العلمانية من وجهة نظر عالم دين (3)

02-07-2006

العلمانية من وجهة نظر عالم دين (3)

      من الأساس اعترفت المسيحية بوجود سلطتين : سلطة الله وسلطة قيصر , وذلك في الجواب المشهور المنسوب إلى عيسى عليه السلام رداً على السؤال الذي وجهه إليه اليهود حول ولائه السياسي .( انجيل متى : 22/21).
     وقد غلب جانب الكنيسة منذ بدايات العصور الوسطى المسيحية على جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية في أوروبا بشكل خاص , وفي جميع العالم المسيحي بوجه عام , فكانت الكنيسة طيلة  فترة العصور الوسطى المسيحية , بصورة مباشرة أو غير مباشرة , تكاد ان تكون صاحبة السلطان المطلق على كل شيء . فلها _ بما هي مؤسسة دينية _ سلطان مطلق على روح الفرد وعقله , كما ان لها _ لهذا الاعتبار نفسه _ سلطان على الأسرة من حيث نشأتها وصيرورتها وحلها . ولها _ من حيث أنها تمثل سلطان الله على ا الأرض _ سلطة على المجتمع ومؤسسته السياسية المتمثلة في الدولة والإمارات الإقطاعية.
     وكانت الكنيسة في حقل الفرد والأسرة تمارس سلطتها بشكل مباشر .أما  في حقل المجتمع والمؤسسة السياسية فكانت تمارس سلطتها تارة بشكل مباشر في الأراضي والاقطاعات الكبيرة التابعة للكرسي البابوي مباشرة ( أو التابعة إلى السلطات الدينية العليا في المذهب الأرثوذكسي ) وتارة تمارس سلطاتها  بشكل غيـــــر مباشر من خلال شبكة العلاقات القائمة بين نظام الإقطاع _ وهو ما يمثل السلطة السياسية المدنية _ وأجهزته الإدارية, وبين الجهاز الكنسي من جهة أخرى.
     وكان للكنيسة في حقل المجتمع ومؤسسته السياسية تأثير كبير في إضفاء الشرعية على ممثلي السلطة السياسية كما كانت تمارس تدخلا مباشرا في كثير من الحالات في عملية التشريع القانوني للفرد والمجتمـــــــــع والسلطة السياسية .
     ويكفي مثالا على مدى ما كان للكنيسة من نفوذ وتأثير حتى أنه بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 كانت الكنيسة  تتمتع بنفوذ ساحق وبسلطات عظيمة الأهمية معترف بها فقد اضطرت الجمعية التأسيسـية  الفرنسية إلى  طلب موافقة البابا على الدستور المدني ليكون شرعيا وساري المفعول في نظر الفرنسيين , وذلك في أول آب 1790  ولكن البابا بيوس السادس حكم بالشجب رسمياًَ على الدستور المدني في 11 آذار و13 نيسان 1791 , مما أدى إلى انشقاق في صفوف الاكليروس ومن ثم إلى انشقاق في صفوف الأمة الفرنســية وحين نشبت الحرب الأهلية  بعد ذلك تضمنت معنى دينيا بالإضافة إلى مضمونها السياسي .  فإذا كانت الكنيسة حتى في أيام الثورة الفرنسية  تتمتع بمثل هذا النفوذ فكيف كان نفوذها قبل ذلك في العصور  الوسطى وعصر النهضة حين بدأت تهب رياح التغيير على جميع أوروبا ؟.
     ولكن حدثت في نهايات العصور الوسطى المسيحية في أوروبا بعض المتغيرات الكبرى التــــي أدت إلى إحداث بعض الاهتزاز على نظام العلاقات الذي كانت الكنيسة تحتل قمته العليا .
     وقد شملت هذه المتغيرات: السياسة الدولية بدخول العثمانيين إلى القسطنطينية سنة 1453 , والنشاط المالي بنمو التجارة وتبادل السلع والمنتجات بين الإمارات الإقطاعية داخل كل دولة وبين الدول نفسها , وحقـل العلوم بانجاز بعض الاكتشافات الهامة في الفلك والجغرافيا وغيرهما ,والآداب بإحياء التراث اليوناني الروماني القديم .
     هذه المتغيرات في حقول السياسة والعلم والمال والفن أدخلت , كما قلنا , بعض الاهتزاز على نظام العلاقات الذي ظل سائدا طيلة العصور الوسطى المسيحية , وأدت إلى طرح أسئلة أساسية حول عدالة الوضع القائم  وبدأت الكارثة حين تبين أن الكنيسة لم تكن مؤهّلة لاستيعاب المتغيرات الجديدة والتكيف معها فحدث الصدام الذي لا تزال أوروبا ومن ورائها  العالم يكتويان بناره حتى الآن .

