الأخ الأكبر والأخ الأصغر

23-06-2006

الأخ الأكبر والأخ الأصغر

تعلمت في الجامعة الاجنبية أن كل حوار، بل وكل كلام، يُشظينا. إنه يفندنا ويشرحنا، يشتتنا ويقطعنا. ثم إنه يعيد تركيب الذات وتعضيتها، أشكلتها وضبطها... يتلو ذلك، يتدفق منه ويتناضح معه، ان الحوار الذي يستحق اسمه لا يكون إلا بين مختلفين متساوين، بين أحرار متساوين يذهبون من الاعتراف المتبادل بحق كل طرف في ان يكون ما يريد ان يكون، وما يستطيع ان يكون.
2 مرّ اني كنت متعمشقاً على التجربة العربية (القومية، الناصرية) في <حوار> المذاهب الاسلامية، هذا، اكثر مما كنت ضليعاً متمهِّراً. لقد كان العاملون يعرفون اني قادم من التحليل النفسي، من علم النفس عند الفلاسفة... وبحسب ذلك المقتضى، فقد كنت انجح، او يهتمون بخطابي، فقط حين الكلام عن الحرية، عن حق كل المذاهب الفرعية والفرق <المطرودة> في فهم النص والتكاليف، وعن عدم حق الأخ الأكبر في احتكار الحقيقة والكلام باسم الدين الساطع ومن ثم في التهميش والطرد، في <قتل> الأخ الضّال او الخائف، المنفي او المسحوق، المؤتَم المجرّح او اللامرغوب فيه.
(...) وسلّموني قطاع الفرق <المخصوصة> حيث الغلاة او الباطنيون: البكطاشية، الشّبك، اليزيدية، القزلباش، الكاكائية، الباجوان... (الفرق الدينية في شمالي العراق، في الاسكندرون)... ولقد اتضح لي فيما بعد ضرورة ان تدرج في القطاع نفسه أجموعة اخرى، كان منها: الماخوسية، الجنبلانية، الشيخية، الرشتية (أسسها كاظم الرشتي)... وكذلك: البهائية، و...، و... لم ارفض هذه الغابة الكثيفة ذات المجاهل والغياهب. هربت الى الزعبي قائلاً: يا شيخ كل شيخ!! أنا جاهل وراغب: اجهل الموضوع، وأرغب في المعرفة... فقدّم لي تلخيصاً كان قد كتبه عن تلك الفرق بحسب وصف حامد الصراف لها. وحلّت المشكلة، وبقيت في الصف الثاني تاركاً الصفوف الأمامية للعارفين بالبواطن (را: كمال جنبلاط ومحمد علي الزعبي وعلي زيعور، البوذية...، التجديدة الاولى، الطبعة الثانية، دار البراق، ,2004 ص 277297)... ثم كان أن توجب القول بتأسيس علم مكرّس للفرق هذه (!).
2 لم يجدد كتاب <البوذية> هذا، الصادر في ,1964 إلا بعد مرور اربعين عاماً. لا ارد على هذا السؤال، ولا على التساؤل عن معنى اني لم اوضح او احصف صياغة الطرائق النفسية في العلاج الذي لربما انتفع منه لاكان، وشخصيات كبيرة اخرى في الستينيات وحتى أواسط السبعينيات (را: زيعور، الفلسفة النظرية والعملية في الهند والصين...، دار النهضة، 2005). وفي جميع الاحوال، فأنا اقدّم نفسي اني، في الستينيات، كنت اول من كتب في لبنان، وبالعربية، شيئا (مقالاً) عن التحليل النفسي. فحتى ال,1965 كنت قد نشرت تحليلات وعلاجات لشخصيات: فرويد، آدلير، يونغ، كانط، نيتشيه... وقد اعتبرت، أنا، منذ ذلك الحين ان ديكارت، هو نفسه وليس غيره، مهووس بالشك الباثولوجي وبالزيغان الجنسي انطلاقاً من تحليلي لأحلامه...
