تاريخ العلاقات بين النظام الأردني والإخوان المسلمين

10-07-2006

تاريخ العلاقات بين النظام الأردني والإخوان المسلمين

التطور البارز الذي يطغى على المشهد السياسي الأردني اللحظة الراهنة يتمثل بالأزمة المتفاقمة بين الحكم وجماعة الإخوان المسلمين، إذ تتخذ مساراً تصاعدياً وترجع لأسباب أبعد من مسألة زيارة أربعة من نواب الحركة الإسلامية إلى بيت عزاء "الزرقاوي".

وإذا كان من الواضح من خلال الممارسة الرسمية، انتصار التيار المتشدد في مؤسسة الحكم وسيطرة المنظور الأمني في التعامل مع ملف "الإخوان"، فإن السؤال الرئيسي يكمن في تحديد طبيعة الأهداف السياسية التي يريد أن يصل إليها الحكم من هذا الضغط غير المسبوق على "الإخوان"، ومدى قدرة "الإخوان" على الاستجابة لها؟

ثمة ديناميكيات رئيسية تحكم الأزمة وتطورها تتمثل أولاً بالمسار التاريخي وتطور مراحل العلاقة بين الطرفين، وثانياً بالهاجس الأمني، وثالثاً بتطور الإخوان في البيئة الاجتماعية والسياسية. وفي المحصلة يساعد إدراك هذه الديناميكيات على بناء مقاربة لمخرجات الأزمة.

مر مسار العلاقة بين الإخوان والحكم في ثلاث مراحل رئيسية ارتبطت بطبيعة الظروف السياسية الداخلية والإقليمية:

المرحلة الأولى، وامتدت منذ فترة تأسيس الجماعة عام 1946 إلى نهاية الحرب الباردة، وامتازت بالتحالف الحذر بين الطرفين ضد التيارات اليسارية والقومية التي سيطرت على الشارع الأردني في عقدي الخمسينيات والستينيات، والمدعومة من بيئة إقليمية معادية (البعث في سوريا والعراق والنظام الناصري في مصر). في تلك الفترة لم تكن شعبية الإخوان تضاهي القوى الأخرى، لكن المواجهة بين "إخوان" مصر وعبد الناصر دفعت "إخوان" الأردن إلى الرهان على العلاقة مع الحكم خوفاً من مصير شبيه إذا تمكن القوميون من السيطرة على السلطة. في المقابل وظّف الحكم "الإخوان" للتأكيد على شرعيته الدينية في وجه الدعوات المضادة.

شهد التحالف بين الطرفين تطوراً ملموساً وكبيراً في عقد السبعينيات، إذ وقف "الإخوان" على الحياد في المواجهة بين النظام والحركة الثورية الفلسطينية في أحداث سبتمبر/أيلول 1970، ورفضوا في الوقت نفسه محاولات هذه الحركات الإجهاز على النظام.

في المقابل ساعد النظام على "إحلال" جماعة الإخوان محل حركة "فتح" والفصائل الثورية في المجتمع الفلسطيني في الأردن، وهي السياسة التي أدت لاحقاً إلى تقوية نفوذ وشعبية الإخوان في المجتمع الفلسطيني-الأردني، ليصبحوا الممثل الرئيسي له في الحياة السياسية.

نهاية "الزواج القسري" بين الطرفين بدأت منذ منتصف الثمانينيات، عندما ضعف كثيراً المد اليساري والقومي وبدأت نزعة التدين السياسي تسيطر على الشارع الأردني.

الصدمة الحقيقية للنظام والإخوان معاً كانت مع عودة الانتخابات النيابية عام 1989، إذ تمكن "الإخوان" -مع إسلاميين آخرين- من اكتساح أكثر من ثلث مقاعد مجلس النواب، وهي النتيجة التي أكدت لمؤسسة الحكم أن "الإخوان" هم القوة الأكبر والأكثر شعبية داخل الشارع الأردني.

المرحلة الثانية، وشهدت اتساع "الفجوة" في فترة التسعينيات، وتآكل القواعد التي بُني عليها التحالف بين الطرفين. فقد دخل الحكم في مفاوضات التسوية مع إسرائيل وتمخض عن ذلك معاهدة وادي عربة عام 1994 التي لقيت معارضة شديدة من "الإخوان"، وبدأ الحكم بسلسلة تشريعات وسياسات تهدف إلى الحد من قوة "الإخوان" ونفوذهم، كقانون انتخابات "الصوت الواحد" الذي خاض على أساسه "الإخوان" انتخابات عام 1993، وأدى بالفعل إلى إضعاف دورهم في مجلس النواب، ثم عُمِّم القانون على الجامعات الأردنية لضرب قوة "الإخوان" فيها. وتزامن ذلك مع تشديد القبضة على المساجد وحرمان "الإخوان" من المنابر التي تؤثر على الرأي العام، وفوق هذا وذاك جرى توظيف تيار "السلفية التقليدية" لشن حرب فكرية وثقافية لإضعاف "الإخوان" داخل المجتمع.

