الإرهاب البيئي وآلة الحرب الأميركية

22-03-2006

الإرهاب البيئي وآلة الحرب الأميركية


- حقائق تاريخية
- شهادات ورؤى غربية
- الممارسات الخاطئة
 
منذ فجر التاريخ الإنساني وظهور آدم عليه السلام على وجه الأرض ومشاعر الشر وحب التملك والسيطرة معان لا تكاد تفارق الحياة اليومية الإنسانية، لذا لم يكن غريبا أن يُقدم قابيل على قتل أخيه هابيل عند أول خلاف، كما لم يكن غريبا أن ترتبط منذ ذلك الحين مفاهيم القوة بالبطش، والسلطة بالإجبار، والمال بالتسلط، هذا رغم تعاليم الأديان المختلفة ونصائح الرسل والأنبياء بالعفو عند المقدرة وبمراعاة حدود الغير مهما علا الجاه وتعاظمت القوة.
 
وهذه الحقيقة تبدو جلية للغاية عند مراجعة تاريخ الإمبراطوريات والقوى السابقة، فمعظمها لم يسخر قوته وسلطانه في زيادة رفاهية وتقدم الشعوب والمجتمعات المحيطة كما هو مفترض، بل سخرها في بسط النفوذ والتسلط وفي تحقيق أطماع توسعية، لم تكن هناك حاجة حقيقية إليها في معظم الأحيان.
 
والولايات المتحدة الأميركية باعتبارها قوة عظمى وقطبا أوحد حاليا، ليست استثناء في ذلك، بل يمكن القول إنها قدمت ولا تزال تقدم أمثلة صارخة على الإفراط في استعمال القوة، وحل الخلاف بالسحق والتدمير، وإخضاع إرادة ومقدرات الشعوب لإمرتها وسلطانها بغير حق أو مرجعية. وفي هذا الإطار يمكن القول أيضا إنها من أكثر الدول ممارسة لمفهوم الإرهاب البيئي، وذلك بتعمدها استخدام البيئة والموارد الطبيعية كسلاح ضاغط في معظم، إن لم يكن كل، نزاعاتها وحروبها السابقة.
 
ولعل الجرائم التي ارتكبتها بحق البيئة والإنسانية في كل من اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق إبان حروبها المختلفة مع هذه الدول، تؤكد تلك الحقيقة، وتبين أن السياسة الأميركية الخارجية لا يعنيها سوى تحقيق الغاية مهما كانت قسوة وبشاعة الوسيلة.
 
حقائق تاريخية
"خلف المبادئ تنزوي الآثام"، قول هو خير ما ينطبق على شعارات "نشر الديمقراطية" و"حرية الشعوب"، و"القضاء على الإرهاب" وبقية الشعارات الأخرى التي يلوكها صقور أميركا كلما احتاجوا لتبرير اعتداءاتهم وحروبهم المتتابعة على شعوب العالم المستضعفة.
 
فخلف هذه الشعارات الراقية وغيرها من دعوات "التحضر" الأخرى التي استخدمت من قبل ينزوي تاريخ حافل بأبشع الانتهاكات البيئية، وأسوأ الممارسات الإنسانية، ويتجلى هذا من حقيقتين تاريخيتين لا يمكن أبدا إنكارهما:
 
- الحقيقة الأولى هي أن أميركا أكثر الدول استعمالا لأسلحة الدمار الشامل سواء كانت نووية أو كيمائية أو بيولوجية، ففي الحرب العالمية الثانية، لم تتورع آلة الحرب الأميركية عن دك ناغازاكي وهيروشيما بالقنابل النووية، في أول استخدام من نوعه لسلاح الإبادة النووي، وبالطبع لسنا هنا بحاجة لتوضيح ما خلفه ذلك من آثار مدمرة وتداعيات بيئية وإنسانية مروعة لا تزال اليابان تعاني منها حتى الآن.
 
