محاولة لدراسة المشروع الإسلامي من منظور عالمي

18-07-2006

محاولة لدراسة المشروع الإسلامي من منظور عالمي

الجمل : قضية الوحدة الإسلامية من القضايا الكبرى التي شغلت الضمير والفكر الإسلامي طيلة القرن العشرين، وقد عالجتها مقالات وكتب كثيرة، وكانت من أولويات الحركات والجماعات في كل أنحاء العالم الإسلامي.
غير أن المنطلقات التي انطلقت منها التنظيرات والدعوات الوحدوية والتبريرات والتسويغات التي أرادت إقناع الفعاليات الشعبية بالانخراط في العمل الوحدوي؛ لم تكن - في تقديري - لتنتج وحدة إسلامية، لأنها في كثير من الأحيان كانت تنطلق من إثارة العواطف وتهييج المشاعر مستندة إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدعو إلى وحدة الصف وعدم التفرق والتنازع.
وكانت هذه الدعوات تثير قضية المصير المشترك والعدو المشترك الذي يتمثل في الصهيونية الإسرائيلية، وفي الاستعمار الغربي، وفي الدعوات الإلحادية، فتبين ضرورة الوحدة لمواجهة الأخطار المحدقة والأعداء المشتركين.
والوحدة في خطاب أكثر التجمعات والأفراد في العالم الإسلامي لم تكن تعني أكثر من تماه للبعض في البعض الآخر، فكل جماعة تطرح لنفسها مشروعاً نهضوياً شمولياً، يفلسف الواقع ويرسم المستقبل، ويضع المبادئ النهائية الكاملة للعودة بالمسلمين إلى سالف عهدهم وتليد مجدهم، ويحدد الطريقة الوحيدة الصحيحة للتعامل مع النصوص وفهمها، ولا يقبل من الآخرين إلا الطاعة والخضوع، ولا يضع في حسبانه إمكانية الخطأ في الفهم والتحليل الذي يقدمه، واشتمال المجتمعات الإسلامية على تنظيرات كثيرة لوقائع متشابهة، ولا يؤمن بضرورة الاعتراف بالآخر ضمن الإطار الإسلامي ثم ضمن الإطار الإنساني، حتى لا تفني الجهود بعضها بعضاً، وحتى لا تتصادم القوى، وليتحقق التكامل والتواصل والتعاون المثمر.
إن الذين طرحوا قضية الوحدة كانوا يبحثون عن مبرراتها ومسوغاتها، ولم يكونوا يبحثون عن هدفها وغايتها ورسالتها تُجاه المسلمين والعالم، كانوا يشعرون أن الوحدة ضرورة، ولذلك يجب أن تُحشد جميع الأدلة المؤيدة والداعية لها، وقد فعلوا ذلك فأتوا بالأدلة وقدموها وضخموها، ولكنّ جهودهم لم تؤد إلى الوحدة، ولم تشكل قوة فكرية وروحية ملهمة للشعوب لتقدم الغالي والنفسي إلى سبيل الوحدة.
إن إثارة العواطف لا تثمر عملاً منتظماً مبرمجاً، بل ردات فعل هائجة غير متعقّلة ولا محسوبة.
والوحدة التي تقوم على أساس مواجهة العدو المشترك لا تسمى وحدة، بل تحالفاً بين أناس تجمعهم قواسم مشتركة تتمثل في وجود هذا الخطر أو العدو، حتى إذا ما زال الخطر أو العدو لم يكن للوحدة مبرر، فتعود الصراعات إلى سالف عهدها، ويعود التشتت والتفرق مرة أخرى.
والتحالف يمكن أن يقوم بين أي فريقين تجمعهما قواسم مشتركة سواء أكانت هذه القواسم مواجهة عدو مشترك، أم الوقوف في وجه خطر محدق، أو تحقيق مصلحة لأطراف هذا التحالف.
أما الوحدة الإسلامية، فأرى أنها ينبغي أن تبنى على مشروع نهضوي رسالي عالمي، يقوم على تحليل الواقع العالمي، ومعرفة طبيعة الصراعات والنزاعات فيه، وتحديد النقطة التي وصلت إليها البشرية في الشمال والجنوب، تمهيداً لإيجاد البديل الأعدل والأنفع والأرحم للناس كل الناس.
وأعتقد أن وضع العالم اليوم يشير إلى أنه وصل إلى نقطة صار فيها التغيير حتمياً، كما أعتقد أن الإسلام مؤهل لأداء دور رئيسي في هذا التغيير، وهذا ما سأبينه في بحثي هذا، حيث أنطلق من عرض تجربة مالك بن نبي في هذا المجال، إلى تحليل موجز لوضع العالم منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن، وللعلاقات السائدة في العالم اليوم، ثم نبين المقدمات الفكرية التي قامت عليها فلسفة الغرب ونظرياته حول الإنسان والحياة، والعواقب التي تنتج عن اعتماد مجتمع ما على هذه المقدمات والفلسفات، ثم نصل إلى إبراز العوامل التي تجعل التغيير العالمي أمراً حتمياً، وأخيراً نطرح رؤيتنا عن الدور المنتظر من الإسلام أن يؤديه لإيجاد بديل آخر.
مالك بن نبي وفكرة الأفريقية الآسيوية:
من خلال اطلاعاتي المتواضعة لم أجد أحداً غير المفكر المسلم مالك بن نبي وضع المشروع الإسلامي في إطاره العالمي، عبر الدور القيادي الذي يُنتظر من العالم الإسلامي القيام به في منظومة الدول الأفريقية الآسيوية (دول العالم الثالث)، والتي يتعين عليها النهوض لتحقيق السلام والعدل والمساواة في العالم، لتجاوز الحالة الغربية المهيمنة، والقائمة على الاستعلاء والاستغلال والقهر، والتي أوصلت العالم إلى الخلل الذي يعيشه الآن.
