خفايا اغتيال المهدي بن بركة

10-07-2006

خفايا اغتيال المهدي بن بركة

هذا الكتاب يبحث في تفاصيل جريمة اختطاف المهدي بن بركة في العاصمة الفرنسية باريس يوم الجمعة الموافق 29 أكتوبر/تشرين الأول 1965، اعتمادا على ما توافر من وثائق رسمية تعود للشرطة الفرنسية وكذلك التحقيقات وأقوال الشهود المبعثرة في الصحف الفرنسية.

ففي ذلك اليوم، وبينما كان يهم بدخول مقهى بمنطقة شانزلزيه في منفاه الباريسي منذ عام 1963، تقدم منه رجلا أمن فرنسيان واصطحباه في سيارة كانت متوقفة بعدما تأكدا من شخصيته من أوراقه الثبوتية.

هنا ينتهي الحدث الرئيسي المعروف الذي جرى في وضح النهار حيث يوجد شهود عليه، وتبدأ رحلة الكاتبين الفرنسيين في أنفاق مظلمة بحثا عن الحقيقة حيث إنه لم يعثر إلى يومنا هذا على جثمان الزعيم المغربي، ولم يدن أي شخص إدانة واضحة وصريحة باختطافه وقتله.

الكتاب يتابع بإصرار تقصي الأحداث، ساعة بساعة، التي جرت في العاصمة الفرنسية وضواحيها منذ اللحظة التي ذاع فيها خبر "اختفاء" الزعيم المغربي في العاصمة المغربية، محاولا رسم صورة التطورات التي تبعت تلك الجريمة بهدف معرفة القتلة، سواء الذين نفذوها أو الذين أمروا بها، وهذا القسم يشكل صلب الكتاب حيث إنه يشكل مثالا مهما عن التقصي الصحفي المثابر.

ونظرا للتعتيم الرسمي الذي تفرضه الدولة الفرنسية إلى يومنا هذا، وبعد مرور ما يزيد عن 40 عاما على الجريمة ورفضها الحاسم الإفراج عن وثائقها التي صنفتها "سرية"، ما يوحي بتورط على أعلى المستويات ليس في فرنسا والمغرب فقط، نرى الكاتبان يدخلان دهاليز الاستخبارات والشرطة الفرنسيتان باحثين عن المجرمين الذين عُرف بعضهم، لكن كثيرا منهم اختفى "انتحارا أو قضاء وقدرا"، وكذلك عن وثائق لم تعد موجودة في أقسام المحفوظات.

إن متابعة المؤلفَين هذه المسألة تحديدا تعد من أهم أقسام الكتاب لأنها تكشف وجود تواطؤ ما داخل السلطة الفرنسية آنذاك هدفها منع كشف الجريمة و"أبطالها" الرئيسيين.

أسماء الاشخاص والأماكن من شرطة واستخبارات محلية ودولية وسياسيين وصحافيين ورجال قانون ومخرجين سينمائيين ومومسات وقوادين وفنادق ومراكز شرطة وشقق تآمر وسجون ومدن وقرى، التي وردت ضمن صفحات قليلة من الكتاب، تعد بالمئات ما قد يعقد من متابعة القارئ للأحداث ويفرض أقصى درجات التركيز على تسلسل الأحداث.

وبسبب هذا التعقيد وتداخل الأحداث، قسم المؤلفان الكتاب إلى جزأين أولهما "قصة جريمة"، يشكل ثلث الكتاب ويضم عشرة فصول مخصصة لمتابعة تفاصيل الجريمة وأقوال الشهود والمتهمين. الجزء الثاني "الشهود يتكلمون" ويضم 19 فصلا، مخصص لمتابعة التقصي عبر "الشهود" المباشرين وغير المباشرين.

بعد متابعة مسألة الاختطاف ساعة بساعة، مرافقين تحرك كل مشارك ورد اسمه، ومحققين في ذلك، وكذلك متابعة أقواله، في كل الأمكنة ذات العلاقة، يلاحق المؤلفان القضية مع أعلى سلطة في الدولة الفرنسية والمغرب لكن دون جدوى حيث ترفض تلك الجهات جميعها الإفراج عن الوثائق الرسمية التي صنفت "سرية".

مع أن المؤلفين صحفيان فرنسيان مشهوران (توفي جاك درجي عام 1997، وأتم عمله زميله وصديقه فردريك بلوكان) لم يتمكنا من كشف الجهات المشاركة في الجريمة كشفا يكفي لإدانتها قانونيا في محكمة محايدة، إلا أنهما يصلان إلى قناعة، تعززها قرائن كثيرة، بأن خلفية الاختطاف ومن ثم الاغتيال كانت أكبر من تصفية نظام دكتاتوري لمعارض. فأهمية شخصية المغدور كانت تتجاوز معارضة نظام الحسن الثاني إلى مواجهة شاملة مع النظام الاستعماري القديم، ودخلت حلبة صراع عالمي ضد قوة عظمى.

المهم في الأمر أن الكاتبين يستنتجان أن أربع جهات دولية وقفت خلف جريمتي الاختطاف والقتل، وكانت لها مصلحة مباشرة وغير مباشرة في التخلص من الزعيم العربي المغربي/الأممي:

* فرنسا، حيث يقول الكتاب: "بحسب الظاهر، لم يكن الرئيس الفرنسي شارل ديغول على علم بتحضير عملية الخطف والاغتيال. لكنه في هذه القضية يجد نفسه في مواجهة ألد أعدائه: جماعات الضغط الكولونيالية، ومن أنصاره من اختار الولاء للمحررين الأميركيين، وبعض أجهزة الاستخبارات والشرطة الفرنسيتين وعملائهما، ومنهم الجنرال أوفقير وزير داخلية المغرب الأسبق". ولم يبرئ الكاتبين الإدارة الديغولية من التواطؤ لمنع كشف الجريمة ومرتكبيها.

