ترويض العرب السنة

05-07-2006

ترويض العرب السنة

ثمة خيط لا تخطئه العين يربط بين أحداث كثيرة وقعت وقد تقع في العراق هذه الأيام، لعل أهمها مطاردة العرب السُنة في البصرة، ومن ثم مقتل الزرقاوي، إضافة إلى الإفراج عن حوالي 200 معتقل في احتفالية تصدرها زعيم الحزب الإسلامي وطارق الهاشمي نائب رئيس الجهورية.

وقبلها الإفراج عن دفعة أخرى من قبل رئيس الوزراء، ومن بعد ذلك زيارة نائب من ذات الحزب لأحد السجون الحكومية في منطقة بعقوبة، وما كشف خلالها من فظائع ترتكب بحق المعتقلين، وهي زيارة (على جرأة صاحبها بالتصوير وكشف الوقائع) لم يكن لها أن تتم لولا التسهيلات الأميركية، وصولاً إلى الحملة الأمنية الواسعة في محيط بغداد وما يجري ترتيبه أو التهديد به من حملة أو حملات ستطال منطقة الأنبار، أهم المعاقل التي تؤوي المقاومة، من دون أن ننسى بالطبع عودة جلال الطالباني إلى المشهد بحديث جديد حول لقاءات تمت وستتم مع قوى المقاومة قد تفضي إلى إدماج بعضها في العملية السياسية. وأخيراً وليس آخراً برنامج المصالحة الذي تبنته حكومة المالكي.

لا خلاف على أن هذه المسائل جميعاً ذات صلة بالعرب السُنة، من دون استبعاد صلتها الأقل أهمية بالآخرين، لاسيما الشيعة والحكومة الجديدة بقيادة نوري المالكي الذي حظي منذ تنصيبه بلقاءات مع زعماء العالم الذين تحتل قواتهم الأراضي العراقية، وآخرهم الرئيس الأميركي جورج بوش.

الأكيد أن ما يجري في البصرة تحت سمع وبصر القوات البريطانية وبعلم القوى والمراجع الشيعية هو نوع من أنواع التطهير العرقي في مدينة كان العرب السُنة يشكلون ما يقرب من ثلث سكانها قبل مجيء الاحتلال، فيما يبدو أن تلك النسبة توشك على أن تهبط إلى النصف.

ما يعنينا فيما يجري في البصرة هو تواطؤ المحتلين في اللعبة بحيث يشعر العرب السُنة أنهم في حاجة إلى الاحتلال من أجل حمايتهم من التغول الشيعي والاختراق الإيراني الواسع النطاق، لاسيما وأن كثيراً مما يحدث ما زال يُنسب إلى مليشيات ذات صلة بالإيرانيين.

والخلاصة هي أن المطلوب من هذه الفئة أن تفهمه هو أنها ضعيفة وهشة في مواجهة الطرف الآخر، وأن الزرقاوي وأمثاله لن يكونوا قادرين على حمايتها، وأن الاحتلال ووجوده القوي هو وحده القادر على ذلك.

صحيح أن كثيراً مما يجري في تلك المدينة ما زال يتداخل مع حرب المليشيات الشيعية فيما بينها على النفوذ وتهريب النفط، وكما على الولاء أيضاً؛ بين المقربين من إيران وغير المنسجمين مع سياساتها، لكن ذلك كله لا يغير في حقيقة الرسالة التي يبعث بها المحتلون للعرب السُنة، بدليل أنهم لا يتدخلون من أجل وقف عمليات القتل والتطهير العرقي على رغم قدرتهم على ذلك.

بالنسبة لمقتل الزرقاوي، يمكن القول إن حاضنته العربية السُنية لم تعد بذات الدفء القديم، وإن ظهره قد كشف أخيراً على نحو جعله صيداً أسهل للقوات الأميركية، وإن قيل إن قتله جاء بمحض الصدفة بناء على إخباريات تشير إلى مقاتلين يتحصنون في بيوت قصفت جميعاً كان هو في أحدها.

من المؤكد أننا لسنا مقتنعين بالنظرية القائلة إن الأميركان هم من قرر التخلص منه في هذه المرحلة مع قدرتهم على ذلك في مراحل سابقة، وإن قرار قتله قد صدر أخيراً لانتهاء دوره بحسب الإستراتيجية الأميركية، وذلك بعدما أصبح العرب السُنة جاهزين لدخول العملية السياسية بشروطها الجديدة.

والحال أن الزرقاوي لم يكن مفيداً في أي مرحلة من المراحل للأميركان، اللهم إلا بقدر هامشي لا يغير من حقيقة أنه كان العبء الأكبر عليهم، والسبب هو ضربه لمخطط دفع ملف الأمن الداخلي إلى العراقيين والتمركز في قواعد عسكرية بعيدة عن متناول المقاومة، وبالطبع من خلال عمليات مجموعته الواسعة النطاق التي شملت الأميركان والقوات العراقية في آن.