كتب مالك بن نبي كتاب (فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج) في عام 1956م، ليؤرخ للّحظة التاريخية التي اجتمع فيها ممثلوا تسع وعشرين دولة أفريقية وآسيوية، لتشكيل تجمع حيادي يسعى للعمل والسلام، ولإيجاد منطقة سلام مقابل مراكز القوة والحرب الباردة السائدة في محور الشمال، محور موسكو - واشنطن.
في هذا الكتاب شرح مالك بإسهابٍ الأزمة التي وصل إليها عالم المستمر والمستعمَر، عالم الكبار والصغار، عالم المتقدمين والمتخلفين، والتحول الذي حدث بمؤتمر باندونج، حيث اجتمعت قوى الجنوب وشعوبه لترفض الحتمية المصطنعة التي كانت تعيشها من التبعية إما لموسكو أو واشنطن، ولتؤسس لنفسها عملاً مشتركاً ذا رسالة تتوجه بها إلى العالم، فتتخلص هي أولاً من الاستعمار والقابلية للاستعمار، وتخلص العالم ثانياً من الحلقة المفرغة المهلكة التي وصل إليها.
لقد شرح بإسهاب إفلاس الغرب وعجزه عن قيادة العالم، وازدواجية معاييره، ثم تحدث عن ذهنية التعايش أو الوجود المشترك أو الاستعمار المشترك التي سيطرت على محور المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، حيث تحول هؤلاء من التنافس على المستعمرات والتقابل من أجل الهيمنة على مصادر الثروة والنفوذ إلى الاشتراك في استعمارها، ثم شرح رسالة أبناء محور الجنوب، محور طنجة - جاكرتا، الذين اجتمعوا في باندونج تجاه بعضهم بعضاً، وتجاه العالم كله، وبيّن دور العالم الإسلامي في تحقيق هذه الرسالة.
وكان مالك بن نبي يرجو لكتابه أن يُسهم في إرشاد وتوجيه حركة التوجه الأفريقي الآسيوي، ويأمل أن يأخذ هذا الكتاب حظه الوافر من الدراسة والبحث.
ولكنه وبعد خمسة عشر عاماً تقريباً من كتابة الكتاب، كتب مقدمة لطبعته الثانية قال فيها: «يقول المفكر الفرنسي (دي بونالد) المعاصر للثورة الفرنسية: (إن ما صنع الثورات هو دوماً الكتاب من الإنجيل إلى الميثاق الوطني)، إذا صحت هذه النظرية في الأشياء البشرية، وإنني أعتقدها صحيحة، نقول: إن مؤتمر باندونج سنة 1955، وبعده مؤتمر القاهرة سنة 1957، قد جمعا كل شروط ثورة العالم الثالث، إلا شرطاً واحداً، وهو شرط إطلاق الشرارة الفكرية الضرورية لإضرامها» [مالك بن نبي، الأفريقية الآسيوية/12]. فقد كان ينقص التوجه الإفريقي الآسيوي الهدف أو الفكر أو الرسالة التي يتوجه بها إلى العالم، ومن دون هذا الهدف لن تتكاتف الجهود، ولن تنهض هذه الشعوب، ولن تتوجه قواها.
لقد كان كتاب الأفريقية الآسيوية أحد أبرز الأعمال التي قُدمت في هذا القرن في العالم الإسلامي، والتي كان يُقصد منها تأسيس الجانب الفكري النظري للأعمال الوحدوية أو المشتركة بين دول الجنوب، أو الدول الأفريقية الآسيوية، أو الدول المتخلفة كما يراها الغرب، وضمن هذه الدول، وفي موقع القلب منها، يقع العالم الإسلامي كله.
الغرب والعالم والمفهوم المتجدد للاستعمار:
خاضت شعوب العالم الحرب العالمية الثانية بين عامي 1939 و1945 تحت راية الغرب، لمواجهة النازية والفاشية، والتزم أبناء المستعمرات بالجبهة المعادية لألمانيا، فحارب الجزائريون مثلاً إلى جانب الفرنسيين، وكذلك السوريون.
وكان منتظراً من هذه الحرب بعد أن قضت على العنصرية والروح الاستكبارية التي دفعت ألمانيا بقيادة هتلر إلى غزو العالم، كان منتظراً منها أن تلد عالماً جديداً مناسباً لمتطلبات الإنسانية، عالماً يسوده العدل وتتحقق فيه المساواة بين الجميع، وتمحى منه ظاهرة الاستكبار والاستضعاف.
كان منتظراً من هذه الحرب أن تعلّم الجميع: المنتصرين والمنهزمين أن منطق التطور الإنساني أصبح يفرض عليهم روحاً جديدة، وفهماً أكبر لطبيعة الإنسان وقابليته للرقي أو الانحطاط، للتزكية أو التدسية.
لكنَّ نشوة الانتصار، ولذة الفوز والظفر أخذت بألباب المنتصرين وأنستهم عهداً قريباً كانوا فيه، فلم يتذكر الفرنسيون مرارة الاحتلال الذي مورس عليهم، ولم يتذكر الانجليز حمم القذائف التي كانت تهطل على بلادهم وتحيل قصورهم ومنازلهم إلى ركام حرب، وأعماهم ذلك عن استحضار الحالة التي كانوا عليها أيام الحرب، فنكصوا على أعقابهم، وأشاحوا وجوههم عن عبر التاريخ وضروراته وحتمياته، ورفضوا التغيير الذي هلّت بشائره والتفوا على الوقائع الجديدة التي أفرزتها الحرب بعد مخاض تاريخي طويل.
