«اسطنبول» أورهان باموق في طبعة عربية

05-07-2006

«اسطنبول» أورهان باموق في طبعة عربية

«إن الحياة خارج الإطارات مسلية أكثر»، هكذا يقول أورهان باموق وهو يفكك صورة مدينته «اسطنبول»، بعد خمسين سنة على ولادته، في عائلة ثرية.

وجدت نفسها إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، تفقد سطوتها، تحت وطأة التحولات، وصعود طبقة الريفيين، هذه الطبقة التي اقتحمت المدينة، مع صعود موجة الاتاتوركية بقيم جديدة واستعراضية، تفتقد إلى الأصالة. ‏

في مذكراته «اسطنبول: الذاكرة والمدينة» التي ترجمها إلى العربية عبد القادر عبد اللي(منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق ـ 2006)، يكتب أورهان باموق عما عاشه وخبره في أزقة اسطنبول وأسوارها بعيون مفتوحة باتساع على أطياف مدينة افتقدت روحها ورائحتها، بإحساس من يعيش في مدينة أخرى لم تعد موجودة حقيقة، وإنما بقوة الذاكرة فحسب، فهي ليست المناظر التي يعشقها السائحون، كما تبدو في البطاقات البريدية.وتلح عليه صورة مدينة بلونين، شبه مظلمة ورصاصية كصور الأبيض والأسود.فالتغريب القسري أفقدها جمالها الطبيعي وروحها المحلية وتعدد ثقافاتها، مما وسمها إلى الأبد بحزن تاريخي تسرب إلى حجارتها وبيوتها الخشب وصفير السفن التي تبحر في البوسفور، وهو لن يفهم أهمية هذا التغريب إلا متأخراً «ليس ثمة تناقض بين جمع رموز الثقافة العثمانية والتغريب»، وأن التأرجح بين الشرق والغرب، كان مخاضاً عسيراً، أفرز في نهاية المطاف، جيلاً من الكتاب الحزانى، أمثال أحمد راسم الذي كتب طوال نصف قرن كل شيء عن اسطنبول وأزقتها وعالمها السفلي، كما حاول رشاد أكرم توثيق تاريخ العثمانيين عن طريق ما كانت تنشره الصحف القديمة كبوصلة دقيقة لطبيعة الحياة في اسطنبول.ويتوقف أورهان باموق ملياً عند كتابات الرحالة والرسامين الغربيين، هؤلاء الذين أكدوا صورة أخرى للمدينة، وبتأثير هذه الكتابات والرسوم، حاول صاحب «الحياة الجديدة» أن يكون رساماً، إلى جانب دراسته العمارة في الجامعة، بإلحاح زمن الأبيض والأسود، ورائحة البيت الأول الذي لم يغادره إلى لحظة كتابة هذه المذكرات، فالبيت كما يقول «مركز العالم في رأسي، أكثر من كونه جمال غرف وأغراض». ‏

ويمزج صاحب «اسمي أحمر» مابين المذكرات الشخصية عن طفولته ومطلع شبابه وعشقه الأول، وبين تحولات المدينة والعائلة، بحنين إلى ذلك الزمن السعيد الآفل، مؤكداً على الدوام، حزن اسطنبول، وهي تفقد ملامحها القديمة بالتدريج، بموازاة تاريخ شخصي وذكريات ملتبسة، فأورهان باموق الذي يروي هنا يخاطب شخصاً آخر بالاسم نفسه، ويحاورة بألم، لنبش طفولة نائمة ومشاكسات مراهقة وصراعات عائلية، بغياب شبه دائم لأب كان يعيش نزواته على الملأ، وأم غاضبة تسعى بكل طاقتها إلى ردم التصدعات التي أصابت العائلة ، مالياً واجتماعياً، بعد أن خسر الأب أمواله في صفقات فاشلة.وهو حين يلجأ إلى ما كتب عن اسطنبول، إنما يرغب في أعماقه عادة طفولته المنهوبة، الأمر الذي يجعل الفرجة على فيلم قديم بالأبيض والأسود، يبثه التلفزيون، وتعبر في خلفيته شوارع اسطنبول وبحرها وأماكنها المشهورة، وكأنه فرجة على ذكريات شخصية.يقول «كان يسيطر عليّ أحياناً، شعور بأن ما أتابعه، ليس فيلماً، بل ذكرياتي، وأهتزّ حزناً للحظة».
 

