انتفاضة الطلاب والصراع على الفرنكوفونية

01-04-2006

انتفاضة الطلاب والصراع على الفرنكوفونية

يقول سائق التاكسي إن المكان قريب بالتأكيد. قريب أعرف أنا أيضا لكنه كالأحجية التي تختفي تحت قشه. ظل سائق التاكسي يدور وكلما انعطف الى شارع حاد عنه متذمرا، لم يقل شيئا إلا أن على وجهه إمارة من فوجئ به ممنوعا أو مغلقا طوى الشارع ثم التف حوله وعاد يطوي مقلبه الثاني. أحسست بأنه لا يفعل سوى أن يبتعد أكثر عن المكان المقصود، المخفي والقريب، في النهاية فوجئنا بشراذم من شبان تطل من رأس شارع وتتفرق في عرضه. لم يكن صعبا أن نتميز أنهم طلاب. العمر واللباس والسلوك إمارات تدل على ذلك، كنا سمعنا بالتظاهرات فتوقعنا أننا أمام واحدة لكن شراذم الطلاب كانت مسترخية هنا. أما الذي يفاجئ حقا فهو ثلاث مجموعات من الشرطة بدروعها تفرقت تقريبا عند زوايا الشارع. كان المشهد غريبا. مجموعات الشرطة تحاصر مجموعات الطلاب لكن الوضع مع ذلك صامت وعادي. انتظر السائق قليلا قبل أن يقرر أن الشارع، كما ترى، معطل وعذرا إذا طلبت منك أن تنزل، لكن قبل ذلك سأدلك على المكان الذي تقصده. شارع بيار نيكول في أحد مفارق الشارع الذي أمامك. عليك أن تقطع قادومية صغيرة قبل أن تدلف إليه. خذ حقيبتك واذهب إليه سيراً أنه قريب، جررت حقيبتي بين الطلاب وبين الشرطة، لم يكن حملي ثقيلاً لكن فكرة أن أترك في الشارع والبرد مع حقيبتي كانت أشبه بالطرد، دب شيء من الانكسار في نفسي، انعطفت عن خطأ الى شارع خلته امتدادا فرأيتني فورا أمام التظاهرة. صفوف غير منتظمة بأعمار مختلفة وهتافات وفي الوسط فتاة تسير على عصاتين طويلتين بوجه مهرج مصبوغ ولاعب كلارينت وآخر بقناع دمية. في المقدمة يهتفون وفي الوسط يفعلون أشياء أخرى. لم تكن حاشدة لكن الشراذم التي رأيتها من قبل انفلتت بالتأكيد منها. إنها تظاهرات مباغتة وطيارة تحصل في أي مكان وفي أي وقت، بعد التظاهرة كان هناك نوع آخر من الشرطة، عمالقة نحيلون بثياب مخصرة وأكتاف عالية. كان هؤلاء بهذا الطول وذلك اللباس أكثر من أن يكونوا عاديين. ترددت في رأسي وأنا أراهم صور متضاربة من الحرس الإمبراطوري وفرسان الجيوش القديمة ومحاربي أفلام الخيال العلمي. يكفي هذا مع الغيم والبرد والتشرد مع حقيبة لأشعر بأن الأمر كله يمكن أن ينقلب خيالا أو سينما. وراء الجميع وجدت سورا من صفيح وضع لحماية السوربون، كان أتى الوقت لأتدارك خطأي وأعود الى جادة الطريق. أما ما جرى بعد فليس مهماً. قال لي بائع سندويشات بأن شارع بيار نيكول بعد ثلاثة مفارق، لم أركن لما قاله لكن الشارع كان حقا بعد ثلاثة مفارق. في غرفة صغيرة، ذات جدار مائل كدت أرتطم به وأنا أمر تحت زاويته، أرحت ظهري، هنا يصنعون فنادق من أي شيء. لا تعرف كيف يحشرون في أي مستطيل أو مربع سريرا وطاولة وخزانة وحتى حوض حمام (خاصة حوض حمام) ليغدو المبنى فندقا وذا صفة أيضا.