لقد بشرت وقائع الحرب بولادة عالم كلمة السواء الذي لا فضل فيه لأبيض على أسود ولا أصفر على أحمر، لكنّ الولادة تعسرت، فولد الولد مشوهاً، ولدت الأمم المتحدة، ولدت شريعة الغاب الجديدة، ولدت آلهة الظلم والاستكبار باسم جديد، وثوب قشيب، وملمس ناعم، لكن لم تكن الأمم المتحدة مولوداً جديداً، وإن كانت تحمل اسماً جديداً، وكما يقول محمد إقبال:
 تلوَّنُ في كل حال مَنَاة  شاب بنو الدهر وهي فتاة
حق الفيتو والاستعمار المشترك:
لقد أوجدت الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد استخدام القنلية الذرية، أوجدت حالة صار مستحيلاً على مراكز القوة أن تفكر في إمكانية حل المشكلات فيما بينها بواسطة الحرب التقليدية والصراعات العسكرية، وساعد على ذلك التقدم التنكولوجي والصناعي، فالعالم صار معرَّضاً لاحتمال الزوال والاضمحلال إذا ما جرّب أحد أصحاب الترسانات النووية استخدام ما لديه، وفي هذه الحالة فإن أياً من الطرفين المتصارعين لن ينجو من الكارثة المحققة.
هذا الوضع الجديد الناشئ في العالم ظل مسكوتاً عنه طيلة السنين التي مضت، ولكن التعامل بين مراكز القوى كان قائماً على أساس منه، ولم يكن السباق المحموم في التسلح إلا أسلوباً لإخفاء حقيقة انتهاء الحرب بين الكبار، واستحالة وقوعها عملياً.
ووجدت ساحات جديدة للصراع كان أولها ساحة العالم الثالث، حيث سعى كل طرف إلى استقطاب أكبر قدر ممكن من الشعوب والدول من محور الجنوب ليستثمرها ويسخرها في صراعه الجديد وفي المحافظة على مستوى رفاهيته العالية.
وباعتبار أن التغلب العسكري الحاسم صار مستحيلاً، وأن الغالبية التي تطمح إليها مراكز القوى إنما هي امتلاك الرفاهية والسيطرة على خيرات العالم وموارده، واستثمار الشعوب وتسخيرها، فقد نشأت سياسة عالمية جديدة تقوم على التعايش بين الكبار واعتراف كل واحدة منهم بمصالح الطرف الآخر ومناطق نفوذه، وكتعبير عن السياسة الجديدة كان حق الفيتو الذي منح للدول المنتصرة في الحرب الثانية.
هكذا حلَّ المنتصرون مشكلة بقائهم وسيادتهم، وأخذوا من جديد يستنزفون ثروات العالم، ويهمّشون الشعوب الأخرى ويحتقرونها، مبررين نظرتهم هذه بكون هذه الشعوب غير مؤهلة للحضارة، وغير قادرة على استيعاب العلوم والإبداع فيها.
وباعتبار هذه الشعوب - في نظرهم - على هذا الحال فهي غير جديرة بالاحترام وغير صالحة للتعامل معها من منطلق كلمة السواء، ولا يمكن تركها لتقرر مصيرها بنفسها، ولتدير ثرواتها وثقافاتها ومواردها كما تشاء.
ومرّة أخرى نجد الغرب يغضُّ الطرف عن معطيات التاريخ وحقائقه التي تُظهر بوضوح التشابه الكبير بين التجارب البشرية في كل المجتمعات، فأوربا التي تقود العالم اليوم كانت في مؤخرته، ولم يمنعها تأخرها السابق من الوصول إلى سدّة السيادة في العالم بعد ذلك: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَليكُمْ} [النساء 4/94].
ولو أن ألمانيا النازية انتصرت في الحرب لما كان باستطاعتها أن تفعل أكثر مما تفعله الأمم المتحدة، فألمانيا شنت الحرب لتحقيق سيادة الإنسان الألماني المحروم من المستعمرات، والدول المنتصرة حققت سيادة الرجل الغربي الأبيض وسيطرته على العالم كله، ودون أي حساب، فصار العالم الغربي الذي يشكل 11% من سكان العالم مستهلكاً لـ80% من إنتاجه، بينما يستهلك الـ89% الباقون 20% من الإنتاج فقط.
لقد أعيدت صياغة الاستعمار بقالب جديد، ليناسب متطلبات المنتصرين، وليقدم لشعوب العالم نموذجاً جديداً في شكله، لكنَّ مضمونه معروف منذ زمن بعيد.
وتم ترسيخ الأصولية الغربية التي يقول فيها روجيه غارودي: «الواقع أن الأصولية ولدت، في العالم الثالث وبكل أشكالها، من زعم الغرب منذ عصر النهضة فرضَ نموذجه الإنمائي والثقافي... الأصولية الغربية هي العلّة الأولى، ثم ولدت كل الأصوليات الأخرى رداً على أصولية الغرب» [غارودي، الأصوليات المعاصرة/ 12].
نظام عالمي جديد، ولكن ليس فيه أي جديد:
وظل قانون التعايش أو الاستعمار المشترك سائداً ومستمراً طيلة الحقبة الممتدة من عام 1945 حتى سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات.
وحين لاحت في الأفق نهاية الاتحاد السوفييتي، ونهاية العالم ذي القطبين؛ تعالت الصيحات، وكتبت آلاف المقالات والأبحاث مبشرة بولادة نظام عالمي جديد، واستبشر الناس خيراً، وأخذوا يقلبون وجوههم باحثين عن معالم هذا النظام العالمي الجديد، إلى أن صدرت شهادة ميلاده التي حددت هويته وشخصيته، وأعلنت أنه عالم يحافظ فيه أصحاب الامتيازات على امتيازاتهم، وأن قطبه الوحيد هو الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب كله.
