الطريق إلى غوانتانامو: محاكم تفتيش الألفية الثالثة

01-04-2006

الطريق إلى غوانتانامو: محاكم تفتيش الألفية الثالثة

برمّته، يرصّ شريط البريطاني مايكل وينتربتوم <<الطريق الى غوانتانامو>> (بالاشتراك مع مات وايتكروس مدير توليف فيلمه الفاضح <<تسع أغنيات>> 2004) قوته الدرامية في الادانة وتحميل الجناية السياسية الدولية (الاميركية تحديداً) وزرها الاخلاقي في ما يتعلق ب <<السعار>> الذي أصابها خلال البحث عن مذنبين ينالون قصاص هجمات أيلول، ايا كانوا وفي أي بقعة تواجدوا فيها. وكما كان الطريق الغربي (يوسم اليوم للغرابة ب الامبريالي) الجديد ومسعاه في اختلاق <<عدو جبار في عدوانيته>> كي يحل محل البلشفية المغدورة وشيوعييها التي ظلت تهدد الديموقراطيات ورفاهياتها بتوتاليتاريات شيطانية جُل القرن العشرين، فان تلك الهجمات أطلقت طريقاً علنياً نحو رُهاب جديد يقود متهميه نحو محاكم تفتيش الالفية الثالثة، إما على متن طائرات جوالة أو في زنازين دول عميلة أو في معتقلات سيئة الصيت على شاكلة قاعدة قندهار الجوية قبل ان تتضح معالم ما هو أسوأ: معتقل غوانتانامو على الجزيرة الكوبية بمعسكرَيه <<دالتا>> و<<أكس ري>> (هل نغفل أبو غريب البغدادي؟).
الطريق الاول مورست فيه الجوسسة والحروب السرية والانقلابات المدسوسة (ديكتاتوريات اليونان، البرتغال والتشيلي، الانقلاب ضد مصدق، انقلابا البعثيين في العراق عامي 1963 و1968 من بين عشرات أخرى)، وكان مذنبوها (اي الطريق) حكومات ووطنيات وعزائم شعوب في الاستقلال أو النأي عن الاستقطابات، في حين اختارت نقيضتها في القرن الحادي والعشرين كل ما هو متعلق أو مرتبط بدين وعقيدة واحدة: الاسلام! هنا اختزل، كمرحلة أولى، التجييش السلبي على الاعلام وقدرة تأثيره الشعبي من أجل تبرير لاحقاً الاجتياحات المباشرة المستحدثة باسم <<صليبيي>> المحافظين الجدد. والاستراتيجية هي: الفرد المتورط في الذود عن الدين ضد المُجتاح السوفياتي (يترسم لاحقاً بسحنة أسامة بن لادن الشاب)، يشاكل مع عُصبة أكبر (مجاهدي أفغانستان بكل مليشياتهم وقبائلهم وارتباطاتهم الاقليمية او الشرق أوسطية) تقود الى حكم فئة رجعية (طالبان) التي ستتحول الى أنموذج أوحد ل<<الاسلام الآسيوي>>، ستسلعه ماكينة كارل روف (الأكثر قرباً لبوش الأبن) باعتباره الهُوية الثابتة لكل مسلم (هناك) او من استوطنوا وولدوا (هنا). الى أين قاد هذا كله؟ الى الشبهة الشاملة بدءاً من أصول الدين وتأريخه ومذاهبه وانتهاءً بذمة المسلم الفرد أكان متديناً ام علمانياً، قاراً ام هاجراً! ويتحول بن لادن الى ما يشبه <<القَطِيْعَة>> المعدة للصق على جبهة اي كان.
الشبهة
كلمة <<الشبهة>> هي الوحيدة التي ستبرر صناعة (ومن ثم مشاهدة) شريط الثنائي ونتربتوم ووايتكروس (الأول يترجم عربياً الى <<قرارة الشتاء>> فيما الثاني يعني <<الصليب الابيض>>!! للذين يبحثون عن المرادفات)، على رغم انها مبثوثة خارج عملهما، اي ان نصهما المستَرَد حول الحيف ورعبه الذي واجهه شبان ضيعة <<تبتن>> الانكليزية الثلاثة من أصول باكستانية، منذ وصولهم الى كراتشي وهم في صدد الاحتفال باقتران أحدهم، وانتهائهم سجناء في <<أوجار الكلاب>> في غوانتانامو من دون تهمة، وخضوعهم لعمليات الاستجواب وجلسات التعذيب الرهيبة، مرصود وموثق تاريخياً، وما إعادة صناعتها سينمائيا سوى التبرير للفت النظر نحو تلك الشبهة التي احتلت كل زاوية في العالم حول سحن ولكنات وملبس أولئك <<الارهابيين الآسيويين>> الذين سيتساوى ضمن التشكيك راعي الغنم مع الاكاديمي، والمسلح الملتحي الوافد مع المستثمر المالي!!