ثورتان
لم أصدق بالطبع أن باريس في ثورة. خلت أن الثورة فقط هي على أغلفة المجلات وطي المقالات. ما رأيته وما سأراه في ما بعد لا ينفي ولا يؤكد. سور الصفيح حول السوربون يوحي بأن العنف ليس مستبعدا. بين المتظاهرين من هم مستعدون لأن يسكتوا بالتحطيم رموزا تزعجهم. رأيت في الجدران كوتين محطمتين من تلك التي توضع في جدار البنك لسحب النقود. لم أر سيارات محترقة أو محطمة كما حدث في ثورات الضواحي لكن ذلك لا يعني أن شيئا من هذا لم يحصل. ثم إن هذا الحشد من الشرطة المستنفرة غالبا في أوضاع قتالية لا يوحي بأي استرخاء. كانت الساعة بعد العاشرة ليلا حين خرجنا من المركز الثقافي المصري، لنرى المتظاهرين يسيرون وعلى مقربة منهم فصيل من الشرطة بثيابهم المريخية وراء دروعهم. الطبل يدوي معهم وعلى إيقاعه يضربون بعصيهم القصيرة على بلاستيك الدرع بدلاً من أن يفعلوا ذلك بأقدامهم، كان هذا بالتأكيد مشهدا فخما لقتال لن يقع. المعركة المستحيلة مختزلة في شبه لعبة بصرية. إنها صورة الحرب وأصواتها فحسب، كان الجنود متشابكي الأيدي وهم يتقدمون فيما يسير المتظاهرون أمامهم غير مكترثين. بين الاثنين مسافة صغيرة أو لا مسافة فبعض الطلاب كانوا يسيرون خلف الجنود. ما يحصل هنا يستمد بعض قوته من الفن. من السيرك والاحتفال الموسيقي من جهة الطلاب، ومن اللوحة الحربية وربما السينما الحربية من جهة الشرطة. هناك التضاد بين الجو الطلابي الميال للعب والذي هو، حتى في استفزازه، لا يخلو من الهزل، ناهيك عن الأقنعة والسير على العصي، وبين مشهد الشرطة القتالي المهيب والصارم والذي لا يملك مع ذلك سوى فعالية بصرية، يمكننا عندئذ أن نفكر بدون تحفظ بأن الحياة بدأت تقلد الفن، على أن اللعبة مع ذلك صارمة ودقيقة ويمكن لأي خطأ صغير أن يتحول الى فضيحة وإلى غلط لا يمحى. كل قوة الجنود وسيرهم القتالي لا يعدو أن يكون للصد. إنهم هنا بالدرجة الأولى ليصدوا الطلاب عنهم وليصدوهم عن التخريب إذا خطر لبعضهم أن يفعل. تشكيلتهم الحربية ودروعهم وعصيهم في سبيل ذلك. أما الطلاب اللاهون العزل فهم الذين يضربون. قد يحضر لبعضهم أن يتناول شيئا عن الطريق ويرشق به الجنود. وإذا تواطأ كثيرون على ذلك كان كارثة للجنود فعصيهم توازي في النهاية أحجار الطلاب وهؤلاء أحرار أكثر في حركتهم. الجنود يواجهون بهيبتهم، إنها حجر لعبتهم الأساس ولكنها لا تزن كثيرا عند الطلاب وربما تستفزهم الى السخرية منها. ولا يعرف أحد الى أين يتدرج شيء يبدأ بحجر صغير، النتيجة هي أن المضروبين والمصابين أكثرهم من الشرطة.
