لكن هل مات المسيح؟

27-06-2006

لكن هل مات المسيح؟

الانسان مثل خيمة في مهبّ الريح تشدّ حبالها محبة الناس ويقتلعها كرههم أو يرميها، لكن قيمة وجودها بالروح التي تسكنها، وحجم هذه الروح بحجم محبتها العملية للناس. ومع تقدّم المعرفة يصبح الجسد روحاً هندسية، جماله في العمق.
في هذا العمق يسكن المسيح – المحبة، وهو ما يجعل الحياة تستمر، لا الله المقتول في تماثيل الطين أو تماثيل الناس الذين ظاهرهم مؤمن وتصرفاتهم الانسانية ميتة تحبس المسيح في القلب في القفص الصدري. وقد تجعل الله سجيناً في الاماكن الدينية. إن أحببته تذهب اليه لزيارته وتبقى حراً وكافراً في بعدك عنه.
إن كان الله خارجياً، فهو يشكّل ضغطاً عليّ، وإن كان داخلياً فأنا أوسع منه فليس بالضرورة أن أتبعه فيحدّ من حريتي. إن كان أسير أماكن محدّدة أطالب بحريته، أو بابتعادي عن أسره لأكون حراً.
أما اذا كنت وغيري أجزاء في صورة المحبة الكونية فلا يستغني واحدنا عن السلام مع الآخر حتى لا تضيع معالم الله الجميل المجسّد فينا بالمسيح (لا بمسيح الطوائف الدينية التي تدّعي باختلافها أن المسيح المطلق الجمال متفاوت الصور وبالتالي متفاوت الجمال، أو ترفض وجود غيرها فتلغي فيه أو تقتل فيه أو ترفض فيه وجود المسيح فتكفر به).
المسيح – جسد كلمة الله يحمل مشروع عولمة المحبة، ونحن أولاد الله – المحبة – الآب:
- إن كان الله هو المحبة المطلقة فهو خالق العالم لأن المحبة تقتضي حوار الآخر، وقمة المحبة تزاوج المتناقضات، وبالتالي خلق الجديد وقمّة خلق الجديد إيجاد الحياة من العدم. أما المتشابهات فلا تؤدي الى الخلق ولا الى النمو بل الى السلام مع الموت لا الحياة.
والحياة بحر والاختلاف ملحه، انعدام الاختلاف يُغرق فيميت وكثيره يجعل البحر ميتاً.
- إن كان الله هو المحبة المطلقة فهو غير موجود في الحياة، لكن الحياة تسعى اليه، ولن نعرفه بالجسد بل في داخلنا ما فوق الجسدي الميت. وربما يكون الموت هو بوابة معرفة الله لأن تلاقي الارواح في فضاء اللانهاية لا يعرف كره الاصطدام بل محبة اللامحدود.
ونحن اذا رفض أحدنا اختلاف الآخر فإننا نسعى في الموت. ولنعود الى الحياة تركع الروح طالبة من المحبة الكبرى أن تسقيها أماناً لتكبر حتى تستوعب حجم الآخر مع حجمها مهما بَعُد. وربما يركع الجسد مع الروح التي يحملها؛ وهو مثل الكأس لا يقدّم الى الآخر ميتاً فارغاً من روح المحبة لأن قيمة الإناء بما يحمل.
وعلى ذلك تسحب حواسنا الظاهرية الآخر من موته في عدم معرفتنا له إلى حياته في حواسنا الداخلية التي تحدّد كيفية إدراكنا له ومساحته فينا كنقيض قاتل يقيّدنا ويحدّنا بمساحة كرهه أو كنقيض مكمّل لنا يوسّع حدود حريتنا اذ نتخطّى أنفسنا اليه بتقبّله بمحبة. وأقصى رفض للمحبة قتل المسيح على الصليب.
لكن هل مات المسيح؟
ما بين دعاة التكفير والسلطة الجائرة وتدجين الشعب حكم على المحبة بالاعدام على الصليب.
كرسي السياسة قتلت المسيح وما زالت تقتل الانسان في الحاكم والمحكوم حتى اليوم.
صُلِبَ المسيح المعتقل السياسي (ملك اليهود) الكافر (يدّعي انه ابن الله) وصلب معه لصّان.
قبل السياسيين ورجال الدين آنذاك والشعب التابع، قبل كل هؤلاء ان كان الصلب جريمة في حق المسيح، فإن المسؤول الاول الذي كان بامكانه منع الأمر هو الله. لأنه الوحيد الذي ناداه المسيح ليساعده، فاتخذ موقفاً سلبياً ولم يرفع عنه حتى آلامه. وهو الحاكم المسؤول الذي يطلب منه المسيح العفو عن الصالبين. هو من ساعد الأقوى (الصّالبين) على الاضعف (المصلوب) لأنه ما من فكر يعفيه من التدخل لرفع الألم، على الأقل، عن يسوع المسيح... إلا اذا كان المقصود من الصلب أمراً معنوياً غير مادي.
إن كان الجسد وآلامه هو المقصود من الصلب فلننس الأمر، لأنه من غير المعقول ان يبقى منذ ذلك الحين حتى عصرنا الا الآثار الميتة والمعنويات المجردة والافكار لا الأجساد. وبالتالي ذلك الجسد مات وانتهى بطريقة ما صلباً او غير صلب. والاستنكار لتمويت المحبة هو المطلوب ان يبقى حتى الآن.