لقد بشروا بنظام عالمي جديد، لكنهم لم يأتوا بأي جديد.
إنهم مرّة أخرى يحتالون على التاريخ والشعوب، فيأتون بخرافاتهم القديمة ويلبسونها حلّةً قشيبة برّاقة، ويسمونها اسماً جديداً، ليسحروا أعين الناس، ويؤخّروا ميلاد العالم الجديد.
الغرب ومسألة الآخر:
كل ذلك في إطار العلاقة مع العالم الثالث أو دول الجنوب، أما فيما يتعلق بالعلاقات داخل المجتمعات الغربية، وبين أفراد هذه المجتمعات، فإنها تقوم على أسس مختلفة تماماً، وهذا ما أطلق عليه مالك بن نبي مصطلح: الحضارة الجذبية أو السلوك الجذبي أو الأخلاق الجذبية التي تمثل كل فضائل الغرب ولكنّ إشعاعها لا يمتد إلى خارج نطاق الجنس الأبيض. يقول مالك بن نبي: «فالفضيلة الغربية لا وجود لها بالنسبة للعالم لأنها لا تشع على عالم الآخرين، والغربي لا يحمل فضائله خارج عالمه هو، فخارج حدود الأوربية لا يكون إنساناً، بل أوربياً، وهو لا يرى بعد ذلك إنساناً بل مستعمَرين، فهو يتحرك ببرجه العاجي كما يتحرك الرحّالة بخيمته، وهو حيثما ذهب، سواء كان صانعاً أو مخبراً صحفياً أو مجرد سائح في بلد متخلف، يُنشئ عن قصد أو غير قصد ما يسمى حالة استعمارية» [مالك بن نبي، الأفريقية الآسيوية/ 42].
فحقوق الإنسان أمثولة عظيمة، ولكن لا وجود لها خارج نطاق عالم الغرب، وحين تقوم جماعات أو أفراد ي إحدى الدول الغربية بأعمال إرهابية وعنيفة؛ فإن جميع آليات وميكانيزمات ومناهج البحث العلمية في كل الاختصاصات تتوجه مثل طواقم الإسعاف إلى هذه الظاهرة، لتدرسها من كافة جوانبها، وتبحث في أسبابها الموضوعية: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية... أما إذا حدثت أحداث مشابهة في إحدى دول الجنوب، سواء في العالم الإسلامي أو غيره، فإن الساسة والكتاب الغربيين لا يتورعون عن التصريح بأن هذا العنف ناشئ عن طبيعة هؤلاء المتخلفين الهمج فهم عنيفون إرهابيون بطبعهم، ولا داعي لدراسة ظاهرتهم هذه على النحو الذي درست به الظاهرة الغربية!!.
إنهم يعترفون بالآخر، ولكن ضمن الإطار الغربي وضمن الحدود العرقية والثقافية للغرب، وبهذا الاعتراف تمكنوا من الاستفادة من بعضهم، فحصل التكامل بين جهودهم، ونشأت الأعمال المؤسساتية القائمة على جهد الفريق لا على جهد الفرد، واستطاعوا بذلك أن يوفروا لأنفسهم ومجتمعاتهم الرخاء والرفاهية، وسخروا العالم كله لتحقيق مصالحهم، وتأمين متطلبات الاستهلاك المتزايدة والمتسارعة.
لقد حققوا طموحاتهم الاقتصادية والسياسية في المجال الحيوي الذي اعتبروه جديراً بالاعتراف والاحترام والاعتبار، بينما يتضور ويموت جوعاً في كل يوم في دول العالم الثالث عدد يفوق العدد الذي قتلته القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما، على مرأى ومسمع العالم المتحضر!!..
إنني بهذا الكلام لا أنكر فضائل الغرب، ولكنني أحاول أن أنظر إليها من منظور كوني عالمي تاريخي، لأرى موقعها وجذورها، ومقدار توافقها مع حاجات البشر ومتطلبات التطور التاريخي الذي وصل إليه العالم.
وإن من أكبر الفضائل التي يعيشها الغرب في داخله تلك الحرية التي يتمتع بها أصحاب الثقافات والأديان والمذاهب حيث يستطيعون الصدع بآرائهم ومعتقداتهم، والجهر بها، ودعوة الناس إليها، وتسخير ما يستطيعون من أجل إبرازها وإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من الناس.
ولكن هذه الفضيلة الكبرى لا تنطوي على احترام لتلك الثقافات والأفكار والمعتقدات، بدليل الاحتقار والازدراء الذي يُنظر به إلى أصحابها، فهم في نظر الغرب ليسوا إلا أناساً متوهمين يتمسكون بالأفكار والمعتقدات والثقافات التي تمنع من ارتقائهم، وتحجزهم عن الاندماج في الثقافة والقيم الغربية التي هي وحدها تجعل الإنسان إنساناً.
إنهم واثقون من أن تلك الحواجز الثقافية والدينية والفكرية لن تصمد طويلاً أمام الضربات التي تسددها لها اقتصاديات السوق والماكينة الاجتماعية التي تطحن كل من لا يحصّن نفسه بسياج من الأنانية والجشع والطمع. وأكثر من ذلك فهي لن تصمد طويلاً أمام التوضيب الإعلامي الذي يَسْخر في كل لحظة، وبكل ما أوتي من قوة وقسوة، من كل القيم الأخلاقية والإنسانية سوى تلك التي تخدم مبدأ اللذة الذي هو قوام مجتمع اقتصاد السوق.