نرى هنا نارا ولا نشاهد فتيانا يشعلون السيارات أو يحطمون الزجاج (تخريب السوربون ليس بعيدا مع ذلك). الصورة بعيدة عن تلك التي شاهدناها منذ وقت قصير في الضواحي الباريسية، مع ذلك فإن انتفاضة 68 على كل لسان. ثمة كاريكاتور يقول فيه دوفيلبان لشيراك انه حقق له شبها وحيدا بديغول ففي عهده تجددت انتفاضة 1968، مع ذلك فإن الفرق بعيد بين الانتفاضتين. بل هما في نظر كثيرين متعاكستان، انتفاضة 1968 كانت ثورة أما هذه فلا. كانت ثورة بمعنى أنها دعوة الى تحرير الثقافة من كل التابوات وكسر كل الأنظمة والخروج على كل القيادات السياسية والنقابية وتحرير العقل والجسد من كل المسبقات، ثورة ثقافية وجنسية وسياسية في آن معا. أما هذه فتقوم تحت علم النقابات وتقتصر على رفض <<إصلاح>> يوسع على أصحاب العمل في صرف العمال الجدد الشبان بعد مضي سنتين على العمل. أي إنها ثورة ضمن القانون ومن أجل القانون وتحت راية القيادات العمالية الرسمية والمكرسة، ربما هذا ما يجعل انتفاضة 2006 قزمة أمام ثورة 1968. بحيث تبدو الأخيرة انتكاسة مجسدة للأولى، فمن بين الدعوات الراديكالية الى حرية جنسية وسياسية وثقافية لم يبق سوى مطلب وحيد هو ضمان العمل. هكذا يجيز برنار هنري ليفي لنفسه أن يقول إنها انتفاضة رجعية. لكن أين هي المسألة.
<<إصلاح>> دوفيلبان هو استمرار <<لإصلاح>> سابق لم تمض أشهر عليه. في الأول أباح دوفيلبان لأصحاب المصانع التي لا يتجاوز عديد العاملين فيها العشرين أن تصرف عمالها الشبان دون ال26 عاما، بدون سبب خلال عامين من تشغيلهم، أما الإصلاح الجديد فيمنح هذا الحق لكل أصحاب العمل.
إذا صدقنا كلود امبير في افتتاحية <<لوبوان>> فإن هذا الإصلاح هو العلاج النهائي للبطالة. من الواضح ان <<إصلاح>> دوفيلبان مبني على حساب كومبيوتري. الشكوى الأساس هي للخريجين الذين تصل البطالة بينهم في الفروع <<الثقافية>> الى 38% فيما تقارب عند المهندسين الصفر وثمة قطاعات لا تجد كفايتها من الخريجين. أرقام النوفيل أوبسرفاتور تراوح بين 11% لدى المهندسين الى 41% لدى خريجي علم الاجتماع وعلم النفس والآداب واللغات. بطالة الخريجين هذه كان علاجها في يوم في إنقاص ساعات العمل بحيث يمكن تشغيل عدد أكبر. علاج لم يكن، أما الآن فحق الصرف للشبان دون ال26 عاما يشجع أرباب العمل على تشغيلهم بدون تحمل كلفة بقائهم في العمل. وفي صرف الشبان لدى كل سنتين واستبدالهم بغيرهم تتحرك العمالة وتنخفض نسبة البطالة. هل هو العلاج النهائي للبطالة كما يقول كلود أمبير، لا يبسط أمبير براهينه ولا نحن نصدقه من دونها. لكن النقابات لم تنتفض عن عبث. ولا الطلاب انتفضوا عن عبث، اللعب بضمانات وحقوق العمل ولو على نحو جزئي هو زحزحة الحجر الأول في بناء سيتقوض مع الوقت حجرا حجرا. والنقابات والطلاب يدافعون هكذا عن البنيان كله، ويعلمون أن التنازل هذه المرة لن يوقف سيل التنازلات. نظرية النخبة الجديدة ومنها دوفيلبان أن قوانين العمل جزء من جمود فرنسا اليوم وعدم التحاقها بعالم اليوم.