استنكارنا للصلب يكون بعدم السماح للمحبة بأن تموت، بل تجسيدها بأعمال عصرية وليس بطقوس وشعائر وشرائع ميتة غير متجددة، لأن المطلوب جعل المسيح حياً فينا وليس دفنا في الماضي.
المسيح صلب وما زال يصلب، ليس مرتين شرقاً وغرباً فقط. المسيح المحبة ما زال يصلب مع كل مسمار كره او رفض يُدَقّ في يد إنسان يسلّم علينا او يمد يد المحبة الانسانية، التعاون، التواصل الانساني... ونحن نرفض فندق مسمار الرفض في تلك اليد التي تمثل يد المسيح فيه. وندق مسماراً في قدم كل خطوة تتجه نحونا بالخير... فنصلب المسيح في الانسان الآخر في كل اذيّة نزرع مسماراً جديداً في جسد المسيح. نحن نؤذيه فينا اذ نؤذي بعضنا ولا نخجل.
حتى الآن تجارة المسامير وقلوب الفولاذ تنسجها السياسة. وما زال كل الناس يحتاجون الى وجودك على الأرض لا في حلم السماء. وإن وُجِدت فالمسامير حاضرة، وحتى الآن لا يعرفون ما الذي يؤلم المسيح المحبة الذي بارك كل ما مسّه، حتى الصليب روّضه من وحشية الموت الى رمز الخلاص.
المحبة تقتضي الحوار، وعلى ذلك نفهم قول المسيح من سخّرك ميلاً فامشِ معه ميلين. من طلب ثوبك اعطه رداءك. من ضربك على خدّك الايمن فحوّل له الآخر. باركوا لاعنيكم. سامحوا أعداءكم... كل ذلك من اجل حماية بذرة الخير في الآخر والحوار معها بماء التسامح والمحبة، وبمعمودية التصرف دون انفعال لا بردّ الفعل السلبي بنار الكره وقتل الحياة ومحاسبة الجحيم.
والايجابي دائماً يحاور ايجابية الآخر الموجودة فيه حتماً كونه انساناً "خلق على صورة الله ومثاله" يعني أياً يكن الانسان فإن اساسه الخير، والشر شواذ القاعدة.
إذا سلّمنا بالصراع بين المطلق الايجابي (الله) والمطلق السلبي (الشيطان) في المعادلة الدينية، فالحوار منعدم بينهما لأن لا نقاط مشتركة بين الفريقين كتلك التي تجمع الناس خيراً وشراً. وربما كان الإنسان نتيجة حوارهما. والإنسان، مهما كان، فيه خير قابل للحوار والنمو للوصول الى المحبة الانسانية المسيحية ان جاز التعبير، كون المسيح جسد المحبة وليس المقصود هنا شرائع وشعائر في سوق الآلهة.
وفي الحوار / المحبة وعدم الرفض، إما ان يصل الانسان بايجابيته العملية الى درب الله او يبتعد بسلبيته نحو طريق الشيطان (ان جاز التعبير). ولا يستطيع واحدنا ان يمشي في درب الله بعيداً عن الناس، فيقول سلّمت كلّي لله، فالمسيح ذاته بعد ان طلب من تلاميذه السهر معه ولو ساعة ولم يقدروا... فابتعدوا عنه وهو ملاحق من اعدائه. فبقي غريباً، صلّى ثلاث مرات قبل القبض عليه ليصلب، صلّى طالباً من الله ان يبعد عنه هذه الكأس وإلا "لتكن مشيئتك"... وبعد تسليمه الأمر لله وهو على الصليب، صرخ "إيل لِمَ شبقتني". ضعف إنسانه امام رفض الناس للمحبة حتى موتها صلباً. لم يعد له غير الله فناداه: لمَ تركتني؟ ولم يستطع المسيح التواصل مع الناس إلا بالطلب الى الله ان يسامحهم لأنهم طالبوا بإلغاء المحبة من الحياة وهم لا يدرون ماذا يفعلون فالمطلوب ان يدروا ماذا يفعلون... وإن لم يدروا قيمة المحبة المتجددة دائماً الصافية من اجل سعادة ابدية، فإنهم ربما سيقتلونها وهي لا تموت، بل تعود الى الحياة بتقبل الانسان الآخر بمحبة لا بالهروب الى الله من الناس، أو من مواجهة المشكلة بمحبة. لأنني كيف أحب الله الذي لا أراه وأنا أرفض من أراه وخلقه الله على صورته ومثاله ليكون أخي ولأحبه؟.
عليّ ان اتقبّل الآخر وليس ان اعيشه، بل ان اعيش ذاتي حرّاً وأعيش في الآخر ما لا أعيشه فيّ فأقبل اختلافه بمحبة لأنه ليس انا ليكون صورة عنّي بل ربما كان نقيضي.
والمقصود بتقبّل الآخر ليس الصبر على مضض. لو كان الصبر مقياس النبوّة لكان العصر عصر الأنبياء لأن غالبية الناس يحتملون ضغط حياة لم يعرفه نبيّ قط.
هؤلاء الأنبياء / الناس يصلبون المسيح حتى الآن برفض الآخر اياً يكن. والتباري بالتخلي عن الآخر او كسره ان تصلّب لا بمن الأقوى – الأوسع ليستوعب الأضعف او الأضيق أفقاً أو الأصغر...
والآن بعد ألفي عام، ربما، يا سيدي المسيح ان حضرت ومعك باراباس لنختار من سيصلب، لدينا الوعي الكافي لنختار القيصر.
إن أخطأنا فاغفر لنا يا معلّم!

 

سامية سلّوم
المصدر : النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...