     ولقد أخذ الحس القومي ينمو ويرفض الصيغة السياسية للمجتمع الإقطاعي ويطمح إلى الدولة المركزية القومية التي تلغي الإقطاعيات والحواجز الداخلية بين كل  مقاطعة وأخرى. وكان المجتمع الإقطاعي واقتصاده الزراعي على مبدأ الاكتفاء الذاتي يعوّق من نشاط البرجوازية الوليدة الطامحة إلى حرية الحركة وإلى إلغاء الحـــــــدود الداخلية وإلى تنويع المنتجات وزيادة الإنتاج .
     لقد أدى  إلى حلف بين القوى السياسية الجديدة ممثلة في دعاة الدولة القومية وبين رجال المال والتجارة الطامحين إلى حرية الحركة يهدف إلى إنشاء دولة مركزية قوية ذات سلطان مطلق على جميع الأرض وجميع السكان ومن ثم إلى إلغاء نظام الإقطاع بصيغته السياسية والاقتصادية وقد أدى هذا الحلف إلى صدام مع أمراء الإقطاع ومن ثم إلى صدام مع الكنيسة نفسها حيث رأت في قيام الدولة المركزية القوية ما يهدد نفوذها السياسي .
      وأدى تقدم العلوم والفنون إلى مواجهة بين رواد البحث العلمي وبين الكنيسة التي رأت في مواقفهم وآرائهم وتطلعاتهم ما يهدد الإيمان الديني ويتعارض مع التفسير المعتمد للنصوص الدينية . وقد أدى هذا الصراع  والتعارض المتعدد الجوانب إلى طرح مشكلة  المجتمع السياسي برمتها .
     كيف بتكون المجتمع ؟ ما مركز الفرد فيه وحقوقه وواجباته ؟ ما هي القيادات العليا للمجتمع وما هي بناه الفوقيـــة وما الذي يجعلها قيادات عليا تمارس السلطان ؟ كيف ينظم المجتمع ؟ من يشرع له ومن يستمد التشريع قدسيته ؟ ما الروح التي يقوم المجتمع على أساسها وتكون متضمنة فيه , وتطبعه بطابعها ؟
     وإذا كان الدين هو الأساس والروح والمضمون الذي كان يقوم عليه المجتمع السياسي في أوروبا ويتضمنه قبل هذه المرحلة. وكان اللاهوت هو الترجمة التشريعية والشكل القانوني  لمبررات نظام العلاقات السائد في المجتمع الإقطاعي , وكانت الكنيسة تمثل السلطة _ فان القوى الجديدة استعانت _ في مقابل المسيحية _ بالفلسفة  لتستنبط منها مبررات  التغيير الجديد ولتعطي الأساس النظري والشرعية تصوراتها للبنى الجديدة في مجال السلطة والتشريع .
     ويسوق دعاة العلمانية عادة جملة من الحجج والاعتبارات التي يستندون إليها في ادعائهم ضرورة بناء الدولة العلمانية وهم يعرضون الاعتبارات المشار بالشكل التالي:
1_إن الدولة الدينية تعني سيطرة رجال الدين, وهذا يعني أن هذه الفئة تدعي لنفسها حقوقاً استثنائية على سائر الناس , أو انه يعني _ على الأقل _ قدرتها على التمتع بوضع استثنائي بالنسبة إلى سائر الناس . وهذا الوضع يتيح لرجال الدين إن يتحكموا  بمصائر الناس بسبب قدرتهم الاستثنائية على التأثير السياسي وهذا مخالف لفكرة العدالة ولذا فلا بد من علمنة الدولة لتحريرها من هذا الوضع غير العادل .