في نظر النخبة الجديدة ان مبدأ الدولة الراعية وضمانات العمل تجعل فرنسا تراوح في خندق القرن الماضي. وتحرير العمل من الضمانات وتحرير الدولة من التبعات الاجتماعية شرطان لاطلاق المنافسة الحرة وتحرير الاقتصاد من الثقالات الكبيرة والدخول الفاعل في العولمة الاقتصادية. تستشهد النخبة الجديدة بتفاقم البطالة ومعدلات النمو المخفضة للقول ان فرنسا لن تخرج من ازماتها الا بسياسة جديدة. اما دوفيلبان فيقول ان قانونه ضروري لفتح سوق العمل لخريجي الجامعات العادية ولغير الخريجين في ما هو الآن حذر ولا يقبل في الشروط الحالية الا من تؤهلهم دراستهم في المدارس العليا (جامعات النخبة) للعمل. حجة لم تقنع النقابات والطلاب ولم يقنعهم تعديل يقضي بأن يقيم مكتب توجيه العمل المستخدم الجديد كل 6 اشهر من عمله، ولا ضمانات البطالة الممنوحة فور التسريح. النقابات ومعها الطلاب تواجه ما وراء اصلاح دوفيلبان. ما قالت بسببه <<لا>> للدستور الاوروبي أي انها تواجه حرية اقتصادية تجعل المجتمع وجها لوجه وبدون دفاع كاف امام قوة الرأسمال. الخلاف هو على دور الدولة ومؤسساتها في ادارة الصراع الطبقي وعلى الحقوق المكتسبة للنضال العمالي وأي تراجع ستعقبه تراجعات جديدة.
هذه مع ذلك نظرية قديمة حتى بالنسبة لجزء من اليسار الاوروبي. يأخذون على الدولة الفرنسية انها تسعى الى موازنة مستحيلة بين خفض الضرائب والتقدمات الاجتماعية. يقال ان هذين لا يتعايشان. إما المثال الاميركي والانكليزي وإما المثال السويدي. ومن الصعب البقاء بين بين، ثمة شكوى من اوروبا العجوز التي تمانع في التقدم، لكن اللافت هو ان الصحافة الاوروبية لم تتفهم دائما تحرك الطلاب والنقابات. لم تتفهم العنف الذي اطبق به الطلاب على اقدم جامعة فرنسية <<السوربون>>. لقد مرت قوانين كقانون دوفيلبان في اليونان والمانيا واسبانيا بدون اي رد فعل كبير. تقول صحيفة هنغارية للطلاب، كل شيء لكن بلا ثورات صغيرة. البعض يقولون ان فرنسا لن تخرج هكذا من ازماتها: البطالة، الاندماج العرقي. تعدد الثقافات. الجمود الاداري. يقولون ان التصويت ب لا ضد الدستور الاوروبي وحوادث الضواحي والانتفاضة الطلابية اليوم من مصدر واحد. ان على فرنسا ان تجد لنفسها مخرجا آخر. مع ذلك فإن الانتفاضة الطلابية اليوم تزيد من الشرخ الاجتماعي. انها تطلب كل شيء من الدولة مما دعا صحف الى تسميتها <<ثورة رجعية>>.
ثم انها قد تزيد الشرخ العمالي. لا شيء يؤكد ان عمال الياقات البيضاء راضون ولا فقراء الضواحي غير الجامعيين راضون ايضا. لا شيء يؤكد ان الاكثرية الفرنسية في صف العمال. ناهيك عن ان العنف الذي يصاحب اي تحرك فرنسي بات بالنسبة لكثيرين امرا مبالغا به، هناك من يقول ان الطلاب والنقابات يكافحون ضد العصر. لكن ثمة من يقول ايضا انه عصر كارثي وعولمة كارثية، لا بد من ممانعة والممانعة تبدأ من هنا، لقد بدأت فرنسا عصر الانوار كما يقول مقال في الانترناسيونال هيرالد تريبيون (باريس) وعليها ان تبقى فيه او تبدأ عصر انوار آخر.