وفي حرب فيتنام لم تتردد نفس الآلة في إبادة حقول الأرز والمزارع والغابات الفيتنامية بما فيها من مجتمعات بشرية وأنظمة بيئية بواسطة مبيدات سامة ومحرمة دوليا، وذلك بحجة القضاء على مليشيات "الفيت كونج" المناوئة.
 
ولا يخفى على أحد أن آثار تلك المبيدات لا تزال ممتدة حتى الآن، سواء في أجساد ودماء الأجيال الفيتنامية المتعاقبة، أو في تربة فيتنام الخصبة، التي أحالتها المبيدات إلى أرض بوار مقفرة، لا رجاء ولا أمل في إصلاحها.
 
وفي حرب البلقان وما تلاها من حروب في أفغانستان والعراق (حرب الخليج الأولى والثانية)، لم يتورع قادة الحرب الأميركيين عن استخدام أسلحة اليورانيوم المخصب، وهي من أشد الأسلحة فتكا ومن أسوإها أثرا نظرا لامتدادها لمناطق شاسعة غير مناطق القتال، ونظرا لديمومة آثارها البيئية قرونا طويلة بوصفها من العناصر المشعة، ما يعني بشاعة تأثيراتها ودمارها للبيئة وللإنسان.
 
وأخيرا فإن إقدام آلة الحرب الأميركية مؤخرا على إبادة مدن عراقية كاملة في الفلوجة والنجف والرمادي والقائم وغيرها، وأخذ الصالح فيها بذنب الطالح، وما تبع ذلك من تعتيم إعلامي رهيب ومتعمد، سواء عن نوعية الأسلحة المستخدمة أو عن حجم الدمار الناتج، يوضح أن الإستراتيجية الأميركية في الحروب لا تهمها المبادئ ولا تأخذ في حسبانها أو حساباتها أي اعتبارات إنسانية أو بيئية.
 
- الحقيقة الثانية تتلخص في أن أميركا هي أيضا أكثر الدول مخالفة وتنصلا من الاتفاقيات البيئية والإنسانية الدولية، بخاصة في عهد بوش الابن، والأمثلة على ذلك أيضا كثيرة وعديدة.
 
فعلى مستوى العمل البيئي الدولي، قدمت الإدارة الأميركية الحالية مثالا سافرا على كيفية التنصل من الالتزامات والاتفاقيات العالمية المقررة لحماية البيئة وتخليص الأرض من إحدى أكبر مشاكلها، ألا وهي مشكلة الاحتباس الحراري، وذلك عندما انسحبت من مبادرة كيوتو التي تهدف للتقليل من آثار تلك المشكلة المتفاقمة. 

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أقدمت تلك الإدارة أيضا على تحريف تقرير رسمي صادر عن وكالة حماية البيئة الأميركية بخصوص الاحتباس الحراري، وذلك لكي يتناسب مع موقف الرئيس بوش المناهض لمبادرة كيوتو والمتوافق في نفس الوقت مع مصالح شركات البترول والطاقة الأميركية.
 
ومن الممارسات السافرة أيضا ما كشفت عنه مؤخرا وثيقة كانت موجودة ضمن أرشيف الوثائق السرية الأميركية بأن البيت الأبيض كان على علم باستخدام بغداد أسلحة كيماوية في حربها على إيران، فيما كان يندد بذلك في العلن.
 
أما على مستوى العمل الدولي العام، فقد تمنعت الإدارات الأميركية المتعاقبة أيضا عن التوقيع على عدد من الاتفاقيات المناهضة لجرائم الحرب واستخدام أسلحة الدمار الشامل وغيرها من أدوات القتل.
 
فمعاهدة حظر استخدام الألغام المضادة للأفراد، وهي الاتفاقية التي اعترف بها حتى الآن أكثر من 150 دولة على مستوى العالم، رفضت أيضا إدارة بوش بشكل قاطع وحاسم التوقيع عليها والعمل بها، رغم أهدافها الإنسانية البحتة.
 