* الولايات المتحدة الأميركية عبر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) حيث يريان أنها "أثارت" الجنرال أوفقير وحرضته، على نحو مباشر أو غير مباشر، على التخلص من الزعيم المغربي المغدور، مع أنها ليست متورطة على نحو مباشر -على ما يبدو- في عملية الاختطاف والقتل.

لكن الكاتبين يشددان على أن للولايات المتحدة مصلحة ثلاثية في التخلص من بركة هي: تخليص حليفهم المغربي من خطر داهم، إفشال مؤتمر القارات الثلاث في العاصمة الكوبية هافانا، ثم زعزعة الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي كان يأبى الانحياز إليهم (بعدها بفترة وجيزة تركت فرنسا الجناح العسكري من حلف الشمال الأطلسي).

* المخابرات الإسرائيلية: يقول الكاتبان إن التواطؤ بين الحسن الثاني والاستخبارات الإسرائيلية حقيقة أساسية في تاريخ إسرائيل المعاصر، لكن علاقات وزير الداخلية المغربي الأسبق الجنرال أوفقير هي أقل ذيوعا حيث إنه أشرف، ضمن أمور أخرى، على تهجير 130 ألف مغربي يهودي إلى فلسطين المحتلة بين عامي 1956 و1964، وهو -وفق الكاتبين- ما يجعل الإسرائيليين راغبين في ترقيته إلى مرتبة الأبرار.

كما أن أوفقير، بحسب الكتاب، ساعد المخابرات الإسرائيلية في زرع أجهزة تنصت في مقار القمم العربية التي كانت تعقد في المغرب. وقد تصاعد خطر الزعيم المغربي على إسرائيل بسبب أهمية المغرب الإستراتيجية لها، ووقوفه العلني ضدها ومع الشعب الفلسطيني ونضاله خصوصا بعيد حضوره اللافت مؤتمر الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي عقد في القاهرة وإعلان تأييده المطلق لنضال الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل.

* السلطة المغربية: يصل المؤلفان إلى نتيجة مفادها أن الشخص الرئيسي الذي وقف خلف عملية التخلص من بن بركة كان الجنرال أوفقير ومجموعة من معاونيه الذين يذكرانهم بالأسماء. لكنهما لم يتمكنا من تحديد دور ملك المغرب في عملية الاختطاف والقتل ومدى تورطه فيها.

وإذا كان المؤلفان اعتمدا في تقصيهما، المهم للغاية، في أحيان عديدة على ما يعرف قانونيا باسم الإثبات الظرفي، نظرا لعدم توافر الدليل الحاسم ألا وهو جثمان المغدور، فإنهما لا يتخذان من ذلك ذريعة لإغماض أعينهما، فيتساءلان: هل تلاعب به رجاله ووضعوه أمام الأمر الواقع؟ وهل يمكن تخيل رئيس أمن يتخذ وحده مبادرة كهذه؟

ويضيفان: من المعلوم أن الجنرال أوفقير زار الملك الحسن الثاني في قصره بمدينة فاس قبل توجهه إلى فرنسا للإشراف على الجريمة، وأن الأخير أبقى رجاله المتهمين في مواقعهم حتى تآمروا عليه فعمد إلى إعدام الأول والمقربين منه.

ومن ضمن الأمور المهمة في الكتاب أنه يتناول الجريمة ضمن إطارها الدولي فيلحق به فهرس تسلسل الأحداث العالمية الرئيسية التي رافقت مرحلة احتدام صراع قوى "حركة عدم الانحياز" ضد المعسكر الغربي الاستعماري، وتلك التي تلتها حتى عام 1967، ومن ضمنها الإطاحة بمجموعة من قادة العالم الثالث المعادين للولايات المتحدة ومنهم أحمد سوكارنو وكوامي نكروما وأحمد سيكوتوري وأحمد بن بلة، إضافة إلى عدوان عام 1967 الذي أضعف جمال عبد الناصر ونظامه فاتحا الأبواب على مصراعيها لتحولات في "العالم الثالث" على نحو عام، وفي العالم العربي على نحو خاص، نعيش تداعياتها الكارثية إلى يومنا هذا.

ومع أن هذا السرد التاريخي يرد ملحقا في الكتاب فإنه يظهر إصرار المؤلفين على وضع الجريمة ضمن إطارها السياسي الدولي وأبعاده، وهو ما يشرح عنوان الكتاب بالفرنسية "لقد اغتالوا بن بركة: كشف جريمة دولية".

وأخيرا مع أن الترجمة العربية لهذا الكتاب صدرت بدعم وزارة الخارجية الفرنسية، ومع التقدير لهذه المبادرة المهمة ذات المغزى حقا، تبقى مسألة إفراج الحكومة الفرنسية عن الوثائق السرية الخاصة بالقضية مسألة ضرورية، ومطلبا ملحا لابد من الاستجابة له حتى يمكن "إقفال" هذا الملف الرهيب.


- الكتاب: خفايا اغتيال المهدي بن بركة: كشف جريمة دولية
- المؤلفان: جاك دِرُجي، فرِدريك بلوكان
- ترجمة: محمد صبح
- عدد الصفحات: 382
- الناشر: شركة قدمس للنشر والتوزيع (ش م م)، بيروت
- الطبعة: الأولى/2006

 

زياد منى

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...