اتساءل منذ وصلت اين يكون محل ربيع الشعر الذي يحتفل به كل عام بين ظاهرتين كبيرتين. الاولى الانتفاضة الطلابية والثانية هي معرض الكتاب وضيف الشرف فيه هو الفرانكوفونية.
ربيع الشعر
كان ربيع الشعر منذ تأسس منفردا، من الصعب ان نجده بوضوح في الحياة العامة او حتى في الحياة الثقافية، انه عيد لشيعة خاصة، للشعر ومحبي الشعر وهؤلاء ليسوا اقلية فحسب بل نوع يكاد ينقرض. كانت باريس تغلي وكنا نتوجه الى المركز الثقافي المصري وهو قاعة منفردة في السان ميشال لنغلق الباب علينا ونحتفل بالشعر على مقربة من السوربون المحاطة بسور من الصفيح. وفي الشارع الذي قد يتحول في كل لحظة حرب غوار مدينية. كنا نصل والشارع مقفر تقريبا. مارة قلائل وسيارات قليلة. فالشارع الاكثر شهرة في باريس لا يأمن احد من ان يتعطل في اي لحظة ويتحول الى ساحة نزال. سان ميشال المقفر لا يسر، انه في هذه الحال صحراء مدينية او نوع من خط تماس، لكن احدا لا يدري متى تكون الساعة التي يمتلئ فيها بمتظاهرين هاتفين وشرطة في اثرهم، حصل هذا عندما انهينا الأمسية الثانية، وعلى الرصيف انبلج الشارع فجأة عن هذا المشهد. ما كان ليخيفنا نحن الآتين من بلد المليون متظاهر. وقفنا نتفرج لكن هذه لم تكن حال الجميع. لا شك ان هذا لا يخيف الفرنسيين وحدهم، جو كهذا يعدي حتى العرب المقيمين هناك. اعتذرت كاميليا صبح مديرة المعهد عن حضور عشاء كان مقررا بعد الأمسية، اعتذر الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. تحولوا الى شارع آخر وبقينا خمسة للعشاء. من الحذلقة ان نتساءل عن دور الشعر هنا. ليس تجنيا القول انه صفر في هذه الحال. لا نحتاج الى اكثر من احساسنا. الاحتفالات بربيع الشعر تبدو دائما نوعا من فصح مكسوف، ان لم نقل انها اشبه بتوديعات نبيلة. اما في هذا الجو البارد الماطر الملغوم مع ذلك فإن ربيع الشعراء بدا لواحد متألم الظهر مثلي وقادر بصعوبة على التوازن في مشيه شبيهة بأحد مزعج. كان علينا مع ذلك ان نذهب ومن الرصيف فورا الى المركز فليس بين الشارع والمركز سواه، كان ثمة زجاج يفصلنا عن الخارج، مع ذلك كنا في داخل عميق.
