ديوان نيتشه في ترجمة عربية

01-04-2006

ديوان نيتشه في ترجمة عربية

ندر أن ترك مفكر وفيلسوف في الغرب أو الشرق الأثر الذي تركه المفكر والشاعر الالماني فريدريك نيتشه، سواء في عصره أو في العصور اللاحقة. فقد استطاع نيتشه وبخاصة في كتابه الشهير <<هكذا تكلم زرادشت>> أن يحدث زلزالاً حقيقياً في المفاهيم والقيم السائدة ما تزال تردداته المتواصلة تترك أثرها الكبير في نفوس الأجيال المتعاقبة، ليس في ألمانيا وحدها فحسب بل في كل أرجاء الأرض.
على أن معرفة القراء العرب بنيتشه تقتصر في الأعم الغالب على الجانب الفلسفي من شخصيته، في حين أن الكثيرين لا يعرفون شيئاً عن وجوه إبداعه المتصلة بالموسيقى والمسرح، وبالشعر على وجه الخصوص. لذلك فإن الكتاب الشعري الصادر عن دار الجمل في ألمانيا والذي نقله الى العربية الشاعر والكاتب التونسي محمد بن صالح بعنوان <<ديوان نيتشه>> يسد ثغرة واسعة في هذا المجال ويعرّفنا أكثر فأكثر الى وجوه هذه الشخصية الفريدة في إبداعها وتجربتها وتكوينها المعقد. وليس من قبيل الغرابة بالطبع أن يخوض نيتشه غمار الشعر بدءاً من مراهقته الأولى في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الفترة التي أفضت به الى الجنون قبيل موته بسنوات عدة. ذلك ان في فلسفته القائمة على القوة والتفرد وإعلاء الذات ما يتلاءم مع الشعر الى حد بعيد وما يجعل من هذا الفن الشديد الخصوصية وسيلة إضافية من وسائل تعبيره عن آرائه الجريئة وأفكاره الجامحة، خاصة أن نيتشه قد اعتبر في إحدى المراحل بأن الوجود نفسه هو ظاهرة جمالية يتقدم الشعراء والفنانون لإبراز دلالاتها وغائيتها.
يستهل محمد بن صالح القصائد المترجمة بمقدمة مسهبة وغنية يلقي فيها الكثير من الضوء على رؤية نيتشه للغة، لا بوصفها مجرد أداة للنقل والتوصل والابداع بل هي أداة للتقصي والاكتشاف ومعاناة في قول الذات والوجود. وإذا كان ذلك المفهوم للغة هو الذي شكل الرابط الحقيقي بين الشعر والفلسفة عند نيتشه، فإن خياره الشعري كما الفلسفي لم يذهب الى العقل البرهاني الأبولوني المتصل بالانساق والتحليلات المجردة، بل انحاز الى الجسد الديونيزي المتوتر والمنفعل باعتباره الوسيلة الأمثل للتحريض على الفعل كما على الابداع. وهذا التوتر بالذات هو الذي جعل نيتشه في حالة صراع دائم مع نفسه كما مع الأفكار والأساليب المتعارضة من حوله. فهو يعجب بالرومنسية في مطالع صباه ثم ما يلبث أن ينقلب على هشاشتها ومآلها الانكفائي. وهو يعجب بأفكار شوبنهاور المتعلقة بإعلاء الفنون وبخاصة الموسيقى، ثم ما يلبث أن يفترق عن نزعاته المحبطة وميله التشاؤمي. كما انه يؤخذ في البداية بموسيقى فاغنر التي يرى فيها رمزاً نادراً من رموز الفن الشامل والتألق الديونيزي ثم يعود ليرى في صاحبها مجرد دجال شعبي وصورة مثالية عن انحطاط الروح.
مراحل
يقسم المترجم الديوان الى أقسام ثلاثة يضم أولها قصائد الشباب المكتوبة بين عامي 1858 و1871م والتي تجسد المرحلة الرومنسية لدى نيتشه حيث الأشكال تقليدية بوجه عام وحيث تطغى المغالاة العاطفية والبلاغية على الأسلوب. أما القسم الثاني فيعكس مرحلة النضج التي تضم في ما تضمه نماذج من كتابه الشهير <<هكذا تكلم زرداشت>> حيث ينتقل الشاعر من الاسلوب التقليدي ذي الايقاعات العالية والمباشرة الى النثر الشعري ذي الايقاع الداخلي المتوتر والسخرية المرة والألعاب اللاذعة. وهذه المرحلة تمتد الى منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الشذرات التي تمتد لسنتين اثنتين فحسب وتتجه نحو المقطوعات القصيرة والشديدة التكثيف والاختزال في ما يشبه الحكم والأمثال السائرة. وهي مرحلة شديدة القصر سرعان ما يخلد بعدها الشاعر الى الصمت ويغوص في جهنماته الداخلية.