الرد "الإخواني" على التضييق الرسمي تمثل بمقاطعة انتخابات عام 1997 في محاولة لتهديد شرعية الحياة السياسية، إلا أن المقاطعة لم تؤد إلا إلى الإمعان في حصار الإخوان والحد من دورهم في الحياة السياسية.

ورغم الفجوة الكبيرة بين الطرفين في هذه المرحلة، وإعادة كل طرف تشكيل تحالفاته الداخلية والإقليمية، فإن إرث المرحلة الأولى من العلاقة بقي يمثل ضمانةً لعدم وصول العلاقة إلى مرحلة المواجهة، واحتواء الأزمات قبل تفاقهما.

المرحلة الثالثة، وتمتد منذ تولي الملك عبد الله الثاني السلطة عام 1999 إلى اليوم، وامتازت بحالة من الفوضى وسيادة المنظور الأمني وغياب قواعد تحكم المعادلة السياسية بين الطرفين. كانت الضربة الأولى التي تلقاها "الإخوان" قيام الملك الجديد بطرد قادة حماس من الأردن، بذريعة عدم وجود طموح أردني في منازعة عرفات على الشأن الفلسطيني.

التطور الأهم والأخطر في العلاقة -التي تحولت مع هذه المرحلة إلى أزمة مفتوحة- يتمثل بإغلاق القنوات السياسية بين الطرفين، وتحويل الملف الإخواني من المجال السياسي إلى الأمني. وقد برزت مؤشرات متعددة بعدم وجود رغبة من "العهد الجديد" في علاقة سياسية قوية مع "الإخوان"، ما أتى تماماً على إرث المرحلة الأولى وقواعد اللعبة السابقة، وهو ما يعني -من ناحية أخرى- عدم وجود قواعد محددة جديدة متفق عليها للعلاقة.

ترافق ذلك مع أحداث سبتمبر/أيلول 2001 التي أدت إلى تعزيز التعاون الأمني والسياسي بين الأردن والولايات المتحدة، ووفقاً لعدد من الخبراء الأميركيين أصبحت المخابرات الأردنية شريكاً إستراتيجياً في الحرب على الإرهاب، في حين وقف الإخوان على الطرف الآخر -من المعادلة الداخلية- المعادي للسياسة الأميركية.

في هذه المرحلة شهدت الأزمة المفتوحة بين الطرفين تصاعداً في أوقات وتهدئة في أوقاتٍ أخرى، وكانت السياسة الرسمية مبنية على التعامل المرحلي-اليومي المرتبط بطبيعة الظروف السياسية.

وقد بلغت الأزمة عام 2002 إلى حافة المواجهة مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية وضغوط "الإخوان" والشارع باتجاه قطع العلاقة مع "إسرائيل" ومعارضة التطبيع، ومن ثم معركة النقابات 2003 التي قادها وزير الداخلية السابق سمير حباشنة ضد النفوذ الإخواني، إلا أن الظرف السياسي كان حليف "الإخوان" حينذاك وأدى إلى إقالة الحباشنة وخروجه مهزوما من المعركة.

ثم شهدت الأزمة حالة من التهدئة، بل ومجالات من التفاهم الضمني، أدت إلى عودة "الإخوان" للحياة النيابية فشاركوا في انتخابات 2003 وحصّلوا 17 مقعداً، وأظهروا تمثيلاً ساحقاً للوسط الفلسطيني في الأردن. وترافقت التهدئة مع حرب العراق وظهور الدعوة الأميركية للإصلاح التي التقطها "الإخوان" وقدموا مبادرتهم الإصلاحية، معلنين موقفاً فكرياً حاسماً بالقبول بالتعددية والديمقراطية، تلك المبادرة التي رأت فيها "قوىً" داخل النظام رسالة إلى الخارج (الولايات المتحدة) تؤكد استعداد الإخوان لوراثة الحكم!

وصلت الأزمة بين الطرفين إلى حدود خطيرة تنذر بإعادة هيكلة العلاقة جذرياً بينهما. إرهاصات التطور الجديد ترافقت مع انتصار حماس المدوي في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وكان قد سبقه تصريح "ملغوم" لجنرال إسرائيلي -مسؤول المنطقة العسكرية الوسطى- يزعم فيه أن الملك عبد الله آخر الملوك الهاشميين في الأردن، وأن "الإخوان" يهددون عرشه واستقراره، ما زاد التوجس الرسمي. وقد تعالت أصوات إعلامية وسياسية تحذر من انعكاس انتصار حماس على "شهوة" الإخوان للسلطة، وحذرت من خطورة تعديل قانون الانتخابات ما قد يمنح "فرصة ذهبية" للإخوان لتحصيل نسبة كبيرة من مقاعد المجلس القادم وتشكيل حالة إسلامية موازية لحماس.