هذا التعاطي مع الثقافات الأخرى أشبه ما يكون بتعاطي الطبيب مع مريض عجز الطب عن شفائه، وحكم حكماً جازماً بحتمية موته بعد حين قصير من الزمن، ولم يعد مجدياً معه النظام الغذائي والدوائي، فقال له: افعل ما شئت، وكُلْ واشرب ما شئت.
فليفعل أبناء الثقافات الأخرى ما شاؤوا، ولينشطوا في دعوة الناس وتغييرهم، وليحاولوا جهدهم أن يحافظوا على قيمهم وهويتهم المميزة، فإنهم لن يستطيعوا فعل شيء، لن يستطيعوا مواجهة قيم اللذة والإغراء والاستهلاك، ولسوف يزولون أو يندمجون في هذه الثقافة.
هكذا يتعاطى الغرب مع الثقافات الأخرى، ولذلك لا يجد ضيراً في نشاطات أبنائها وممارستهم لأفكارهم وسعيهم للحفاظ على قيمهم الخاصة.
إنهم يرون في النموذج الغربي للثقافة والقيم النموذج الأمثل، النموذج الذي حاز الخير كله، النموذج الذي يناسب كل الناس، النموذج النهائي الذي يمكن للبشر أن يصلوا إليه، ولذلك أطلق مفكرهم (فرانسيس فوكوياما) في بداية التسعينيات نظريته عن (نهاية التاريخ) التي يعلن فيها السيادة الأبدية للنموذج الغربي، وذلك وفق تصوره للتاريخ والإنسان.
غير أنه بإعلانه هذا إنما أعلن نهاية النموذج الغربي لا نهاية التاريخ، ولعله لا يدرك حقيقة الأزمات التي يعاني منها العالم، وخاصة العالم الغربي، والتي أوصلته إليها قيمه، أو لعله يعرف حقيقة هذه الأزمات ويُرجع أسبابها إلى ممانعة ثقافات الجنوب وتأبّيها على الاندماج في الماركة الغربية، والاعتماد الكلي على مقاييسها وموازينها.
مقدمات الفلسفة الغربية وعواقبها:
إن فسلفة الغرب ونظرياته حول الحياة والكون قامت على مقدمتين اثنتين، وهما كما يحددهما (إريك فروم):
«1 - إن الهدف من الحياة هو السعادة، أي تحقيق أقصى متعة، أي إشباع رغبة أو حاجة ذاتية تعنّ للمرء (مذهب اللذة الراديكالي).
2 - إن الأنانية والسعي لتحقيق المصلحة الشخصية والجشع - وهي الصفات التي يولدها النظام من أجل تسيير أموره - تفضي إلى الانسجام والسلام» [إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر/21].
هذه المقدمات التي قامت عليها فلسفة الغرب وحضارته كانت ممارسة يومية حياتية لثلة الأغنياء الذين عاشوا في عواصم الإمبراطوريات والدول عبر التاريخ، ولكنها لم تكن في يوم من الأيام فلسفة لحضارة كاملة إلا في القرون الأخيرة، حيث اعتبر فلاسفة كثيرون في الغرب أن تحقيق الرغبات هو سبيل السعادة التي هي هدف الحياة، وقد ساد هذا المذهب، مذهب اللذة، سيادة تامة في العصر الحالي، وترسخ أكثر فأكثر منذ الحرب العالمية الأولى.
وقد نقض إريك فروم هذه المقدمات حيث يقول: «وتدل التأملات النظرية - إذا وضعنا الطبيعة البشرية في الاعتبار - على أن الحياة وفقاً لمذهب اللذة الراديكالي لا يمكن أن تؤدي إلى السعادة، كما تبين أيضاً السبب في ذلك. ولكن، حتى بدون تحليل نظري، تثبت المعلومات التي تقع تحت ملاحظتنا، بوضوح تام، أن طريقتنا في الجري وراء السعادة لا تثمر حياة طيبة، فنحن مجتمع من الناس التعساء، على نحو مزر، نعاني من الوحدة، والقلق، والاكتئاب، والاتكالية، والنزوع التدميري... ويشعر الناس فيه بالسرور حين يبددون الوقت الذي يبذلون جهوداً مضنية لتوفيره.
إن مجتمعنا هو أكبر تجربة أجريت للإجابة عن السؤال: هل اللذة - كوجدان سلبي، في مقابل الوجدان الإيجابي والرفاهية والمرح - يمكن أن تكون هي الإجابة المقنعة لمعضلة الوجود الإنساني؟» [إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر/24].
ثم يتبع ذلك بتنفيذ المقدمة الثانية للحضارة الصناعية الغربية والتي تقول: إن السعي لتحقيق المنفعة الفردية يؤدي إلى الانسجام والسلام والرفاهية المتعاظمة للجميع فهي تؤدي إلى تفشي الأنانية والجشع، والسعي إلى الامتلاك بدل المشاركة، وإلى صراعات مستمرة ومتفاقمة.
إن اعتبار الاستهلاك هو القيمة التي تسمو بالإنسان وتحقق له وجوده وسعادته لا يمكن أن يكون مبدأ مرشداً لعالم تسوده العدالة والمساواة وعدم الغش، لأن الإنسان الذي تصنعه هذه القيمة هو الإنسان الذي يسعى للإجابة عن سؤال: ما الذي يجب أن أفعله لأشبع رغبتي وأحصل على متعتي الشخصية؟ بدل السؤال: ما الذي يجب أن أفعله لأحقق إنسانيتي وسموي ورضاي عن نفسي؟ أو: ما الذي علي أن أفعله لأحقق خير الإنسانية؟
وهكذا أركض وراء رغبتي ومتعتي، دون أن أقيم أي اعتبار للآخرين أو للبيئة، وقد تكون رغبتي جامحة وهدامة، لكنها في كل الأحوال مبرّرة أيديولوجياً وفق مبدأ اللذة أو الاستهلاك، بدءاً من الهدر والتبذير في الأشياء الخاصة، وانتهاءً بالمخدرات والشذوذ الجنسي وتعذيب الآخر وحتى قتله.
