فارغاس يوسا : الدولة هي العدو

05-07-2006

فارغاس يوسا : الدولة هي العدو

لا يحتاج المرء الآن الى أن يعرف ماريو فارغاس يوسا، الكاتب البيروفي الى القراء العرب. فهو اليوم، «على الموضة»، ولا سيما منذ زيارته الأخيرة «التفقدية» لبعض بلدان المشرق العربي، وتصريحاته الملتبسة عموماً، انما المؤيدة بشيء من الحرج للحقوق العربية في فلسطين. وهو أصدر على أية حال كتاباً مهماً عن فلسطين واسرائيل خلال الحقبة الأخيرة تألف من نص كتبه حول مشاهداته يوم زار اسرائيل وفلسطين المحتلة قبل فترة، ومن صور كثيرة التقطتها ابنته خلال تلك الزيارة. ولقد قيل ان الكتاب أغضب الاسرائيليين كثيراً، خصوصاً أن يوسا كان قبل ذلك معروفاً بمواقف صارخة في تأييدها للدولة العبرية، وكذلك في مساندتها للخط السياسي الأميركي الشمالي في أميركا اللاتينية. والمعروف أن يوسا بدأ يبدل مواقفه – جذريّاً في بعض المجالات – منذ اخفاقه في الحملة الرئاسية التي خاضها في بلاده ضد الياباني الأصل فوجيمورا، متهماً – يومها – الأميركيين أصدقاءه بخذلانه والتسبب، الى حد ما، في خسارته. مهما يكن من أمر فإن يوسا السبعيني اليوم، كان دائماً متقلباً من الناحيتين الفكرية والسياسية. وفي المقابل لا يمكن انكار أنه ثابت على أمر محدد، وهو كونه واحداً من كبار كتّاب الرواية، ليس في طول أميركا اللاتينية وعرضها فقط، بل في العالم، وهذا ما يجعل اسمه وارداً على الدوام، ومنذ زمن، بين الأسماء المرشحة لجائزة نوبل الأدبية.

> واذا كان ماريو فارغاس يوسا، قد قلّل من نشاطه الأدبي منذ سنوات، لمصلحة نشاط وكتابات سياسية، فإن هذا لا يمنع من أن تاريخه الأدبي، حتى الآن، تاريخ كبير يضعه في مكانة أولى الى جانب ماركيز واستورياس وخورخي آمادو، وغيرهم من كبار الروائيين. علماً أنه لطالما خاض نقاشات سياسية معهم، خسر فيها، انما من دون أن يحاول أي منهم، أو أي من الجمهور العريض القارئ للروايات الأميركية اللاتينية، أن يقلل من قيمة ابداعاته الأدبية. ولقد بنى فارغاس يوماً، هذه السمعة الأدبية الكبيرة والطيبة، على عدد كبير من روايات كان بدأ بنشرها منذ النصف الأول من ستينات القرن العشرين. ومع هذا تبقى تحفته الكبرى «حرب نهاية العالم» التي أنجزها وأصدرها في العام 1981، روايته الكبرى... بل العمل الوحيد في أميركا اللاتينية الذي يمكن وضعه في خانة متقدمة الى جانب «مئة عام من العزلة» لماركيز و «رجال الذرة» لآستورياس، وأعمال خورخي آمادو. بل إن «حرب نهاية العالم» تبدو، في شكل أو آخر، وكأنها كان يجب أن تكون من ابداع آمادو نفسه، اذ ان مناخها هو منطقة باهيا (نورديستي) البرازيلية، التي اشتهرت من خلال روايات آمادو الكبرى. أما زمنها فهو نهاية القرن التاسع عشر.

> في السبعمئة صفحة التي تتألف منها «حرب نهاية العالم» يروي لنا فارغاس يوسا، حكاية متشعبة يختلط فيها التاريخ بالخيال، والسياسي بالاجتماعي، والدين بالفلسفة... ومع هذا، وعلى رغم امتلاء الرواية بمئات الشخصيات، تمكن الكاتب من أن يصور شخصياته في عمق انساني حي وحيوي، وكأن كل شخصية هي في حد ذاتها بداية العالم ونهايته. وكل هذا ضمن اطار كابوسي، ثوري مدهش يقول لنا ان الرؤية العامة التي سادت خلال تلك المرحلة، والتي صورها الكاتب تصويراً فسيفسائياً، انما كانت أشبه برؤية حقيقية لنهاية العالم.