حين دخلت وجدت ان قليلين حضروا قبلي. مع ذلك كانت هناك المضيفة الدافقة مودة، كاميليا صبح. الفرنسي الذي يتكلم عربية سليمة وبلهجة تعلمها في المغرب ويريد في يوم ان يكتب سيرته بالعربية. الأديبة اللبنانية التي سبق لي ان التقيتها في بيروت ولم يعجبها رأيي في شعرها لكنها الآن تقول ذلك بقدر من المغفرة لا استحقه. على جدران المركز لوحات لفنان مصري لا اعرفه. اذكر اسمه الاول عفت. اتفرج ليس بتأن كعادتي، بعض اللوحات ارمقها من بعيد بدون ان اقترب، اقول انه حلمي التوني على شاغال. لم افهم هذا المزيج، بدا لي متنافرا. فكرت بحامد ندا الرسام المصري الذي سبق لي ان تعرفت اليه قبل وفاته اثر زلة قدم. لا اعرف ما الذي احضره الى ذهني. ربما هي قدرته على دمج عناصر شتى في عمل لا يظهر في النهاية سوى اسلوبه الخاص. حين حضر أحمد عبد المعطي حجازي أنيقا وودودا ورائعا ودائما في العمر الجميل ومعه حسن طلب بطلته الفرعونية وبشاشته، تذاكرنا حامد ندا وتقاسمنا معا وراء هذا الزجاج ذكرى بدت في لحظتها واجبة. وحميمة. هذا وجه اعرفه لكن يضيعني عنه انني لم اره من قبل بهذا النحت مصبوبا في ذلك القالب العملاق. لم اسه كثيرا انه وجه واسيني الاعرج الذي اعرفه صورة وها هي تتشخص لي في قامة صخرية هي قطعة حقيقية من جبل. واسيني الاعرج وزوجته الشاعرة زينب الاعرج، اظن انهما اقترنا من قبل بالاسماء. كان هناك اغراق في اللطف. اصدقائي جورجيت ايوب وحسين الشامي وهاشم معاوية وبشير هلال وكاظم جهاد وعيسى مخلوف يتولون رعايتي دائما ولا يتركونني لحظة لتعثري. وراء هذا الحاجز الزجاجي وعلى بعد خطوتين عن الشارع. كان عالم صغير ينبسط ويمور كسجادة فارسية. افراط في الود وفيض مشاعر كأن المناسبة عيد سري او موعد خاص، ربما كان هذا بسبب الحضور المصري. ربما كانت المخيلة الاحتفالية لحياة المدن الكبيرة، وربما بساطة لأن الأمر مجاني لا ثمن لما نعطيه او نأخذه ولا يترتب على ذلك اي دين. حضر جيل لاذقاني، أراه للمرة الاولى ولا يشبه اي صورة توقعتها له. بوجهه الفني دائما وحركاته الطلقة هو اشبه بتلميذ مشاغب او استاذ شارد قليلاً وربما نخشى عليه من ان يتعثر لكنه يفاجئ على المنبر بدقته وانتباهه وبديهته وحساسيته السريعتين. يجد دائما جملته ويجول بحرية في الكلام. كان على جانب المنبر اشبه بواحد من الجمهور لكنه من هناك يمسك الموقف من الوسط، صوتا ثالثا يتقدم الجوقة الصامتة للجمهور ويشركه في اللعبة.
كان مقدراً ان تكون الليلة الاولى في المركز المصري والثانية في قاعة جامعية لكن الطلاب سبقوا الى احتلالها مما جمع الامسيتين في المركز المصري. هكذا دخلتا في بعضهما البعض تقريباً، فقرأ احمد حجازي وحسن طلب وعيسى مخلوف من الامسيتين وزاد عليهم في الامسية الثانية عائشة ارناؤوط وزينب الاعوج وجورجين ايوب. قرأ حجازي نقول قرأ جريا على الفرنسية والاصح انه ألقى او بالاحرى انشد حجازي في الليلة الاولى قصيدته الجميلة <<مرثية لاعب سيرك>>. كان اداؤه حيا ومتحركا، وبصوته الجميل والمتلون رسم اللحظة <<الملحمية>> لسقطه اللاعب الرهيبة في فك القدر. لم ينشد حسن طلب ولكنه هدر بصوت ظل في كامل دويه وهو يخاطب زوجته او يروي الفظائع العراقية. ظل الصوت نفسه والشعر نفسه تقريباً، تذكرت نظرية ابن شيخ التي ترى ان القافية هي غرض البيت العربي، ولم اجدها صائبة كما وجدتها اليوم، فشعر طلب يطلب القافية اولا وسبيله إليها قد يكون حشواً او غير حشو، المهم ان يركز القافية في موضعها. عيسى مخلوف كان الشاعر، بهيئته وصوته وأدائه. فيما يقول لنا لماذا نسافر قال لنا حقيقة الاحتفال، انه وداعية لأنفسنا وللشعر ايضاً. عائشة ارناؤوط قرأت بالفرنسية والعربية شعراً تأملياً. زينب الاعوج كانت المأساة الجزائرية عنوان شعر قرأته بالعربية والفرنسية والعامية الجزائرية، وكان هذا بحد ذاته مؤثراً. جورجين قرأت من <<كتاب البين>> الذي صدر من عهد قريب نصاً على مفترق الأنواع لكنه شعري في صميمه اذ انه كلام على الفسخ الانطولوجي الظاهر والخفي في وجودنا.