وعليه، فمن خاب ظنه في نصهما هو من خانته الحصافة في قراءة تلك الشبهة، فالفيلم يرمي السؤال حول <<المحارب غير الشرعي>> الذي سلعته الدعاية الاميركية منذ التهيؤات الاولى لحرب أفغانستان، اي ان كل الانام على تلك الارض يصنفون منهم، سواء من حمل السلاح او عداهم من العزل، لا فرق!. لحسن حظ ونتربتوم وايتكروس ان تحدث حكاية <<ثلاثي تبتن>> (هم في الواقع أربعة، اختفى أحدهم أثناء القصف الاميركي على مدينة قندوز الأفغانية) وتتسع فضيحتها التي أكدت أيديولوجية الشبهة، ولولاهم لكانت الحرب ضد الارهاب تمر تحت أنوفنا كونها حرب حق أميركي مطلق، وكأننا شعوباً لم نعان أكثر منهم وعلى أمداء وحقب تاريخية طويلة.
شريط <<الطريق الى غوانتانامو>> (حصد جائزة الدب الفضي لأفضل أخراج في مهرجان برلين الاخير) حَصّن إدانته، أولا، ضد أرهاب المؤسسة الاميركية بفروعها باللقطات التلفزيونية الافتتاحية الجامعة بين بوش وهو يعلن مرفوقاً مع (رئيس الوزراء البريطاني ) توني بلير ان: <<ما أعرفه بالتأكيد ان هؤلاء الأشخاص أشرار>>، قبل، ثانياً، ادانته للتواطؤ البريطاني المزدوج في الاستجوابات وجلسات التعذيب، باعتبار ان <<ثلاثي تبتن>> هم مواطنون بريطانيون بالوثائق، متهمون بالارهاب لتواجدهم في أرض عدوة. وينهيها الفيلم بالاعترافات الاليمة لأولئك الشبان وما فعلته التجربة فيهم.
سنتابع، بعد هذا التصريح، وعبر كاميرا ونتربتوم وايتكروس (تصوير بالديجيتال من توقيع مارسيل سيزكيند الذي عمل في أغلب افلام الأول) استعدادات الرحلة الجماعية ومشاركتهم رفيقهم آسيف إقبال (أداء عرفان عثمان) فرحة زيجته المدبرة عائلياً في لاهور (لا يضيع المخرجان وقتاً في تقديم أبطالهما كما هي العادة). تريثهم في كراتشي لفترة وجيزة، سيحول مسار حيواتهم من شبان عاديي الاهتمامات (الفرجة، المآكل، التعارف، السياحة) الى مشتبه فيهم. هل هذا قدر أم تورط مدبَّر من آخرين؟ بعد وصولهم تقرر المجموعة البيات في مسجد بدلاً من الفنادق المُكلِفة، فيما السجال السياسي يمور حولهم بصدد الانتقام الاميركي المقبل ضد طالبان، وإثر سماعهم خطبة زعيم ديني نافذ يقررون التوجة الى أفغانستان، مدفوعين بحمية التعاضد والمساعدة... والقليل من الفضول!! (لا يوضح المخرجان ملابسات تجاهلهم للمخاطر التي تنطوي عليها سفرتهم)، بيد أننا سنفهم لاحقاً ان الورطة الاكبر كمنت في اللغة واختلاطاتها بين <<أوردية>> الشبان و<<بشتونية>> مرحليهم الافغان، ليجدوا أنفسهم مسافرين من كويتا الى قندهار ومن ثم كابول حيث يشتد القصف، وحتى قرارهم العودة الى بلادهم. هنا، تحدث المفارقة الورطة الثانية: الوجهة الحقيقية ليست الحدود بل قندوز (آخر معاقل طالبان)، ليقعوا أسرى قوات التحالف الافغاني الذي سيسلمهم الى المارينز (وثق المخرجان هنا، بشجاعة سينمائية، جريمة الحاوية التي أُبيد فيها عشرات المعتقلين وكشفتها لاحقاً مجلة <<نيوزويك>> الاميركية).
الاعتقال
هذا التجوال السينمائي يُعرَض بحذافيره، مع التقطيع الاعترافي للابطال الحقيقيين ورسمهم، كل حسب تجربته، ل<<طرق>>هم التي ستلتقي في غوانتانامو، وهو ما سيغطي بأحداثه القسم الثاني من الشريط (مدة اعتقالهم استمرت عامين)، ويعقد المخرجان مفتتحه للتصريح المخاتل لوزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد حول ظروف المعتقل: <<لا شك لديّ في ان المعاملة (فيه) حسنة وإنسانية وتتطابق مع فقرات اتفاقية جنيف>>! ومن بعده بوش: <<تذكروا أن معتقلي غوانتانامو هم قتلة لا يشاركوننا القيم ذاتها