هذا وذاك تزامن مع تراجع الدعوة الأميركية للإصلاح بعد النتائج المذهلة التي حققتها حماس و"إخوان" مصر، وتدهور الوضع الأمني والسياسي في العراق وبروز أزمة البرنامج النووي الإيراني التي استحوذت على تفكير وتخطيط الإدارة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وأعاد الغلبة -بعد لحظة انقطاع قصيرة- إلى اعتبار المصالح على حساب "المثالية الديمقراطية".

هذه التطورات الإقليمية انعكست على الحالة الداخلية وعززت من أجندة التيار المتشدد في النظام نحو "الإخوان"، إذ تم تضخيم مؤسساتهم الاجتماعية والمدنية، وبدأ الحديث عن "دولتهم" الذاتية الموازية للدولة والسلطة يتحول إلى سياسة للإجهاز على هذه "الدولة الإخوانية".

زيارة النواب الأربعة إلى عزاء الزرقاوي، وتصريحات النائب محمد أبو فارس حول ضحايا تفجيرات فنادق عمان، مثلت "فرصة ذهبية" لإطلاق "الكماشة" على الإخوان ومؤسساتهم.

وبعيداً عن الخطأ السياسي الفادح الذي ارتكبه النواب الأربعة و"الإخوان" في تعاملهم مع الأزمة، فإن الحكم أطلق حملة إعلامية ودعائية لتجييش وتعبئة شعبية ضد "الإخوان"، وجرى تضخيم القصة لتشكل ذريعة لتنفيذ إستراتيجية قضم مؤسسات الجماعة.

ذريعة الحكم في مواجهة "الإخوان" هي أنهم تغيروا وتبدلوا، وأن ثمة اتجاها متشددا ينمو داخل الجماعة بات هو الأقوى والمسيطر. إلا أن المدخل الصحيح لتحول الإخوان ليس جدلية التشدد والاعتدال وإنما ديناميكية التطور والصيرورة، فالجماعة باتت جسماً ممتداً متشعباً يضم آلاف الشباب وشريحة كبيرة من المؤيدين والمناصرين، ولم تعد قادرة على لجم طموحها ورسم دورها على المقاس الحكومي، بل أصبح طبيعياً أن تطالب -وهي تشكل التيار السياسي الأكبر والأقوى المتفرد في الساحة الشعبية- بمزيد من الفرص السياسية وبالانتقال من لعب الأدوار المحدودة المعدة سلفاً إلى الشراكة الكاملة.

هذه المطالب "الإخوانية" تعزز من دعوى التيار المتشدد داخل الحكم، لكنها تمثل في الوقت نفسه استجابة تلقائية لتطور الجماعة، ومهما حاولت أي قيادة إخوانية لجم مطالب القواعد الشبابية الضاغطة أو المطالب المجتمعية الملحة (إذ أصبحت الجماعة بمثابة الوجه السياسي للمجتمع الفلسطيني-الأردني) فإنها لن تعمل إلا على ترحيل الأزمة وتأجيل استحقاقاتها.

الخيارات المطروحة أمام "الحكم" إما المواجهة التي ستحسم صيغة العلاقة القادمة وقوانينها، وإما الحوار والتوافق على نمط جديد من العلاقة يخفف من القلق الرسمي ويلبي شيئاً أكبر من الطموح الإخواني.

المؤشرات واضحة أن الحكم اختار سيناريو المواجهة والتصعيد وصولاً إلى أهداف سياسية محددة، بينما يصعب تصور تراجع "الإخوان" الذين وضعوا في زاوية حرجة، إذ سيشكل قبولهم بالإملاءات والشروط الحكومية هزيمة سياسية مدوية، ففي الأغلب سيُترك لسيناريو الضغوط والردود رسم الملامح العامة للعلاقة.

"المواجهة الرأسية" -كحل الجماعة- غير واردة وستؤدي إلى نتائج كارثية على الطرفين، لكن من الواضح أن الحكم سيعتمد مبدأ القضم وتجفيف المنابع وصولاً إلى تكييف "الإخوان" مع المرحلة القادمة.

ففي الأيام المقبلة سيحال ملف جمعية المركز الإسلامي -العصب الاقتصادي للإخوان- إلى المحكمة بتهمة الفساد، لنزع القوة المالية من الجماعة والاستيلاء على ثروتها المقدرة بمئات الملايين، والتي تشكل دعماً لوجستياُ كبيراً. وسيقوم الحكم بضرب قوة الإخوان في الجمعيات الخيرية وجمعية المحافظة على القرآن التي تمثل مورداً رئيساً للتجنيد البشري للجماعة. كما سيحاكم النواب الأربعة، وهناك اتجاه داخل الحكم يسعى إلى محاكمة الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي زكي بني رشيد عبر دعوى من مجلس النواب.

في المقابل سيعتمد "الإخوان" إستراتيجية التعبئة الداخلية وشد الحزام وتحمل الضربات واستثمارها لتقوية الجبهة الداخلية، ورص الصفوف تربصاً لأية فرصة للانفراج، مع عدم تقديم تنازلات تمثل هزيمة سياسية مدوية للجماعة.

 

محمد أبو رمان

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...