الفرنكوفونية
يصعب القول ان ربيع الشعر حدث ثقافي. انه مناسبة يتوخى منها ان تكون تقليداً. فإذا لم يحضر الشعر في يوميات الثقافة فلا بأس من فرضه عيداً سنوياً. الحدث الثقافي كان في مكان آخر، في معرض الكتاب السنوي بل الحدث هو الفرنكوفونية التي هي ضيف المعرض هذا العام ولم تجد مناسبة افضل لاعلان ازمتها. تكاد ازمة الفرنكوفونية تلحق من بعيد بالازمات الاخرى. الدولة المركزية التي تعتد اكثر من غيرها بوحدة شعبها وثقافتها وتقليدها العلماني والتنويري هي التي تجد اليوم في كل هذه ثقالات تعيق تحركها. ما هي الفرنكوفونية؟ احد كبارها ماريز كونري الفوادلوبي (كما في تحقيق ديديبه جاكوب في النوفيل اوبسرفاتور، يقول <<ما افهمه من الفرنكوفونية هو ان فرنسا لا تشارك فيها>>. ببساطة ليست الفرنكوفونية بحسب هذا القول سوى فرنسية الاطراف، وسوى الفرنسية الكولونيالية التابعة بلغة اخرى. اي انها ايضا بحسب كونديه <<فهمت دائماً تبعا لجغرافيا موهومة ترى ان فرنسا هي مركز العالم. لا بأس من ان نستعيد هنا مصطلح كونديه>> النرجسية الثقافية الفرنسية. <<يقول الكتّاب الفرنكفونيون ان هذه النرجسية تكاد تطردهم من سوق النشر والرواج. الفرنسيون كما يقول يان مارتل من كيبك يظنون أنفسهم مالكو لغتهم ولهم وحدهم حق التصرف فيها ولا يعترفون بغيرهم بأي سيادة عليها. هكذا نصل الى مفارقات كبيرة فاشيل مبيمب الكاميروني لم يجد في فرنسا اي اهتمام بكتابة <<ما بعد الكولونية>> لكن الكتاب ما ان صدر بالانكليزية حتى تعددت طبعاته وصار مرجعاً. أما نويل دونغولا من افريقيا الوسطى فلم يجد كتابه <<جوني كلب سيء>> اي صدى في فرنسا لكنه لدى ترجمته عد بحسب <<لوس انغلوس تيم>> بين العشرين كتابا الاوائل في عام 2005. لا بأس اذن ان نتهم الفرنكوفونية بأنها لا تزال لدى الفرنسيين ارثاً كولونياليا، من هنا عجزها وازمتها بحسب حميد سقيف الجزائري إنها تتحول الى جهاز بيروقراطي <<عيناها اكبر من بطنها وذراعاها اطول من قدميها>> وهي بحسبه آيلة الى الزوال وكل الاحتفالات بها لا تنفي انها تسير الى حتفها ولا شيء ينقذها من الكارثة. انه يطرح السؤال الكبير من يتعلم الفرنسية اليوم، الفرنسية كلغة هي بعد العربية من حيث الانتشار>>.