فرغبات الإنسان وغرائزه إذا أعطيت مشروعية فلا يمكن ضبطها أو السيطرة عليها.
وقد وجد في فلاسفة وكتاب الغرب من يبرر العنف والقسوة وتعاطي المخدرات: «فقد اعتبر (هوبز) أن السعادة هي التقدم المطرد دائماً من شهوة لشهوة، ويصل (لاميتري) إلى حد تحبيذ تعاطي المخدرات، حيث هي تعطي على الأقل وهماً بالسعادة، ثم هناك (دي ساد) الذي يعتبر إشباع دوافع القسوة أمراً مشروعاً طالما هو رغبة موجودة تطلب الإشباع» [إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر/ 23].
الواقع العالمي وضرورة التغيير:
لقد استنفذت نظرية الغرب قوتها، ووصل العالم إلى مرحلة خطيرة، فتفاقمت المشكلات في كل من عالمي الشمال والجنوب ولم تعد سياسات الاستعمار الجديد والتعايش المشترك قادرة على الصمود في وجه المشكلات المتفاقمة، كما أن قيم اللذة والاستهلاك وما تؤدي إليه من هدر كبير في الإمكانات والثروات، وتهديد للبيئة والموارد الطبيعية، هذه القيم لم تعد صالحة لدفع جهود الإنسان وحفظه على المعرفة والعمل، فهي تخلق إنساناً منكفئاً على ذاته غارقاً في لذّاته، لا يشعر بأي توحّد أو رابطة عاطفية مع مجتمعه وأسرته والعالم من حوله، إنساناً أنانياً متكبراً يحتقر الآخرين الذين لا ينتمون إلى مجتمعه وعرقه وثقافته.
ولا يمكن لثقافة تربي إنسانها هذه التربية، وتوجهه هذا التوجيه أن تلد عالماً جديداً تسوده العدالة وتلغي فيه الامتيازات، ويصير الناس فيه يتنافسون في فعل الخير لا الشر.
والثقافة التي لا تعترف بالآخرين، ولا تحترمهم لا يمكنها أن تقودهم أو تفيدهم، فهي محجوبة عنهم بحجب الاستكبار والاستعلاء، وهم محجوبون عنها بحجب الهوية الخاصة والثقافة المتميزة، ولا يمكنهم أن يرضخوا لها لأن رضوخهم يعني زوالهم التام.
والعالم اليوم صار مترابطاً متصلاً، وغدت الكرة الأرضية متقاربة الجهات، ولم يعد ممكناً لأبناء محور الشمال أن يستمروا في نموذج وازدهارهم بمعزل عن أبناء محور الجنوب، فالكوارث البيئية والأمراض الفتاكة، والحروب الأهلية والإقليمية غدت آثارها متعدية إلى العالم كله، إضافة إلى مشكلات الهجرة المتزايدة من الجنوب إلى الشمال التي تهدد بتغيير التوزع الديمغرافي للسكان والثقافات في دول الشمال، فالمهاجرون يتوفدون ويتناسلون باطراد، والسكان الأصليون يتناقصون ويعرضون عن الزواج والتناسل.
وهناك كارثة أخرى هي وجود مئات الملايين من الجائعين في دول الجنوب، فقد أعلن مؤتمر قمة الغذاء الذي عقد في روما في أواسط شهر تشرين الثاني عام 1996م أن في العالم ثمانمائة مليون جائع، وأنهم سيصلون إلى مليار عام 2000م.
إن العالم المترابط المتقارب المتجاور الذي خلقته التكنولوجيا الحديثة متجه اتجاهاً حتمياً إلى تعاون أوثق، تفرضه حقيقة أن المصير الإنساني صار مشتركاً، وأن الحياة المستقرة لا تُبنى إلا بمساهمة الجميع.
ولم يعد للتنافس السلبي، تناس القوة والضعف، أي جدوى وصار لزاماً على العالم أن يخلق نوعاً جديداً من التنافس والتسابق.
ولكنّ قيم الاستهلاك ومبدأ اللذة، تؤدي دوراً معاكساً لاتجاه التاريخ، وتعرقل مسيرة الإنسانية، وهي عاجزة عن إيصال العالم إلى حياة أفضل من التي يعيشونها، ولذلك نرى أن التغيير العالمي يحتاج إلى رسالة جديدة، تحتوي قيماً جديدة، وتعطي للحياة الإنسانية بعداً آخر غير الاستهلاك واللذة الجسدية.
إن عالم اليوم متشوق تشوق الأرض العطشى لماء السماء، متشوق إلى رسالة الكرامة الإنسانية، رسالة المساواة بين البشر، رسالة العطاء قبل الأخذ، رسالة العواقب الأنفع في الدائرة الشاملة لكل الناس أبيضهم وأسمدهم، شماليهم وجنوبيهم.