حوار الدوحة مع الفرع أو مع مصطفى غالب وعارف تامر
1 طرائق التعقب المعرفي تكون بالأحاديث الصريحة الشفافة، وهي غالباً ما تكون نادرة، قد لا تكشف المطمورات وتظهر المضمرات او المنسي والمقلق الغائب. وكي نهتك، او نعرف المضنون به او اللامصرّح واللامفصوح، فقد ينفع الاستفزاز، والتجريح، واعتماد الكلمات او المفاهيم التحريضية المستولدة الحاثة. لكن التحليل النفسي، هذا المنهج البوليسي بل غير الاخلاقي قد يكون لا بدياً من اجل معرفة محيطة وبطرائق المشافهة وإدراك المعيوش المستور والمستر عليه، عند المذاهب الفقهية اتي كانت توصف عبر التاريخ ظلماً وقسوة او طرداً وتقطيعاً بالأخ <الضال>، بأنها مذاهب <اسقطت التكاليف>، ووضعت موضع التنفيذ، او حيّنت وزمنت، المدلولات الباطنية المغالية في الابتعاد عن النبع والأرومة او السّنخ والأصل.
تعرفت، بواسطة محمد علي الزعبي (رجل كان مناضلا في سبيل الوحدة المذاهبية، والمعرفة الموسوعية بالمعتقدات والأديان وبالماسونية والاستسرادي) الى مصطفى غالب. كان هذا ال<مصطفى غالب>، بحسب الزعبي، شديد الايمان بالاسلام، وبكل مذهب ناهض ورفض الحاكم الجائر. وهذا، مع تشديد على ان ذاك المذهب هو فرع وليس هو دنياً مستقلاً، وغرفة من بيت واحد كاملة الانفتاح على بقية الغرف وبتكامل.
معقد وملتبس هو مكثف الذكريات وروحها حول نصيب الأخ الاسماعيلي من الميراث او حول الأخ الذي فقد مجده وخسر. اختلفنا، أنا ومصطفى غالب، حول معنى كلمة إمامة. فهو كان قريباً جداً من اعتبار الإمامة، او <الولاية الشرعية>، عائدة الى دائرة المقدس والغيب. وكان يحيل الحديث الى ان التصوف، في المذاهب الأكثرية، يفهم الولاية او الإمام بالمعنى الاسماعيلي نفسه... وكان العرفان، عند قمة ما يبلغه ويرنو إليه، يقدِّمه لنا الزميل المحاور، بمثابة بديل. وهذا يعني، بحسب ما كنت اقوله، انهم لا يسقطون قط خطاب الوحي الجامع والمشترك، والوعي الديني الأكثري، وأنا قد لا أرى ما يقدِّمه العرفاني الشاطح، قديما وبخاصة في فلسفة الدين المعاصرة، غير دقيق، وغير مخلص، ومفرِّق، وقاتل، وعدو... أنا كنت، دائماً، مع التفاهم والحوار بل ومع التضافر والتكافل بين أحرار متساوين، بين الأبناء الوارثين، بين ورثة النبي اجمعين وبغير تفضيل للأخ الأكبر على اخوته وحتى إن بدوا ضالين.
(...) وكان يستمع ذلك المعجب بقومه، وتراثه الديني والمذهبي، بلذة وابتهاج الى قولي حول حق الفكر الباطني بالوجود والاستقلال والحرية. وتزداد بهجته اذ اقول له: إن الفكر المغالي، والعرفاني، والرمزي والتعبّد الاستسراري، فكر معروف في كل الاديان والمعتقدات، فهنا نمط ارخي، او نمط اصلي، يجب ان نحاوره، او ان نحترم حقوقه وكيانه، ونفتح بمحبة خصوصياته واختلافه عنا... وكان العرفاني يقف غاضبا في كل مرة انقل الحديث الى محدودية حريته، والى حق الأكثري على الاقلي اي الأخ الأكبر على الأخ الأصغر. ومع ذلك كان، بعد استعادة الحصافة، يؤكد ما كنت احب ان اؤكد وجوده، كان يؤكد ان المذهب معتدل، ولم يسقط الجميع الشريعة والعبادات كما التمسك بالسّنة والجماعة والنحناوية الدينية المنفتحة.