حزن اسطنبول ليس «مرضاً عابراً»، يوضح أورهان باموق، إنما ينبع من الداخل باعتباره قدراً لا مفر منه، و كترجيع لهزائم وضياع مستمرين، وعلى هذا الأساس فإن الحزن الذي تقوم عليه الأغاني والأشعار التركية، هو مزيج من تصوف وقيود وفقدان، وان ما تحتاج إليه اسطنبول في الدرجة الأولى، رواية من طراز «أوليسيس» لكشف طوبوغرافيتها وتراجيديتها ، والحفر عميقاً في روحها الهائمة بين الشرق والغرب، وربما بتأثير هذا الهاجس، اندفع أورهان باموق إلى مراجعة المدونات الصحفية اليومية للتعرف عن كثب على مجريات الحياة اليومية، وروح الثقافة الشعبية أو«آداب العيش» لبلورة صورة وألوان اسطنبول وروائحها وأصواتها وأمزجة كتابها.لكن المحطة التي قلبت حياته رأساً على عقب، انخراطه في الرسم، ليس من موقع الهواية، إنما من جهة الاحتراف، وهو أول تعبير إبداعي صريح في مغادرة فوضى العيش.هكذا راح يستجلي صورة المدينة من ضفتها الثانية، ضفة الحلم، واكتشاف الجمال النائم في أسوار المدينة الخربة بوصفه مخزن روحها السرية.وسوف يكتشف خلال رحلته مع الرسم، على عكس رسوم الرحالة الأجانب، أن مناظر الأمكنة الداخلية، ليست أقل أهمية من المناظر الخارجية، على الأقل فيما يخص الحزن التاريخي الذي يغلف روح اسطنبول، هذا الحزن الذي لم يتمكن رحالة غربيون من معاينته بدقة، أمثال «غوتييه»، و«نيرفال»، و«فلوبير»، في رحلاتهم إلى المدينة، في أواخر القرن التاسع عشر، على رغم أن أورهان باموق، وهو يفحص هذه الكتابات، لم تفا رقه النشوة ، عندما يقع على جملة عابرة، تؤكد خصوصية هذا الحزن، فالرحالة «أعطوني حول مناظر اسطنبول القديمة وحياتها اليومية، أكثر مما أعطانيه الكتاب الاسطنبوليون الذين لا ينتبهون أبداً إلى مدينتهم». ‏

ولعل أبرز ما تعلمه صاحب «ثلج» من هؤلاء هو أهمية اكتشاف المنظر من زاوية حادة، قبل أن ينفتح على المشهد العمومي في زاوية منفرجة، فتحتل النافذة ركناً أساسياً في تسجيل انطباعاته، عندما يرسم منظراً خلوياً ، كما يراه من نافذة بيته، أو ما يخزنه من صور عبر نافذة السيارة في جولاته التي لا ينساها برفقة أبيه «ثمة مشاهد نراها من نافذة السيارة أو البيت أو السفينة، لأن الزمن والحياة ينتهيان بصعود أو هبوط مثل الموسيقا والرسم أو القصص، ولكن مشاهد المدينة المتدفقة أمام أعيننا، ستبقى معنا كذكريات خارجة من الأحلام». ‏

ينهي أورهان باموق مذكراته بفكرة حاسمة، وهي أن جوهر اسطنبول وكيميائها السحرية، لا تحتاج إلى رسام بقدر ما تحتاج إلى روائي، وهو ما فعله لاحقاً بامتياز، ليغدو أكثر كاتب تركي إثارة للجدل. ‏

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...