دور الإسلام في بناء نظام عالمي بديل:
قبل أن نتحدث عن الدور المنتظر من الإسلام أن يؤديه تجاه العامل، لإحداث تغيير في العلاقات، لا بد أن نقول: إن على العالم الإسلامي قبل أن يبدأ دوره العالمي أن يتخلص من العوائق والأمراض التي تحجبه عن الاستفادة مما هو واقع تحت يده من ثروات تاريخية وطبيعية وبشرية، وعليه أن يبدأ بتحويل أمثولاته ومبادئه إلى فعل اجتماعي في الحياة الواقعية، وأن يتجه إلى الأجنة القرآنية الضامرة والمستبعدة من مساحة تفكيره ليتسنبتها ويرعاها، وهي الأجنة المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والدستوري، وهذا يحتاج إلى إصلاح وتجديد في الفكر الإسلامي وإخراج له من دائرة الفتاوى الجاهزة الصادرة عن أناس مختصين في قضايا اللغة والتراث فحسب ولا علاقة لهم بواقع العلوم الحديثة والقضايا المستجدة.
نحن بحاجة إلى انطلاقة فكرية لا تحد بحدود، ولا يوقفها خوف الخطأ، لأن الخطأ هو الخطوة التي لا بد منها للوصول إلى الصواب، والذين لا يخطئون هم الذين لا يعملون ولا يفكرون.
إننا بحاجة إلى تحرير الاجتهاد وإلى فتح آفاق الحياة والمعرفة أمام شباب العالم الإسلامي، ولم يعد مفيداً أن نوقف التفكير والاجتهاد والإبداع خشية الانحلال الاجتماعي، لأن الانحلال يتسلل إلينا والغزو الثقافي يجتاحنا، وليس لنا إلا أن نطلق الشباب من الحجر الفكري الذي مارسه علينا الآباء والأجداد، ونمارسه بدورنا على الأجيال اللاحقة بنا، عندها سيخطئ هؤلاء الشباب، ولكنهم سوف يصيبون، وسوف يقوى عضدهم، وسيبدعون في كل مجالات الحياة، وسيوجهون إبداعاتهم لخدمة قيم العالم الجديد، عالم السلام والإسلام والعدل والرحمة والتنافس في فعل الخير وتقديم النفع للناس.
وإذا تتبعنا القيم الموزعة في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم  فإننا نجدها قيماً متقدمة سابقة، ومؤهلة لأن تكون الأسس التي يمكن أن يبنى عليها النظام العالمي الذي يسير العالم نحوه، وهي ليست قيماً خاصة بالإسلام الذي جاء به محمد ، بل هي قيم كل الرسالات الدينية والإصلاحية عبر التاريخ، إنها قيم الأنبياء جميعاً والآمرين بالقسط من الناس.
فالإسلام يجعل من الناس أمة واحدة، ولا يفرق بين البشر بسبب انتماءاتهم العقائدية أو العرقية، ويأمر المسلمين بأن يتوجهوا إلى الناس جميعاً بالبر والقسط، إلا الذين يُكرهون الناس ويُخرجونهم من بلادهم بسبب معتقداتهم، فهؤلاء يجب أن يواجه عملهم هذا ويقاوم.
والإسلام لا يجعل من الاستهلاك مقياساً لقيمة الفرد وشعوره بوجوده، وبدل ذلك فإن المشاركة والعطاء هما الوسيلتان اللتان تعطيان القيمة والشعور بالرضى، ومن هنا فإن الإسلام يحرّم الاحتكار والأنانية، والبحث عن المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة، أو على حساب مصلحة أفراد آخرين.
وفي موضوع السلام العالمي يستطيع الإسلام أن يقدم للعالم رسالته في نبذ العنف، والعنف هو: كل الممارسات والضغوط الجسدية والنفسية التي يقوم بها طرف ضد آخر لإلزامه بقبول فكرة ما أو موقف ما غير الموقف الذي يعتقده ويراه صحيحاً بناء على قوة الفكرة فقط.
ومبدأ اللاعنف هو المبدأ الذي دعا إليه ومارسه الأنبياء جميعاً والمصلحون والآمرون بالقسط من الناس أيضاً خلال التاريخ، وترمز إلى هذا الموقف قصة ابني آدم التي وردت في القرآن الكريم في سورة المائدة: {واتلُ عليهعِمْ نبأَ ابنيْ آدمَ بالحَقِّ إِذْ قرَّبا قُرباناً فَتُقُبِّلَ من أحدِهِما ولم يُتَقَبَّلُ من الآخر، فقالَ: لأَقتُلَنَّكَ، قالَ: إنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ من المُتَّقينَ، لئِن بَسَطْتَ إِليَّ يَدَكَ لِتَقتُلَني ما أنا بِباسِطٍ يديَ إِليكَ لأَقتُلَكَ إِني أخافُ الله ربَّ العالَمين} [المائدة 5/ 27 - 28].
وقد حكى الله تعالى عن الأنبياء جميعاً موقفهم هذا وقولهم لأقوامهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيتُمونا} [ابراهيم 14/12]. وقد عبر عن الموقف ذاته كثيرون منهم تولستوي وغاندي. وفي الجانب الإسلامي اتخذه كل من مالك بن نبي وجودت سعيد منهجاً واضحاً له.
ولكن ماذا يعني مبدأ اللاعنف؟
اللاعنف يعني رفض الاستغلال الناتج عن هيمنة القوة الجسدية، اللاعنف هو الفصل التام بين معركة الأفكار ومعركة الأجساد، والذين يقبلون بهذا الفصل يكونون قد قبلوا بمبدأ التنافس في تقديم الأنفع للآخر، إذ إن معركة الأفكار، حيث يقوم كل طرف بالسعي لإثبات فكرته، هي معركة يسعى فيها كل واحد في سبيل إقناع الآخر بأن ما يقدمه هو الأنفع للجميع، بينما معركة الأجساد هي معركة يقوم فيها كل طرف بمحاولة إخضاع الآخر وتذليله تمهيداً لتسخيره واستغلاله.