حقه في الحضور والتعبير عن الذات، هذا الأخ الأصغر، الأخ المطرود والساعي للعودة، بداية ومقصود. كما ان حرية التعبّد وحرية فهم الدين والنبوة، الوحي والتأويل، لا تعني انه يحق لأحد تخطي كل حدود الحرية. وحقه في محاورة الأكثري والأرومي يمر عبر جدلية الوعي الديني المذهبي مع الوعي الديني العام. لكأن الامر هنا قائم على العلائقية الأفقية المتبادلة والمرنة، او مؤسس على العلائقية بين الذات والآخر: اعتراف متبادل، وإقرار بقدرة الحوار والشورانية على تأسيس الوعي الديني المنفتح على المستقبلي، وعلى مسؤولية الفرد عن الجماعة، وعلى حق الأمة عليه. فالاختلاف ليس المقصود، بل هو طريقة إضرام للفكر الذي يعيد تنظيم الحقل، ويطرح الانضمام، والتعاطف، والمحبة، والتواصل الأفقي التضافري... وكان يتفق الجميع، الكارهون للاستشراق، على ان ما تسعى إليه اوروبا (على سبيل الشاهد)، ولا سيما ما ترومه اميركا، وهو إسلام بلا تكاليف شرعية، علماني مطبق، بلا خصوصيات او ممارسات، بلا تاريخ، وبلا ارتباط مع الدول الاسلامية، او مع الاسلام في حاضره وفي المستقبل والدار العالمية. وما يتفسر ترويج الاجنبي للفكر الصوفي في الاسلام إلا من اجل هذا الهدف، ثم كنا نشتم ماسينيون مداح المذاهب الباطنية خدمة منه للاستعمار...
2 الإمامة تأويلية اساس في التصوف والعرفان، وفي الباطنية المغالية المؤوِّلة. والطرفان، هذان، متداخلان. لقد كان رأيي، اعرضه للحوار مع مصطفى غالب، يتلخص في ان الإمام عند الباطني او المغالي، وعند الصوفي المغالي اي العرفاني، منتوج اجتماعي، وظاهرة تتفسر داخل المجتمع اي بعوامل تاريخية وتطورات اقتصادية ايديولوجية متفاعلة مع النفسي والروحاني والحاجة للاعتبار الذاتي.
وأنا، من جهتي وبحسب تحليلاتي، كنت أرى ان الإمامة، او الولاية، واذ هي قابلة لان تتفسر تاريخيا اي كأي ظاهرة سياسية اجتماعية فلا ضرورة لان تعطى صبغة الاسطرة والقداسة والغيبية.
في مرات مريرة، كان شريك الحوار يقبل بالتفسير التاريخي، لكنه كان يرفض التغيّر، او تغيير الدفة حفاظا منه، على حد قوله، على اركان معتقده وتراثه، وعلى أسلافه ومفردات وعيه التاريخي المخصوص.
وردي، آنذاك، ان التغيير تطوير وليس خروجا من دائرة المذهبي والحمية الطائفية، او من الخصوصي والحميمي. لا احد طالب احداً بترك خصوصياته، او بالقطع معها. فاللاوعي يقاوم كل تغيير قطعي او تنمية، والمسبق والتاريخي والايديولوجي قطاع لا تقطعه ارادة بتارة، او مجرد الرغبة والنية الصادقة. الإنسان اعقد، والحاضر يقوده الماضي، او يكوّنه ويتحكم فيه، والسياسة سلطة متسرِّبة الى اعمق الاعماق، والغوريات الايمانية.
3 ربما تكون المهدية استمراراً للقول بالإمامة او بالخلافة وحتى بالنبوة والوحي. فالمهدية معروفة جيدا او قليلا في كل الاسلام. وهي ترميز الأب المثالي والعدالة الكاملة المنشودة والصورة المقدسة للسياسي، او هي فكرة موجودة في الأديان والحضارات. وعلى هذا، فإذا كانت الولاية رمزاً، او معتقداً سياسياً ومنتوجاً اجتماعياً ثقافياً، فإن القول بالمهدية لا يخرج عن ذلك التفسير التاريخي. لا بد هنا من استطراد: هنا ذكرياتي تبدو ثقيلة، وقريبة من ان تكون بحثا في قطاع فلسفة الدين إبان المنتصف الثاني للقرن الماضي. هذا صحيح! كيف، اذن، اتبرر؟ ماذا عليّ ان افعل كي اجعلها مستساغة؟ جوابي جاهز، و<متأصل>، ومفاده اني اعرف جيداً ان لا احد ممن يعرفني سيقرأ هذه الذكريات. والذي سيقرأ، سيقرأ بسرعة. حتى اذا امتعض ذلك القارئ او غضب، فليعلم انه متعصب، وغير ديموقراطي، او لا يحترم آراء الناس وحقوقهم. بعد هذه الفرصة للتنفس، والارتياح، اعود الى تلخيص المحاورات والتحليلات حول المهدية. أنا، هنا، اعرض ما اتذكر اني كنت اقوله واحاوره واسعى إليه، منطلقا من معرفة ناقصة بالتاريخ العربي الاسلامي، وبالفقهيات، ثم من وعي بأني اختصاصي نفساني وذو قدرة على الانصات والقراءة كبيرة، وبأني مدافع عن الابن الاصغر، عن المغبون المطرود (را: عقدة الأخ الأصغر).