الأكيد أن خروجه المتلفز الوحيد كان سبباً مهماً، بل ربما أساسياً في التأكد من وجوده ومسار حركته، بل إن من غير العسير القول إنه كان مدركاً لحقيقة الكلفة الأمنية لخروجه، ولا ننسى بالطبع اتساع دائرة الثارات بينه وبين بعض الجهات في مناطق العرب السُنة نظراً لكثرة ما ينسب إليه من عمليات واغتيالات، وبالطبع في فضاء عشائري يصعب إخراجه من هذه العقلية بسهولة، مع أن كثيراً مما نشر حول هذا البعد، لاسيما خلافه مع قوى المقاومة كان مبالغاً فيه إلى حد كبير.

لكن الثابت هو أن أطرافاً سياسية وعشائرية في المنطقة العربية السُنية قد ضاقت ذرعاً بالزرقاوي، من دون أن يعني ذلك انسجاماً من الفضاء الشعبي معها، بدليل أن مقتل الرجل قد قوبل بحزن في تلك المناطق، خلافاً لما يروجه كثيرون، ويكفي أن يستمع المعنيون إلى ما ورد على لسان المعتقلين في سجن بعقوبة المشار إليه حتى يترحموا على الزرقاوي. أليست هي الثارات التي يلد بعضها بعضا؟!

لا يحتاج المراقب إلى قدر كبير من الذكاء لكي يدرك أن زيارة نائب الحزب الإسلامي لسجن بعقوبة، إلى جانب الإفراج عن دفعة المعتقلين من خلال نائب رئيس الجمهورية وأخرى من خلال رئيس الوزراء، هي في حقيقتها جزء لا يتجزأ من مساعي إقناع العرب السُنة بأن الأميركان أكثر رحمة بهم من كثير من القوى الشيعة ومليشياتها التي تدير المعتقلات إياها بعد أن لبست زي الشرطة والجيش والقوى الأمينة، إضافة إلى إقناعهم بجدوى العملية السياسية، وبقدرتها على تحقيق مطلبهم وحماية حقوقهم.

وحين يميل الأميركان إلى ترويج هذه اللغة بالتعاون مع القوى العربية السُنية، مع عمل حثيث على إدماج مجموعات المقاومة في العملية السياسية وإقناعها بالكف عن العنف، فإنهم بذلك يستنفرون مشاعر الخوف لدى القوى الشيعية التي تابعت منذ شهور مسار الانقلاب عليها أو لنقل التنكر لخدماتها، وبالطبع على خلفية الصراع الدائر مع إيران من جهة، والأهم بسبب فشل هذه الطريقة في حل المعضلة الأميركية المتمثلة في استمرار النزيف البشري والمالي بسبب المقاومة، فضلاً عن مشاعر الخوف من أي تصعيد مع إيران بسبب ما تتمتع به من قوة استثنائية في العراق.

يحدث ذلك في سياق استثمار شعور العرب السُنة بعبء غيابهم عن العملية السياسية من زاويتين، أولاهما الاستهداف الأميركي الواسع النطاق، وثانيتهما الاستهداف الحكومي الذي فاق نظيره الأميركي وتجلى في فضائح مسالخ التعذيب في الداخلية وما انطوت عليه من حكايات ساهمت في دفع القوى السياسية إلى حضن الأميركان، لاسيما بعد استلام زلماي خليل زاد للملف وعقده صداقات مع زعماء تلك القوى مع قدر من إظهار القسوة في الحديث مع زعماء القوى الشيعية. ولا شك أن سيناريو ما بعد انتخابات ديسمبر/ كانون الأول الماضي قد زاد في إحساس زعماء العرب السُنة بإمكانية تسوية المظالم السابقة بأسلوب مختلف.

الآن يمكن القول إن قناعة الوسط العربي السُني بأن المقاومة هي الخيار الوحيد في التعاطي مع الوضع لم تعد قائمة، الأمر الذي تحقق من خلال دعاية واسعة قامت بها القوى السياسية التي لعبت على وتر حاجات الناس، مع العلم أن النظر إلى مقاطعة العملية السياسية في المرحلة الأولى بوصفه خطأ كبيراً لم يكن صائباً، ومعه مقاطعة المؤسسة الأمنية التي بناها المحتلون، إذ لولا ذلك لما فشل مشروع الاحتلال، ولما كانت التنازلات، لا للشيعة ولا للعرب السُنة.

صحيح أن الطرف الأول قد كسب أكثر فيما دفع الثاني أثماناً كبيرة، لكن ذلك لا يغير في حقيقة أن المقاومة هي التي أفشلت مشروع الاحتلال لاستعمار العراق ومن ثم التمدد نحو العواصم العربية الأخرى، وهي من دون شك (أعني المقاومة) ذات نسب عربي سُني لا يستحق الفخر فحسب، بل كانت وستكون له تداعياته أيضاً، ويكفي أنها هي التي أكدت حضور هذه الفئة ودورها، ولولاها لظلوا محشورين في دائرة الأقلية الهامشية لا يغادرونها بحال.