إن الذين يقبلون باللاعنف هم أولئك الذين ينشدون عالماً جديداً لا استكبار فيه ولا استضعاف، عالماً ينال فيه كل إنسان نصيبه بحسب ما يقدم من جهود ومنافع للآخرين لا بحسب ما يملك من قوة وهيمنة وخداع ومخاتلة وإيهام وكذب وإغراء.
اللاعنف هو قبول فكرة {لا إكراهَ في الدّين} [البقرة 2/256]، لأن الله يرفض الدين الناتج عن الإكراه، يرفض النفاق، ويرفض استلاب الإنسان ونبذه من أجل دينه أياً كان دينه.
وإن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية صار مشدوداً نحو عدم العنف من منطلقين اثنين:
1 - منطلق استحالة استخدام القوة كأداة لحل المشكلات وتحديد مناطق النفوذ والهيمنة، وهذا هو منطلق المنتصرين في تلك الحرب الذين أوجدوا سياسة التعايش فيما بينهم، وحلّوا مشكلاتهم على حساب دول الجنوب. وهذا اللاعنف ليس ناتجاً عن مبدأ راسخ، بل هو تكتيك يخفي في داخله إرادة الهيمنة، والسعي لإخضاع الآخر وإفساد حياته والجلوس مكانه، وهذا ما حدث بين الحلف الأطلسي من جهة والاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية من جهة أخرى.
هذا التكتيك هو التعبير الجديد عن معركة الأجساد، وعن التنافس في الإساءة، ولكن بمظهر السلام والتعايش.
2 - منطلق الذين يؤمنون بأن دوّامة العنف لا تفضي إلى نظام عالمي أو محلي راشد، وأنه لكي نحرر أنفسنا ومجتمعنا من صراع الإساءة ونصل بالناس إلى التنافس في فعل الخير فلا بد من نبذ العنف، والبدء به يكون من طرف واحد، كما يجب أن يكون هذا الاتجاه مبدأً لا تكتيكاً.
إن اللاعنف والتعايش الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية بين أقطاب محور الشمال لم يكن مبدأً بل تكتيكاً، وهو وإن كان فيه تجاوز كبير، لكنه يحوي بذرة التنافس في الإساءة، لأنه يقوم على القيم نفسها (اللذة والاستهلاك) التي كانت سائدة قبل وأثناء الحرب، والتي من أجلها كانت هذه الحرب والتي سبقتها.
لذلك فإن اللاعنف المبدئي لا يمكن أن يقوم إلا على قيم مختلفة تماماً عن قيم الحضارة السائدة اليوم، قيم تعطي للإنسان بعداً يتجاوز اللذة والاستهلاك.
ولكنني أعتقد أن رسالة الإسلام إلى العالم، وقيمه الإنسانية التي تقوم على العدل والاحترام الكامل للآخر، لا تزال بعيدة عن سمع العالم وبصره، ويحول بينها وبينه وضع العالم الإسلامي ومفاهيم المسلمين عن الإسلام والآخر.
فالمسلمون لا يزالون يحلمون بفتح البلاد وتدويخ العباد وجباية الخراج والجزية، والهيمنة على العالم.
إنهم لم يصلوا بعد إلى أن كلمة السواء لا يطلب فيها التوحد أو التماهي بل رفع الإكراه عن الناس، وعدم السعي لممارسته عليهم من كل الأطراف وتجاه كل الأطراف.
وهم لا يدينون الأمم المتحدة وحق الفيتو لأنهم يرفضون المبدأ الذي قامت عليه، بل لأنه ليس لهم، إذ هم الذين ينبغي أن يمارسوا حق الفيتو لأنهم يعتقدون بأنهم أبناء الله وأحباؤه.
وأعتقد أن الأمر الذي انتقدناه على الغرب وهو كونه يجعل اللذة والمتعة هدفاً يجري الفرد لتحقيقه بغية تحصيل السعادة، هذا الذي أخذناه على الغرب موجود وممارس في مجتمعاتنا الإسلامية إلى حدّ كبير، سواء أكانت ممارسته مفلسفة ومبررة أم كانت عفوية لا شعورية.
وهكذا فإن المسلمين لم يعوا بعد قيم إسلامهم، ولم يدركوا الوضع الذي وصل إليه العالم وحاجته إلى البديل الأرحم والأشمل والأعدل.
ثم إن من مستلزمات العالم الجديد التي يمكن للإسلام أن يسهم في إيجادها قضية نشر العلم والمعرفة بين الناس، فالحرية دون معلومات لا تساوي شيئاً واللاعنف القائم على الجهل لا يمكن أن يعني غير الجمود والخمول والعجز، ولكي يكون لدى الإنسان خيارات متعددة ينبغي أن يملك معلومات واسعة، والقرآن يقول: {إنَّ الّذين يكتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ البيِّناتِ والهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ للنّاسِ في الكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاّعِنونَ إِلاَّ الّذينَ تابوا وأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتوبُ عَلَيْهِمْ وأَنا التَّوابُ الرَّحِيمُ} [البقرة 2/ 159 - 160].
أخيراً أود أن أقول: إن ما قدمته في هذا المقال لا يعدو أن يكون إشارة إلى مفاصل أراها مهمة في ساحة العمل الإنساني، الذي نسعى نحن المسلمين لأن يكون لنا مشاركة بارزة فيه، لإنقاذ العالم من المأزق الذي أشرنا إليه في موضوعنا.
ونرى أن المنطلقات التي أشرنا إليها مهمة في عملية البناء الحضاري المنوطة بالمختصين، فهي معطيات أفرزتها تجارب التاريخ وتشهد لها وقائع الحاضر.

محمد نفيسة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...