أما قول الطرف الآخر فهو، بمحبة اقولها او ليس بقسوة وتعنت، شعبوي اي تكرار للموروث، للذائع للتقليدي الساكن... الاهم، بعد كل ذلك، هو ان المهدية خطاب سياسي في الاسلام الحامي المخلص، وفي الإمام المثالي الرمزي، وفي السياسة الكاملة المتخيلة.
الخليفة الكامل الفاضل او المهدي القادم، في الفكر السياسي المثالي عبر التاريخ الاسلامي، تعبير عن الاب المثالي الذي يحمي أبناءه، ويعدل بينهم، يوفر لهم الاطمئنان والاستقرار، الاستمرار والتوكيد الذاتي. كما هو صورة تعويضية، وتغطية لمرارة والعلقمية في الواقع، ورد دفاعي في وجه الظالم والمستبد والسياسي الظاهر. هنا ظاهرة نكوص الى الفردوسي والأمومي، الى الحنان المفقود والحب الموؤد... (را: أواليات الدفاع).
وهنا أواليات دفاع ضد مشاعر الخصاء والدونية، واوضاع المجتمع القمعي، واحتجاج على الشورى المرفوعة الملغاة. فالتخيّل هنا يوفر البلسمة، والأمل، والشفاء الناقص الوهمي العطوب من الانجراحات والاحباط والخوف من المستقبل.
هل انتقل التذكر هنا الى دارسة في الرمزيات، او الى نظر في الصحة النفسية للفرد او الفئة الاجتماعية او للأمة والفكر والتاريخ؟ يكفي ان ننتبه الآن الى ان الانسحاق يثير إما التمرد، وإما ردود فعل تهدف الى استعادة التكيّف مع الشروط او الاستقرار والتوازن، والى بث الأمل اي الى مضادات اليأس، وقاهرات القنوط من رحمته تعالى.
أما معضلة اسقاط التكاليف فلا معنى للنظر فيها بمقياس الصدق والكذب، والقول بصدقها او بفسادها عنيف وصادم. كنّا نتصادم، في كل مرة تحاورنا، أنا والفكر الآخر، انطلاقا من الادراك الثنائي البتار لمقولة او مشكلة. ذاك ان المدافع عن رأيه بعناد وتعصب لا يلبث ان يتجابه مع عناد الرأي المناقض، وذاك ما يقودهما معاً ومباشرة الى حفرة معرفية، او يضعهما امام عقبات تزخر في الفكر الدوغمائي الاحادي (را: منطق التضاد والتناقض، منطق الثنائيات، الإمّا وإمّاوية).
في دفاع كل منّا عن موقعه كان كل منا <يكفّر> الآخر، ويسفل تفسيره للدين والوحي والمعجز. فالقول الاحادي المستبد يستولد عند الآخر احادية واستبداداً، ويبتلي الاثنان معاً بالانغلاق الذاتي والتعصب، وبمعاداة الحوار وحق الاختلاف، بل والحرية والعقل.
قال مصطفى غالب: لا صدق ولا حقيقة في تلك الفرية. التهمة هنا شنيعة وحاقدة، و...، و... وكان جوابي اكتب تأكيدك للتمسك بالكتاب والسّنة واحترام الألفة والانضمام، للتسامح والصفح، للاخاء والمشاركة الديموقراطية.
أنا، اوردت، اعلاه، ذكرياتي. ومرت اقوالي، وليس اقوال المحاور الآخر، ضمن تلك الذكريات ذات الصلة بالفكر الباطني العائش ضمن النحن المسلمة والاسلامية. لعلّي لم اكن، في بعض الزوايا والنقاط، او كأني لم اكن واضحا، لكني كثفت، واحترمت الحقوق والمكانة التاريخية لكل <قطاع>، او <طائفة> دينية كانت أم اجتماعية، لكل أخ وللنصيب المتساوي بين الابناء الوارثين ولحق كل منهم في رفض استبداد أخيه الأكبر المحتكر لخطاب الأب وللحقيقة والسلطة (را: حوار زيعور ومصطفى غالب وعمر فروخ، في: مجلة الباحث، العدد كانون الثاني حزيران، ,1987 ص 46.45 ثم ص 102112).