واتفاقية حظر الأسلحة النووية لم تسلم هي الأخرى من الفيتو الأميركي، حيث كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة، من بين 147 دولة، التي اعترضت عليها أثناء اقتراع لجنة الأمم المتحدة لنزع الأسلحة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مما أبطلها وقوض العمل بها.
 
وفي نفس الإطار كان بوش الابن قد رفض في بداية عهده الاستمرار في اتفاقية الحد من انتشار الصواريخ الباليستية الموقعة مع روسيا، ما يوضح مقدار استهانته بمقدرات العالم وأمنه.
 
والموقف نفسه لا يختلف كثيرا عند الحديث عن موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة من اتفاقية حظر استخدام الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية، والحجة دائما واحدة، وهي الحفاظ على مخزون أميركا الوفير من هذه الأسلحة، وحاجة قواتها إليها في حروبها الجارية واللاحقة.

شهادات ورؤى غربية
لا تُعد الأحداث والمواقف التاريخية المذكورة آنفا هي الدليل الوحيد الذي نستند عليه في اتهام أميركا بممارسة الإرهاب سواء كان بيئيا أو سياسيا، بل هناك أيضا شهادات ورؤى لا حصر لها سواء من كتاب أميركيين وأوروبيين أو من شخصيات عالمية بارزة، ولنراجع معا بعض من هذه الشهادات، لنرى مدى الضيق والمعارضة الذي تقابل به السياسة الأميركية الخارجية.
 
أولى هذه الشهادات من الإعلامي اليهودي جون بلجر، الذي عبر في مقال له نشر في ديلي ميرور قبل غزو العراق مباشرة بعنوان "الأيدي الملطخة بالدماء"، عن استيائه الشديد من إدارة بوش قائلا "إن النخبة التي تحكم البيت الأبيض حاليا هي بمثابة الرايخ الثالث لهذا القرن!"، مضيفا "أن كل ما فعلته هذه النخبة هو أنها عجلت من حركة الإرهاب الأميركي للعالم الذي لم يعرف هوادة خلال الخمسين عاما الماضية، بدءا من إسقاط القنبلة النووية على اليابان، مرورا بغزو عشرات البلدان المسالمة، مباشرة أو بالوساطة، وحتى سحقهم للديمقراطية والحرية في أي مكان تصطدم فيه مع مصالحهم، مع نهمهم البالغ في استنزاف ثروات العالم".
 
وفي معرض آخر من المقال يضيف بلجر "إن عاقبة السكوت على ما يدبره بوش وبلير - يقصد بخصوص غزو العراق- ستمتد إلى ما بعد الهجوم على العراق ولن تنتهي عنده، فواشنطن تخطط للاستيلاء على الشرق الأوسط بأكمله، لتبدأ عصرا جديدا من الإرهاب يضاف إلى إرهابها الموجود أصلا".
 
وفي كتابه الجديد "ديمقراطية القلة" يعبر مايكل بارنتي، وهو كاتب أميركي من أصل إيطالي، عن نفس الرأي بقوله "إن الولايات المتحدة التي تشن حربا عالمية على ما تسميه الإرهاب، هي دولة الإرهاب بعينه".
 
وفي معرض آخر يضيف بارنتي "أن القادة الأميركيين دعموا وتورطوا في حروب وحشية في أنحاء متفرقة من العالم، مما أدى إلى قتل مئات الألوف من الأبرياء"، مشيراً إلى أن "مثل هذا النهج عمل خاطئ وغلطة لا تغتفر".
 
وفي مقال له بعنوان "الكارثة النووية.. صناعة أميركية" يبدي الكاتب الأميركي اليهودي نعوم تشومسكي استياءه من معارضة إدارة بوش لاتفاقيات حظر الأسلحة والتجارب النووية، مشيرا إلى أن هذه السياسة ستضر كثيرا بسمعة ومصداقية أميركا في العالم.
 