من يتعلم الفرنسية قد لا يكون سؤالنا الآن. ازمة الفرنكوفونية تلحق بأزمات اخرى، ازمة الاندماج والتنوع الثقافي وجمود الفرنسيين عند حل مركزي ومبدأي وتقليدي قد يكون في اصل المشكلة. إذا شئنا ان نعطي مثالا معاكسا فالانكليزية. ليست الانغلوفونية إذا جاز التعبير هي الاطراف انها الناطقون بالانغليزية ومن ضمنها الانغليز انفسهم. الادب الانغليزي الكبير اليوم هو من صنع افارقة وآسيويين واستراليين ولا مشكلة. لا يتصرف الانغليز على انهم مالكو لغتهم الحصريون. الفرنكوفونية ليست فقط ارث كولونيالي بهذا المعنى بل هي باغية. يمكننا ان نذكر هنا الحظ السيء لشاعر ومسرحي كجورج شحادة، يخطر لنا ان تكن شرقيته قتلته، وانه قد يكون ضحية للنرجسية الثقافية الفرنسية إن لم نذكر مصطلحا آخر. يمكننا في الاخير ان نذكر بأن امين معلوف حائز غونكور لم ينكر في ندوة لبنانية في معرض الكتاب الفرنسي هذا الارث الكولونيالي للفرنكوفونية، انه انذار. بالنسبة لي اكره ان نؤول الفرنكوفونية الى زوال، انها جزء من ممانعة ثقافية، ووجودها اساسي لكي لا يسقط العالم تحت هيمنة احادية ثقافية. لكن إذا اخذنا بما سبق، على الفرنكوفونية ان تتحرر من إرثها، من نظرتها المركزية، ومن بيروقراطيتها.
بونار
مع عيسى مخلوف ادخل الى معرض بونار، فأكون هذه المرة في صميم باريس، عيسى موكل بالجمال كما كان عمر بن ابي ربيعة يقول عن نفسه، هو في ذوقه، وفي تجواله وفي مطعمه ومقهاه وحديثه ايضا، انه هكذا بين الداخل والخارج بين الفكرة والفعل كما يمكن ان نتكلم بلغة إليوتية. اتأمل بونار بداياته، عارياته. لست في سبيل كلام عن فنه. انه احساس صغير. امام عاريات بونار شعرت ان النظرية الكانتيه لا تصح هنا، إذا كانت التفاحة المرسومة لا تثير جوعنا فإن عاريات بونار يثرن بحق رغبتنا. حين ننظر اليهن يخرجن من حوض الحمام او يتوقفن مديرات ظهورهن الى المرآة فإن نجد ان شهوتنا قد تكون تجمعت في القدم الممدودة او في خسفة الظهر. بل ربما شردنا الى نساء عرفناهن والى لذات عشناها. هذه باريس على نحو ما معمل رغبات معدية او حقيقية، في كل هذه الترجمة نعرف اننا نمتلئ وربما نمتلئ بأحاسيس ورغبات تبدأ تعذبنا ما ان نغادر، ما ان نصير في بيوتنا، تداهمنا على اسرتنا تلك الاشواق المقطوعة في نصفها، تلك المشاعر التي تحول الى شوق إلا في الوحدة والفراق.
ليلة العودة حسن الشامي وبشير هلال وانطوان عبده يناقشون معي الوضع اللبناني، نجوى بركات في سهرة أليفة تراجع معي الرواية اللبنانية. هاشم معاوية في مكتبته التي صارت رسميا من المعالم الباريسية، كاظم جهاد يتحفني بكتابه الضخم عن الرواية العربية. قرابة 400 صفحة كبيرة حول كل شيء. يتاح لي ان اقرأ مقطعا صغيراً. بأي كثافة ونفاذ كتب المقطع، سيكون امامي صباح بارد للغاية مع حقيبتي وفي انتظار الطائرة.
 
عباس بيضون
 
عن السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...