4 الانصياعي يقهر الحداثي والتنويري في كل حوار قام بين الصراطي وعارف تامر، القطب الآخر لكن الأعند. كان مع ع. تامر قليل الفعالية في كل مرة نصل عندها الى <الخط الأحمر>(!)، الى ضرورة اعلان القطيعة مع الذاكرة الخصوصية والمعتقدات المتعصبة الشبيهة بالسدود. أنا اقبل بأن تكون بعض المذاهب قولا في الإنسان والمذهب الإنساني النزعة والرؤية. لكني لا اقبل ذلك الموقف الذي يلغي ويُعدْمِن، يهدم ويدمر، يقتل ويبغي، تسلب كل قيمة وينفي كل معنى... إزادة الاجتثاث والإهلاك والمحو المطلق ليست قادرة، ولا تستطيع ان تكون منيعة منتجة ما دامت لا تهتم إلا بالتحطيم والتكسير والإفناء (را: الفكر العدمي المنزع والمقصود).
وبكلام ادمث، كان الحوار مع عارف تامر غير مجد إن لم نبدأ بالاعتراف الواضح بأن ما هو تراث يحافظ عليه، ونكدّس فوقه ما يعززه ويصونه ويؤمن نجاعته واستمراره. ولعل الاجدى، بحسب ما كنت اعمل له وأتذكّره اليوم، كان إعادة قراءة ذلك التراث الخاص متحاوراً مع العام الراهن، ثم مع الارومة ومن اجل المستقبل. بذلك الحوار فقط كان يمكن لنا جميعا ان نعيد القراءة بحيث تتدفق بقوة الايمانات بالعقل والحرية والتسامح، باحترام الآخر مهما اختلف عنّا، بالديموقراطية او الشورانية، وباللاتعصب والانفتاح على الحداثة او على الإنساني في الإنسان والدين والتديّن.
لكم هي تدهش كثافة العرفاني والمغالي في الفِرق المخصوصة. وأنا، لا اظن ان تأثير الاسماعيلية في تأسيس الفِرق الباطنية معروف الى حد كاف، او معرفة واضحة كاشفة. وتأثير الاسماعيلي، في المذهب الجعفري نفسه، كثيف وملتبس، عميق وشديد، والأهم هو انه بحسب تحليلاتي وخبرتي تأثير منسي، مطمور، غير معترف به، ولا يريد احد ان يفكّر فيه او يفصح عنه بشفافية وصراحة.
9 تخالجني ذكرى اخرى عن غلطة ثم غسل ومحو لحادثة تشبه الزلة اللسانية ذات جلسة حوارية كنت إبانها صموتاً مستمعاً: قلت كلمة غير دقيقة، متسرعة وغير سديدة، في محاكمتي للمذهب الاسماعيلي. ثم اعتذرت. استاء وامتعض الزيدي، ذلك الشِّيعي المعتدل جدا او الصراطي، وقال: هم علماء حملوا العلم في الاسلام طيلة قرون. لا ننسى الفارابي...، وقبله اخوان الصفا، ثم ن. الطوسي وابن عربي، ثم... لقد كانوا، على صعيد الفكر والسياسة، أنشط مذاهب المعارضة والرفض. لا بأس! لكنهم كانوا غارقين في التأويل المبالغ (قارِن: القرامطة، وما الى ذلك من عرفانيين او صوفيين).
جلسة ما قبل مطالب الجعفري والزيدي من الميراث
الفرع الاسماعيلي أخ او ذات. نحن نحترم آراءه. لكننا لم نكن نوافق على كل ما كان يقوله، او يؤمن ويرغب به. نحن نحترم كل فهم للاسلام، دون ان يعني ذلك الموافقة. نحن نؤمن بالانفتاح بين غرف البيت الواحد، ونبقى برغم ذلك متمسكين بالشريعة السمحاء والتكاليف الدينية الكاملة مع اجتهاد وتدبر للواقع والعقلانية وروح العصر. ثم إن احكامنا على اعمال مصطفى غالب لا تزال اليوم، كما كانت في حياته وبين يديه، تتلخص بما يلي:
1 رفضنا لاسقاط مصطلحات راهنة، ونظر راهن، على التاريخ.