وفي نفس الإطار نجد مايكل مكجواير المحلل السابق في حلف شمال الأطلسي لا ينفك عن التحذير من أن السياسة الأميركية الحالية بخصوص الاتفاقيات النووية ستدفع العالم لا محالة إلى نفق مظلم لا نهاية له.
 
وفي مناسبة أخرى غير سياسية نجد شيلا واط كلوتيه، رئيسة اتحاد شعب ألانويت، الذي يمثل سكان المنطقة القطبية في آلاسكا وكندا وغرينلاند وروسيا، تصب غضبها على سياسة واشنطن البيئية قائلة "إن الولايات المتحدة بتنكرها لبروتوكول كيوتو ورفضها خفض انبعاثاتها من ثاني أكسيد الكربون، تنتهك الحقوق الإنسانية لشعبنا، وتتسبب في إهدار مقدراته وبشكل قد يساهم في انقراضه واختفائه أبديا من الوجود".
 
هذه عينة، ليس إلا، من بعض الآراء المعارضة للسياسات الأميركية، بيد أن الأمر لا يقتصر على هؤلاء، فكل يوم يتكشف للعالم زيف الادعاءات الأميركية وكذب دعوات التحضر التي ينادي بها صقورها، وكل يوم ينضم إلى المعارضين لسياسة أميركا الآلاف والآلاف، سواء كان هذا على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات ومنظمات مناهضة الحروب ونشر السلام وغيرها من المنظمات المشابهة.

الممارسات الخاطئة
نعت الممارسات الأميركية بالإرهاب سواء في شقها السياسي أو البيئي ليس إذن ادعاء بقدر ما هو حقيقة مبنية على دلائل تاريخية وشهادات موثقة لنفر غير قليل من أهلها، لكن الحقيقة الأوضح على أي حال هي أن أميركا، سيدة العالم والقوة العظمى حاليا، لا تتصرف بعظمة وليس في أفعالها أي حكمة أو رقي.
 
فليس من الحكمة مثلا دهس مقدرات وموارد الشعوب من أجل استعراض القوة وفرض الهيمنة، وليس من الرقي مصادرة إرادة الشعوب وفرض الوصاية عليها من أجل تحقيق شعارات مشبوهة وواهية.
 
وعلى هذا النحو تقدم أميركا أبلغ مثال على إساءة استخدام القوة، وعلى إدارة الأمور العالمية بطريقة انفرادية ودكتاتورية رغم شعارات الحرية والديمقراطية التي توزعها وتتغنى بها يوميا على آذان ومسامع شعوب العالم.
 
كما لا يمثل بن لادن ورفاقه الخطر الأوحد على العالم حاليا، بل يشكل صقور أميركا خطرا مماثلا، وذلك بمعارضتهم جميع الاتفاقيات الدولية، البيئية والإنسانية، التي لا تصب في مصلحة بلادهم، وبإصرارهم على استخدام أسلحة الدمار الشامل في كل مأزق تضع أميركا نفسها فيه.
 
والواقع إنه لا يوجد فارق كبير بين الجماعتين، فكلاهما يشكل تهديدا لمقدرات واستقرار الشعوب، وكلاهما يسيئ استخدام الأداة المتاحة لديه، الجماعة الأولى بإساءتها استخدام الدين، والثانية بإساءتها استخدام القوة.
 
ليس إذن من الفطنة مطالبة بن لادن وحده بالعودة لصوت العقل والحكمة، بل إن صقور أميركا مطالبون أيضا بإتباع هذا النهج، كما أن أميركا نفسها مطالبة بأن تكون قدوة للقوة ومثالا للتحضر الذي تدعو إليه.
 
أما النصيحة الواجبة للقطب العالمي الأوحد فهي اعتبار دروس وعظات الماضي، لأن تجارب الإمبراطوريات والقوى البائدة توضح أن رحلة الصعود إلى الهاوية تبدأ بالتمادي في الظلم وبالإفراط في استخدام القوة.

 

وحيد محمد مفضل
       الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...