قد يضع ذلك التقسيم المبدئي الذي وضعه المترجم الإطار العام لنمو تجربة نيتشه وتطورها، ولكنه يترك الباب مفتوحاً أمام تداخل المراحل وتقاطعها، حيث ان المساحة المشتركة بين الشعر والفكر لا تعكس بالضرورة مواءمة كاملة بين الاثنين ولا تجعل من النضج الفكري ممراً إجبارياً وحيداً للنضج الشعري. لذلك فإن القارئ قد يجد في مرحلة الصبا الرومنسي قصائد ومقطوعات ذات توتر عال وخيال متوقد وقد يجد في مراحل النضج اللاحقة نماذج باهتة أو ذهنية أو مثقلة بالمقولات الفكرية المباشرة. هكذا نقرأ في شعر البدايات نماذج مشبعة بالعاطفة الحارة ومتحدة بروح الطبيعة من مثل: <<أيتها السحب في الأقاصي/ يا أشرعة بيضاء في المساء المبرق/ كم تتكبرين وتصعدين تحت المد العاصف/ أيها الثدي الرائع من الدمع والبرق/ أرضعني/ أنا ابنك البائس الأبدي/ أيتها الأرض المتوحدة/ يا موضع الإيثار في قلبي/ آه كم أنت بعيدة!>>. كما تشيع في قصائد هذه المرحلة بوجه عام عبارات وصور منتزعة من عالم الطبيعة وتلويناتها وتجلياتها المختلفة كما تشيع حالة مقيمة من الحزن والكآبة والشجن لا تبتعد كثيراً عما نعهده في الشعر الرومنسي السابق على نيتشه أو المجايل له. فهنالك الشمس التي تلمّع حقول الثلج وإنشاد الصنوبر المأتمي والمسافر الذي يحمر عند الغروب مثل قديس والنواقيس التي تئن في الضوضاء القاتمة وغيرها من الصور المنتزعة من أحشاء الطبيعة أو المنبثقة من عذابات الانسان وقلقه وتبرمه بالعالم. إلا أن الارهاصات الأولى لفلسفة نيتشه وتمرده ورغبته في التخلص من إرث الماضي وإصغائه الى نداءات المستقبل ما تلبث أن تخرج من صلب تلك المرحلة المبكرة بالذات وتسفر عن وجهها عبر العديد من الاشارات والرموز، كما يتضح في قصيدة نيتشه <<الى الاله المجهول>> التي نقرأ في سياقها: <<أنت يا من أبحث عنده عن ملاذ/ أنت يا من أقمت له الهياكل الفخمة في أعماق قلبي/ فلينادني صوتك في كل الأوقات../ أيها المجهول أريد أن أعرفك/ أنت يا من تدخل عمق روحي/ أنت يا من تعبر قلبي مثل عاصفة>>.
إلا أن تكوّن المرحلة الثانية في حياة نيتشه الشعرية، والتي يعرّفها المترجم بمرحلة النضج، هي كما تدل النصوص المترجمة الأكثر غنى وعمقاً واكتنازاً بالرؤى والصور والأفكار. ففي هذه المرحلة تتراجع النبرة الرومنسية والعاطفية المباشرة لتحل محلها نبرة المتأمل والرائي والمكتنز بالمعرفة. وفي هذه المرحلة لا تعود الطبيعة مناخاً للحزن والشكوى والتبرم من الواقع بل تتحول الى خلفية دلالية ونفسية ولغوية، فيما تتقدم الى الواجهة أفكار الشاعر وتعاليمه ودعوته الى التمرد والرفض، كما ستظهر في الوقت ذاته نزعاته الاستعلائية التي ترى أن العالم هو ملك النخبة وحدهم فيما ان السواد الأعظم من البشر ليسوا سوى <<رعاع>> تابعين أو هامشيين. وسيصدمنا دون شك أن نرى تلك النظرة الاستعلائية عند الشاعر تطال الكتابة نفسها كما تطال القراءة ايضا. ففي نص له بعنوان <<القراءة والكتابة>> يعلن نيتشه عن احتقاره للقراء التفهاء كما يدعو الكتّاب الكبار الى تجاهل القارئ وإهماله حيث ان القارئ لا ينفع الكاتب في شيء وحيث لن يمر قرن آخر من القراء إلا ويجد الفكر نفسه آيلا الى التعفن. ولا يكتفي نيتشه بذلك بل هو يعلن في مكان آخر أن حق القراءة يجب أن يظل محصورا بالنابهين والمتفوقين وحدهم لأنه <<إذا أعطي الحق في تعلم القراءة لكل إنسان فإن هذا سيفسد مع الوقت لا الكتابة فحسب بل الفكر ايضا>>.
شعر ذكوري
لن نجافي الحقيقة كثيرا إذا قلنا بأن شعر نيتشه، كما فكره، هو شعر ذكوري بامتياز. وهو حين يحتفل بالجسد فإنما يفعل ذلك من منظور القوة والفعالية والصلابة التي تمثلها الذكورة خير تمثيل. فالجسد هو الارادة منظوراً اليها من الداخل، والارادة هي الجسد منظوراً اليه من الخارج، وفق تعبير نيتشه الحرفي. ولأنه المجال الحيوي الوحيد للروح فإن معرفته هي نقطة البدء التي يبني عليها الفكر نظراته وتجلياته، وهو تبعاً لذلك جسد صلب ومتوتر وفاعل. وفي قصيدة له عن الشعراء يغمز نيتشه من قناة أولئك الذين يتعلقون بالنساء باعتبارهم يتعلقون بالسطحية والجدب الفكري، الى حد أننا نتشوق أحيانا <<الى ما تحكيه العجائز في الليل، وذلك ما نسميه: الانثوي الخالد الكامن فينا>>. ولربما كان هذا الاحتفاء بالقوة العضلية هو الذي دفع هذه القوة للتمرئي في نصوص نيتشه وللتعبير عن نفسها في حربين عالميتين مدمرتين. أما بين الجمال الذي تجسده المرأة والقوة التي يجسدها الرجل فقد كان نيتشه لا ينحاز الى الخيار الثاني فحسب بل هو يصرح في المرحلة الثالثة من شعره، حيث المقطوعات والبرقيات المختزلة، بأن الخطر على الرجل لا يأتي إلا من جهة الجمال نفسه: <<الى جانب من يقف الجمال؟/ أبدا ليس الى جانب الرجل/ الجمال يخفي الرجل..>>. 
شوقي بزيع
عن السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...