2 رفض الكتابة التاريخية التقريظية. المديح إنشاء وليس اخباراً. دراسة الوقائع التاريخية ليست ثناء على ما نريد وعلى من نحب، وليست هي اغراق الخصم في التهم والسلبية. لقد وقع غالب في مزالق كان يراها بنفسه عند اخصامه.
3 انتظارنا لمستندات ووثائق موضوعية وكافية كي نتقبل تأكيداته الكثيرة، والشديدة الوثوق بنفسها بلا كبير سند، بأن كاتب رسائل الاخوان هو الإمام احمد بن عبد الله... بن اسماعيل، وبأن المرأة في القرامطة او عند اخوان الصفا كانت المساوية تماما للرجل، و...، و...، وبأن الثورة كانت اجتماعية اقتصادية اي اشتراكية وإنسانية المنزع والمبتغى.
4 يؤكد ان الغزالي كان كالحسن بن الصباح نظراً وسلوكاً ومعتقداً. ما انفصل أبو حامد عن الحسن، صديقه ونظيره وزميله في المعتقد، الا بعد ان تفوق الحسن هذا. ويكون الغزالي، بحسب تلك النظرة، قد تحول الى ما تحول إليه وكتب تحت تأثير الحسد او الرغبة بالتفوق، او الأنانية. لم يكن يقدم لنا مستندات، بقدر ما كان يعد بتقديمها. فالمرحوم مصطفى غالب ادى خدمات جليلة، وترك لنا كتباً محققة، وأخرى بحثية. وأهم الافكار التي اهتم مصطفى غالب بالتشديد عليها، وإظهار تاريخيتها وصوابيتها، هي ما يلي:
1 إن مؤلف رسائل اخوان الصفا، والرسالة الجامعة، هو الإمام احمد بن عبد الله (بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق)، وأن تحريفات كثيرة ادخلت على تلك الرسائل.
2 ان الحسن بن الصباح ثائر وبطل ومسلم حنيف، قدم للأمة وللدين خدمات ينكرها المتعصبون والذين يريدون استخدام التاريخ لاغراض ذاتية اي للتغطية. والتحلية، ولمصلحة مذهب إسلامي واحد لا لمصلحة الاسلام ككل او للدراسة الموضوعية والنظرة النقدية المستوعبة.
3 إن الفاطميين، والقرامطة والاسماعيلية، في صلب الاسلام ومجاهدون كانوا حماة، وبناة، ومناضلين. وقد غطى النظر التاريخي الكليل خدماتهم خدمة لمآرب، ولغرضية او ميول ايديولوجية محضة.
ترحيب الأخ الأكبر بأخيه الخوارجي الإباضي
تعرفت، في اوائل الستينيات، في باريس، بتوسط فهمي جدعان، الى مغاربي إباضي/ خوارجي. سألت فهمي: هل ادعوه الى مأدبة حوار الطوائف او الاخوة المغبونين، او الهاربين المبتعدين؟
كلا! لا مشكلة مع الخوارج. ليسوا بعيدين، انهم يقيمون الشعائر. (...) فيما بعد، اخبرني احد الجامعيين، وليس هو شهما ولا هو فهيم، عن أسرة البوسعيدي في احدى الدول العربية. ودهشت، أنا، من جهلي او بسببه. فقد قال لي قليل الفهم: انهم يحبون الزيدي الجعفري، بل ويبدو انهم غير ناصبة، غير رافضين لمن صرعوه، لعليّ بن أبي طالب.
تذكرت الزعبي يشرح، في احدى جلسات <التقريب> بين الطوائف، معنى البوسعيدي لم يكن واضحا عندي ذلك الدمج بين الإباضية والبوسعيدية والقرامطة والجنابي والاسماعيلي.
قد لا يكون سديداً، وإن كان جمّ المنافع، تلخيص ذكريات عن محمد أركون كبطل يرمْزن الاسلام بعامة، ويمثل الذات الفرعية. لقد تراجعت في ال,2000 عن اعتباري له ولمترجمه الى العربية، دون كيشوت وتابعه دي بانتا. لقد تحوّل أركون الى صنديد يقارع بمنعة وسيطرة... ولعله يصفح عني او يبتسم.
لكني اتعجب إذا قال لي احد إن اركون ابتسم فعلاً لذلك الاعتبار المسقط عليه.

 

علي زيعور

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...