من الواضح أن مبادرة المالكي للمصالحة تأتي في ذات السياق، وإن حملت بعداً أشمل من زاوية طموحها لترتيب مجمل الشأن العراقي لحسب الهدوء الذي لا يخرج الأميركان من المشهد مهزومين، لكن الأبعاد المتعلقة بالعرب السُنة في المبادرة هي ذاتها التي تحدثنا عنها سابقاً، أي إدماجهم بالكامل في العملية السياسية وإخراجهم من دائرة الشعور بالظلم من ثم فضهم من حول برنامج المقاومة، مع العمل على استقطاب قواها إلى ذات اللعبة، وهي في العموم تحتاج إلى كثير من التفصيل بشأن بنودها التي سيمتحن أكثرها في سياق التطبيق أكثر من الأوراق والنصوص.

ولكن إلى أين يفضي هذا التسابق على حضن الأميركان، ومعه التسابق على مطاردة المقاومة بمختلف الوسائل السياسية والأمنية؟

من المؤكد أن مخاوف حقيقية ما زالت تطرح في هذا السياق، لاسيما في ظل التراجع العربي اللافت للنظر، فسوريا لم تعد تتسامح مع تسرب المقاتلين العرب نحو العراق كما كان يحدث في السابق، وبالطبع في سياق التخفيف من حدة الهجوم الأميركي عليها، فيما لا تفعل الدول الأخرى شيئاً ذا بال من أجل إسناد المقاومة، بل ربما اضطرت إلى دعم القوى السياسية التي تطاردها في ظل مراقبة أميركية حثيثة، وفي ظل تبرير يقول إن ذلك جزء من تحجيم النفوذ الإيراني، مع أن الحقيقة معروفة ممثلة في الخوف من الضغوط وتجنب الخوض في ملف الإصلاح الذي ينساه الأميركان بقدر ما تنسجم الأنظمة مع مطالبها، لاسيما في الملفين العراقي والفلسطيني.

ما ينبغي أن يلتفت إليه زعماء العرب السُنة هو أن الرشاوى التي دفعت لهم حتى الآن ليست مقنعة، لا على الصعيد السياسي المتعلق بدور هذه الفئة وحضورها، ولا على صعيد المطالب اليومية للجماهير، لاسيما قضية المعتقلين التي يتردد صداها في كل بيت، إذ ما قيمة الإفراج عن 200 أو حتى 2000 معتقل من بين حوالي 20 ألفاً يتوزعون بين المعتقلات الأميركية والعراقية. أما وعود مبادرة المصالحة فستبقى وعوداً إلى أن تطبق على الأرض، ومن العبث بيع المقاومة على أعتابها.

من جانب آخر لم يحصل العرب السُنة على وزارات فاعلة في حكومة المالكي يمكن أن تشكل محطة لإعادة التوازن إلى المشهد الداخلي، والأهم من ذلك كله هو الأسئلة السياسية التالية المتعلقة بالفدرالية المنصوص عليها في الدستور، فضلاً عن سؤال الاحتلال وبقائه، وما إذا كانت هذه الصيغة المتمثلة في التسابق على رضاه هي النهائية، أعني صيغة الاستعمار غير المباشر، بل ربما المباشر في ظل موافقة متوقعة على إنشاء قواعد عسكرية للقوات الأميركية.

هكذا تبدو لعبة استهداف المقاومة من قبل القوى العربية السُنية خطيرة بكل المقاييس، ولا نعني بالاستهداف المشاركة في مطاردتها عملياً، بل المشاركة في لعبة استدراجها إلى العملية السياسية، مع أن حدوث ذلك سيزيد في الازدحام بالساحة السُنية بما يتيح للآخرين اللعب بسهولة أكبر على تناقضاتها.

هكذا تبدو المعضلة العراقية متواصلة، مع ضوء خافت في النفق تمثله المقاومة التي تدافع عن العراقيين وتبشر بإمكانية رحيل المحتلين في حال توفرت ظروف سياسية معقولة في المستقبل لجهة الداخل الأميركي والوضع الدولي والعربي، إضافة إلى وجود بعض القوى السياسية والدينية التي لم تغادر مربعها الرافض لبقاء الاحتلال أو التعامل معه من دون جدولة انسحابه من العراق، كما هو حال هيئة علماء المسلمين في الساحة العربية السُنية، وكما هو حال التيار الخالصي والبغدادي في الساحة الشيعية، وإلى حد ما التيار الصدري.

أما المسار الأفضل، على رغم كونه مستبعداً في الوضع الراهن، فهو تفاهم عراقي داخلي على صيغة وطنية تتزامن مع مطالبة برحيل الاحتلال يدعمها الجوار العربي والإقليمي، الأمر الذي لا يتوفر في مبادرة المالكي التي خرجت عملياً من تحت عباءة الاحتلال ولأغراض تثبيت أقدامه وليس هزيمته أو إخراجه.

من دون ذلك سيتواصل النزيف العراقي إلى أمد قد يطول، وهو نزيف إما أن يدفع باتجاه التقسيم (التطهير العرقي في البصرة قد يبدو مقدمة له) أما الأخطر فيتمثل في نجاح مخطط الاحتلال بالبقاء مشفوعاً برضا الجميع، وأقله باستثمار تناقضات القوى والأحزاب والطوائف.

 

ياسر الزعاترة

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...