> تدور أحداث الرواية في منطقة كانودو، الشمالية الشرقية، المملوءة بشتى أنواع البؤس والحرمان، ما يجعل سكانها دائماً فريسة لأول ثوري، وأول مدعي ثورة... وكل من يملك سلاحاً أو خطاباً ويريد أن يحل نفسه مكان الدولة، التي تكاد تكون من دون وجود أصلاً في ذلك المكان. ومن هؤلاء انطونيو، «المتنور» كما يدعي، والذي يجول من قرية الى قرية ومن منطقة الى أخرى، داعياً الى المحبة التي نادى بها السيد المسيح. وأنطونيو (الملقب بالمستشار) يزعم في خطبه بأنه انما جاء الى هذا العالم كي ينشر كلمة السيد المسيح ويحق الحق ويقيم العدل. من هنا كان من الطبيعي أن يُفتن البائسون والمشردون والعاطلون من العمل بكلامه ويتبعونه، مثلهم في هذا مثل اللصوص والمجرمين الذين يجدون في السير وراء أنطونيو هذا، نوعاً من توبة توصلهم الى الصراط المستقيم. وهكذا، بعد أن يكون هؤلاء جميعاً، قد شكلوا أول الأمر طائفة «دينية» تتحلق من حول الواعظ، يتحولون جيشاً قوياً يعمل تحت إمرته، اذ ينتقل انطونيو من الوعظ الى الثورة. وثورته تكون أول الأمر على الدولة نفسها. ففي المنطقة النائية التي حرك فيها قواته وأوصلها الى نوع من الاستقلال، كان لأنطونيو أن يتحصن هناك رافضاً كل ما يأتي من الدولة، وكل ما تقوم به على اعتبار انها هي الشر المطلق وبالتالي فإن كل ما يأتي منها شر في شر: الإحصاءات، الضرائب، التعليم، وصولاً الى الزواج المدني وتعميم استخدام النظام المتري في القياسات. كل هذا رفضه انطونيو في جمهوريته الجديدة وساوى بينه وبين فعل الشياطين فيما راح حواريوه يصفقون له هاتفين صاخبين. أما هو فقد أعلن منذ البداية أنه لا يطمح في سلطة أو حكم. كل ما في الأمر أنه قابع في انتظار «عودة» ملك البرتغال سيباستياو، الذي كان مات قبل ثلاثة قرون. لكنه عائد لا محالة لنشر العدل واعطاء كل ذي حق حقه. أما هو، انطونيو، فإنه لن يحكم إلا بصورة موقتة وريثما يعود الملك! وفي المقابل يقنع انطونيو حوارييه بأن عددهم الأكبر انما هو الدولة وجمهوريتها (هي المسيح الدجال) التي لا تهتم بالفقراء.

> إذاً تنجح دعوة أنطونيو وتعم الثورة... بل ان جماعات سياسية عدة سرعان ما تغير استراتيجياتها على ضوء ما يحدث، ومن بين هذه الجماعات الجمهوريون أنفسهم، والإقطاعيون، والحزب الاستقلالي... كل واحدة منها تحاول، أول الأمر، أن تستفيد من الثورة العامة لحسابها... لكنها اذ تفشل في ذلك تتجمع معاً، لمقاومة هذا «الوباء الشعبي البؤسوي» الزاحف بحسب تعبير أحد الزعماء. غير أنه على رغم كل ضروب التدخل والمؤامرات. وعلى رغم التحالفات التي يبدو معظمها غير طبيعي، كأن يتحالف اليساريون مع الزعامات الفاشية، وعملاء الأجنبي مع رجال الكنيسة... يفشل هذا التحرك المضاد كله، إذ أن رجال أنطونيو يبقون على حالهم عنيدين... ويعيشون في مجموعة تسودها المساواة والتضامن وبعض الشعارات اليوتوبية، حتى ينتهي الأمر بالدولة الى أن ترتعب أمام احتمالات توسع التحرك، فتجرد ضدهم الحملة ضد الحملة، ما ينجح آخر الأمر في استئصالهم بعد مقاومة عنيفة من قبلهم.

> هذا السرد التاريخي، لا يتناقض في رواية فارغاس يوسا هذه، مع الأبعاد الأكثر حميمية، لا سيما حين ينهمك المؤلف، في وصف المشاهد العائلية والعلاقات بين الناس، أو حين يبدع في تقديم شخصيات - أساسية في العمل – لا يتمتع أي منها بأي قدر من العادية – انها شخصيات مضخمة، كما لو أنها طالعة من لوحة لهيروتيموس بوش، أقزام ومشوهون تحولهم الثورة الى مقاتلين شرسين. وهي شخصيات تعيش في ما بينها تناقضات مدهشة ولكن «يجمعها الهدف» بحسب تعبير انطونيو، الذي لا يكف عن ابداء فخره بهذا الجيش الذي هو ملح الأرض ووارث خيراتها المستحق. والمنتظر بمجيء المخلص. ولقد طعم يوسا مشاهد الرواية بشخصيات «نموذجية أخرى» (خاض من خلال حضورها سجالاته الطويلة والشاقة، في ذلك الحين، مع زملائه من مثقفي أميركا اللاتينية) كالاسكوتلندي الغامض الذي سبق له أن شارك في كومونة باريس، أو الصحافي اليساري الذي لا يكف عن اظهار البله وعدم الفهم لما يحدث... والحقيقة أن مثل هذه الشخصيات أعادت القراء – اذا كانوا نسوا في خضم القراءة ان مؤلف الرواية هو فارغاس يوسا – الى شخصيات كانت ملأت رواياته السابقة مثل «الرجل الذي يتكلم» و «حكاية مايتا» وغيرهما.

 

ابراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...