2_ الدولة الدينية لا تتمتع بالحركة والقدرة على التطور لأن قوانينها ثابتة ومتحجرة, لأن الدين عند أتباعه يمثل الحقيقة المطلقة والنهائية غير القابلة للتغيير. ودولة مثل هذه لو استمرت مئات السينين فسيكون آخرها مثل أولها لأن، قوانينها ثابتة لا تتغير , ومن ثم فهي تحول دون دخول أيه أوضاع جديدة إلى حياة المجتمع وينعكس جمود الدولة على حياة الناس فيها فيجعلها متخلفة حافلة بالكثير من المتاعب , بل إن دولة كهذه ستنهار من تلقاء نفسها عندما تتغير الأشياء من حولها , فلا تعود في وسط عالمي وثقافي ملائم لقوانينها المتحجرة .
3_ من النادر وجود دولة ينتسب جميع مواطنيها إلى دين واحد ومذهب واحد فإن الغالبية العظمى من الدول تتألف شعوبها من معتنقي أديان مختلفة ومذاهب متنوعة. وفي هذه الحالة حين تكون الدولة دينية يقع التمييز دائمــــــا بين الموطنين الذين ينتمون إلى دين الدولة والمواطنين الآخرين الذين ينتمون إلى دين آخر وتعتبر الدولة الدينية إن معتنقي دينها هم المفلحون وحدهم ويأتي إتباع الأديان الأخرى في الدولة الدينية _ في أحسن الحالات _ وفي الدرجة الثانية في صفة المواطنية وفي حقوقها . هذا التفاوت في التمتع بدرجة المواطنية وحقوقها في الدولة الدينية مناف لفكرة العدالة , ويهدد الدولة نفسها بالتصدع والانقسام .
4_  والدولة الدينية تقف في وجه تقدم العلم والفكر لأن قياداتها العليا تفسر _ انطلاقا من النصوص المقدسة – الكون والحياة والإنسان والتاريخ بما تدعي انه يمثل الحقيقة المطلقة وربما يتعرض العلماء والمفكرون لحالات مأساوية إذا قاموا بأبحاث تنطلق من فرضيات تخالف الحقائق الدينية أو أدت بهم أبحاثهم إلى نتائج هذه الحقائق وقد حفل التاريخ بكثير من مآسي العلماء والمفكرين لهذا الحقائق لهذا السبب .
     هذه الاعتبارات بعضها يتعلق بالسلطة وبعضها يتعلق بالتشريع استند إليها المفكرون والكتّاب من دعاة العلمانية في مقابل الدولة التي كانت تتمتع فيها الكنيسة بالنفوذ في أوروبا. ومن ثم فهي اعتبارات ضد الكنيسة نفسها _ ويخلصون من ذلك إلى أنه بدلا من دولة تسيطر عليها الأيديولوجية لابد من إقامة دولة لا دينية             ( علمانية ) تتوفر
فيها الخصائص التالية :
1_الحركة المستمرة ومن ثم القدرة على  التطور , والاستجابة  للمتغيرات .
2_مركز حقوقي متساو لجميع مواطنيها الذين يختلفون في الانتماء الديني أو العرقي.
3_سيطرة الشعب على الحكم وكونه مصدر شرعية السلطة وشرعية القوانين .
4_ إفساح المجال أمام حركة الفكر والعلم الطبيعي ليتاح لهما التقدم واكتشاف الآفاق الجديدة في الطبيعــة
والإنسان دون أن تكون ثمة قيود دينية مفروضة عليها.
     وقد استنبطت هذه العبارات من مجمل النظريات الفلسفية والنظريات الاجتماعية السياسية التي بدأت تكوّن رأيا غلابا في الفكر الأوروبي منذ القرن السادس عشر. .

                                                                                 الشيخ محمد مهدي شمس الدين 
                                                            من مختارات الجمل


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...