متحف فان كوخ يحصل على رسائله ونبيل صالح يكتب آخرها

28-06-2006

متحف فان كوخ يحصل على رسائله ونبيل صالح يكتب آخرها

الجمل:حصل متحف فان كوخ من جامع تحف على مجموعة من 55 خطاباً كتبها الرسام الهولندي. وقال المتحف الذي يقع في امستردام أن فان كوخ كتب الخطابات- التي غابت عن الأعين لمدة 60 عاماً- في الفترة من 1881 إلى 1885 إلى الفنان الهولندي انطون فان رابارد الذي كان يعيش في بروكسل. ولم يوضح المتحف مقدار ما دفع مقابل الخطابات ولكنه قال إن الحصول عليها تم بدعم من العديد من المساهمين الماليين.‏

ويمتلك متحف فان كوخ بالفعل 700 خطاب كتبها فنسنت فان كوخ ومعظمها إلى أخيه ثيو الذي كان يعوله .‏

وقال المتحف إن ا لخطابات التي تم الحصول عليها حديثاً هي تراسل بين فنانين ولها أهمية كبيرة في فهم آراء فان كوخ وتطوره.‏

وفي الرسائل التي تضمنت بعض الرسوم لفان كوخ تبادل الفنانان النقاش بشأن أعمال كل منهما وأعمال أدبية وفنية أخرى.‏

وضعفت عرى الصداقة بين فان كوخ ورابارد بعد أن انتقد الأخير بشكل غير مألوف لوحة فان كوخ آكلو البطاطس وتوقفت الرسائل فيما بينهما فيما بعد ورسم فان كوخ أكثر من 800 لوحة في مشوار فني استمر عشر سنوات فقط ومن ضمن أشهر لوحاته (زهور الشمس).‏

ورسم فان كوخ أيضاً أكثر من 1100 رسم تخطيطي بعضها كان يرسله في خطاباته لثيو والآخر لفنانين كي يعلمهم بأعماله. وانتحر عام 1890 فان كوخ الذي يعتبر أعظم رسام هولندي بعد رامبرانت.‏

والجدير بالذكر أن رسائل فان كوخ قد صدرت بالعربية عن وزارة الثقافة قبل نحو ربع قرن وأضاف الكاتب نبيل صالح رسالة متخيلة إليها. وفيما يلي ننشر الرسالة التي اعتقد النقاد حينها أنها الرسالة 66 لفان كوخ وأن صالح قد قام بترجمتها..

 

فان غوغ يكتب رسالته الأخيرة

 

عزيزي ثيو

إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة.. إني أتعفن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن..
ماذا أصنع؟ أريد أن ابتكر خطوطاً وألواناً جديدة. غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم.. كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي! هل هي كذلك في الطبيعة أم أن عيني مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كيما أقدح النار الكامنة فيها.
في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تظهرها. في حقول الغربان وسنابل القمح بأعناقها الملويّة، وحتى حذاء الفلاح الذي يرشح بؤساً ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة.. للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك.
اليوم رسمت صورتي الشخصية
ففي كل صباح، عندما أنظر في المرآة أقول لنفسي: أيها الوجه المكرّر. يا وجه فانسان القبيح. لماذا لا تتجدد؟!
ابصق في المرآة واخرج..
واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد. لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أنا أن يكون: عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة. لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، اقصد موس الحلاقة، وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط عليّ. بين رأسي خارج اللوحة وداخلها.. حسناً ماذا سأفعل بهذه الكتلة اللحمية؟
أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذني أيتها المرأة الثرثارة. تحدثي إليها..
الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل إن سلاميّتي السادسة "الريشة" لتستطيع أكثر من ذلك إنها ترقص وتبكي وتداعب بشرة اللوحة..
اجلس متأملاً:
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر. آه يا إلهي ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟ الفرشاة، الألوان، و.. بسرعة أتداركه. ضربات مستقيمة وقصيرة، حادة ورشيقة.. ألواني واضحة وبدائية، أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها الوثنية. كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
مازلت أذكر.
كان الوقت غسقاً أو ما بعد الغسق وقبل الفجر اللون الليلكي يبلل خط الأفق.. آه من رعشة الليلكي. عندما كنا نخرج إلى البساتين لنسرق التوت البري كنت مستقراً في جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما أورسولا الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان. وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش صدري قبل أن تتعلق بعنقي مستنجدة ضممتها إلي وهي تتنفس مثل ظبي مبهور.. ولما تناءت عني كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكي على بياض قميصي..
منذ ذلك اليوم. عندما كنت في الثانية عشرة. وأنا أحس بأن سعادة ستغمرني لو أن ثقبا ليلكياً انفتح في صدري ليتدفق فوق البياض.. يا لرعشة الليلكي..
الفكرة تلح عليّ كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟
كامن في زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا.. امتص رحيقي من شعاع هذا الكوكب المبتهج. أحدق وأحدق في عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقني عيناي..
شيئان يحركان روحي: التحديق في الشمس وفي الموت.. أريد أن أسافر إلى النجوم وهذا الجسد البائس يعيقني. "متى سنمضي، نحن أبناء الأرض. حاملين مناديلنا المدمّاة".. ـ ولكن إلى أين؟ ـ إلى الحلم طبعاً..
أمس رسمت زهوراً بلون الطين..
بعدما زرعت نفسي في التراب، وكانت سنابل خضراء وصفراء، تنمو على مساحة رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان.. غربان وقمح.. الغربان تنقر في دماغي. غاق غاق غاق. "كل شيء حلم، هباء أحلام" وريشة التراب تخدعنا وفي كل حين. قريباً سأعيد أمانة التراب وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس.. آه آيتها السنونوة سأفتح لك القفص بهذا المسدس: القرمزي يسيل.. دمٌ أم نار؟
غليوني يشتعل:
الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر، التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مرّ بالعادة نألفه. ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها.. لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! "إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهي البؤس أبداً"..
وداعاً ثيو، سأغادر نحو الربيع..

جريدة تشرين 22/8/1990

  الجمل - وكالات   

 


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...