التي تجمعنا>>، ليرمينا ونتربتوم وايتكروس وسط أكثر المشاهد رعباً في ما يتعلق بالتعذيب والاهانات والقسر الجسدي (جلسات انتزاع الاعترافات على ايدي أعوان ال<<سي آي أيه>> وال<<أف بي آي>> ونظيرتهما البريطانية ال<<آي أم 5>>)، إضافة للتعرض الديني (ركل القرآن الكريم، منع السجناء من أداء الصلاة) والاخلاقي (التهديد بالاغتصاب) والنفسي (جلسات العزل الانفرادي، الارغام على الاستماع لموسيقى صاخبة تصم الآذان، منع تبادل الحديث، المقايضات العديدة لاطلاق سراحهم مقابل التعاون مع المخابرات).
الاشتباه يتحول الى تهمة غير معلنة، ليس للثلاثي وحسب، بل للمعتقلين الآخرين الذين نراهم في الخلفية من دون ان نقترب منهم (يشار اليهم بمقاتلي القاعدة الاكثر خطورة)، فيكفينا ما نراه عبر شبان تبتن، (هناك لمسات إنسانية وثقها المخرجان حسب شهادات الأخيرين، بينهم وبين سجانيهم مثل: مشهد العقرب السام والمحاورة الغنائية وسرد اسماء مطربين شعبيين اميركيين أمثال أمينم)، وسيكون علينا الانتظار قليلاً لنشهد انهيار تهم الشبهة عليهم، ونقابل، فجأة، شباباً أحراراً (يطلق عليهم تندراً لقب الملوك الثلاثة) يبِرْطِلهم الجنود الاميركيون بشرائح البيتزا وسندويتشات ماكدونالدز وفيلم هوليوودي كل يوم أحد!! فالتحقيقات ستثبت بُعدهم عن محور بن لادن وقاعدته! انهم زعران (أحدهم ذو سوابق) قادتهم رعونتهم نحو مغامرة لم تكن في حسبانهم. يعترف آسيف الذي سيتزوج في يوليو 2005 للكاميرا: <<انهم يسعون الى تحطيمك او يجعلونك أقوى، أنا جعلوني أقوى>>، فيما يقول زميله راهول أحمد: <<لقد تغيرت كثيراً، واليوم أُكثر من قيامي بفرائضي عن ذي قبل، وأنا الذي لم أكن أمارسها>>. أما شفيق رسول فلوعة انكساره أعمق واشد فيقول: <<كل شيء فيّ تغير، ما الذي حدث للعالم، إنه مكان سيئ للعيش>>.
السياقات المتعددة في <<الطريق الى غوانتانامو>> (95 دقيقة) هي سلاح سردي فاعل لتدوير أغلب تفاصيل محن <<ثلاثي تبتن>>، انها تتقصى التحول الى كابوسهم الشخصي، لتصبح في ضمير مشاهدها ومتلقيها لعنات وعارا وغضبا ودهشة. والسبب لديّ يكمن في ان سماعنا او قراءتنا للفظائع الاميركية لن تعادل رسوخ رعب مشهدياتها الشيطانية (جهد معتبر من مدير التصميم مارك ديغبي. تم تصوير غالبية مشاهد المعتقلات في إيران والقليل في باكستان وأفغانستان) وهي تسقط أمام أنظارنا، فما كان يعتبر كاستحقاق حربي، سنصدم بكشفه هنا كجلسات انتقامية لا تختلف عما سبق ان مارسه النازي أو يمارسه اليوم الصهيوني أو ديكتاتوريو العالم الثالث. ما الذي تغير حسب <<الطريق الى غوانتانامو>>؟ إنها شجاعة السينمائي في فضح السياسي قبل ان يلف، هذا الأخير، جريمته برداء الرواهِب وحججها. في برلين أعاب البعض على الثنائي البريطاني انه تاجر سينمائياً بقضية أمنية! وينتربتوم الذي حصد الدب الذهبي قبل ثلاثة اعوام عن فيلمه الافغاني <<في هذا العالم>> رد سريعاً في مؤتمره الصحافي ومعه شفيق وراهول: <<من كان يظن، حتى قبل سنوات خمس، ان الاميركيين سيخوضون حرباً وسيحتجزون معتقلين، في كوبا من دون كل بقاع العالم!!>> (مفارقة بريطانية قحة: الشرطة في مطار لوتون الشمالي تعتقل الممثلين الشبان الثلاثة حال هبوطهم من الطائرة قادمين من مهرجان برلين وتخضعهم للاستجواب وسؤالهم عن عزومهم مستقبلاً في المشاركة في أفلام ذات طابع سياسي تحريضي على منوال <<الطريق الى غوانتانامو>>!!). حقاً، من قال انه ليست للديموقراطية أنياب ومخالب.

 


زياد الخزاعي
عن السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...