بيت يشبه بيتنا وفي مكان ما من أزقة اسطنبول).‏

التقاءات الزمن في خيميائية أورهان الأديب دفعه للتأريخ لأدق تفاصيل المدينة موقعاً طفولته باسمها , يبدو ذلك واضحاً في كل الأوصاف الطويلة التي سردها باموق: (البيانوهات لم يتم العزف عليها أبداً كان وجودها في بيوت اسطنبول مجرد موضة الخزائن المليئة بالخزفيات الصينية والفناجين والمجموعات الفضية والسكريات وعلب النشوق والكؤوس الكريستالية ومرشات ماء الزهر والصحون والمباخر ومساند الكتب المطعمة بالصدف وعلاقات الطرابيش)‏

شيئاً فشيئاً سيضعنا باموق في خضم طفولته حيث كان يحب كثيراً المساءات التي تجتمع فيها الأسرة كلها لتناول الطعام وعن ولعه وإرادته التي لا تنتهي ولا تنفد للحصول على مباركة المعلمة لم يكن يريد الإجابة عن الأسئلة فقط, بل إنجاز وظائفه وأن يحب من قبل المعلمة وأن يبدو مختلفاً وذكياً أيضاً, كانت المعلمة تقول: (كتفوا أيديكم, واجلسوا دون كلام, فأكتف يدي فوق صدري وأجلس طوال الدرس صابراً..)‏

على مدار المذكرات مدائح باموق لاسطنبول لا تنتهي وأحياناً تتصعد إلى حيثما هي مع أمه أو يخالط كيانه مستأثراً بأهم مفاصل ذاكرته, الطفل الذي تتعرف عليه لن يفاجئنا في مراهقته كيف كان يوزع أوقاته هوو أصدقاؤه أولاد الأغنياء - باموق من العائلات الغنية, حيث كانوا يقضون أوقاتهم وهم يصادمون المرسيدس والموستانع وال BMW إلى اسطنبول التي تبعد نصف ساعة أو إلى شارع بغداد في منتصف الليالي للرقص في الصالات وتهدئة الفتيات المتصايحات في أثناء الإطلاق ببنادق الصيد الأنيقة على زجاجات المياه الغازية والنبيذ الفارغة الموضوعة على مرتفع صخري يذهب إليه بقوارب السرعة ووسط اللهو الجماعي يضيع بشغف بين أصدقائه أولئك الذين يلعبون (البوكر) ويرقصون على أغاني (بوب ديلان) والبيتلز التحول الأهم بشخصية باموق ستغدو جلية بعد إنهائه للثانوية وبدئه بدراسة العمارة فيشرح لنا عن ولعه بالرسم كيف أنه لم يتخيل نفسه يوماً إلا رساماً ويتذكر أمسياته الحميمة في الطابق الأرضي لبيته حيث كان يرسم ويقرأ الكتب بنهم وكم كان لذلك الأمر دور في ابتعاده عن أصدقائه أولاد الأغنياء الذين يعتبرون كل من يقرأ خارج الكتب المدرسية (مثقفاً نخبوياً) ولهذا ينظرون إليه بشبهة ويعتقدون أنه معقد ويؤكد أنه بسبب سمعته السيئة تلك جذب اهتمام (الوردة السوداء).‏

هكذا يعرفنا باموق على حبه الأول, لم يذكر اسمها لكن اسمها فارسي وكان يعني الوردة السوداء فاطلق عليها هذا الاسم هرباً من ذكر اسمها وأفرد لها فصلاً كاملاً مليئاً بالتشويق حول غرامه البكر ووردته السوداء التي جعلها موديلاً لريشته في مرسمه هي ابنة عائلة ثرية أيضاً وابنة صديقة أمه في لعب البريدج ويطلعنا على مشاعره إزاءها(كما فهمت أنني عاشق, اكتشفت أنني صاحب تعلق إلى حد يجعلني أتجرجر على الأراضي).‏

يتحدث بصراحة عن نوبات الغيرة والارتباك والرعونة وردود الفعل العاطفية الصبيانية ولن نستغرب النهاية غير السعيدة لحكايته مع وردته السوداء حين يعلم الأهل بغراميات ابنتهم المبكرة يخرجونها من المدرسة فوراً ويرسلونها إلى سويسرا وسنشاركه مأساته فيما يقرأ آخر رسالة منها وهو في دكان المهلبية ويدخن سيجارة?! في سنته الثانية من كلية العمارة في عام 1972 بدأ يدخل مرات أقل إلى دروسه ولعب دوره فقدانه لوردته السوداء وبدأ يقرأ طوال اليوم ترك الرسم وقرر أخيراً ترك دراسته نهائياً: كنت أعرف في أعماقي أنني لن أكون معمارياً والأسوأ من هذا أرى أن ميلي للرسم قد مات تاركاً مكانه فراغاً مؤلماً أكثر..).‏

في الصفحات الأخيرة سندرك تماماً أن باموق كان محقاً بتسميته لمذكراته (اسطنبول) فالليالي الطويلة الباردة والدافئة الرطبة والجافة التي قضاها متجولاً وحيداً مدخناً شرهاً للسجائر بين حارتها وأزقتها والزوايا المظلمة مع رغبة الهرب والشعور بالذنب تتوهج وتخبو داخل عقله. وبعد أن مشى طويلاً عاد ذات مرة في منتصف الليل إلى البيت وجلس إلى الطاولة لاستخراج شيء ما من جو هذه الأزقة وكيميائها.‏

قلت: (لن أغدو رساماً, سأكون كاتباً) بهذه الصيغة وقع باموق مذكراته وختم طفولته ليبدأ طفولة من طراز آخر الطفولة التي قال عنها (بوسكو): (متأكد أنني حافظت على الكثير من طفولتي خلال شبابي وكل حياتي والدليل أنني أكمل حياتي بألم)?!.‏

***‏

الكتاب: اسطنبول (مدينة وذكريات)‏

الكاتب: اورهان باموق‏

الناشر: وزارة الثقافة - 2006‏

 

 

لينا هويان الحسن

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...