روحانية الشرق ومادية الغرب

18-07-2006

روحانية الشرق ومادية الغرب

من قديم والكتاب والفلاسفة قد تعرفوا على وصف الشرق بالروحانية، والغرب بالمادية!
فما هي معنى هذا ؟
 لقد سمعت كثيراً من المثقفين ثقافة واسعة ينكرون هذا ويقولون: إن الغرب غني بماديته وروحانيته، الشرق فقير في ماديته وروحانيته. أما أن الغرب غني بماديته، فليس يحتاج إلى دليل ولا برهان، فالصناعات والاختراعات والآلات ونحوها، كلها من الغرب، وليس الشرق إلا عالة عليه. أما روحانية الغرب، فتتجلى في سمو عواطفه وحبه للخير لأمته، وأحياناً للإنسانية كلها، وهو في هذا يفوق الشرق أيضاً. إن شئت فانظر لتبرعات من الغربيين ببناء المستشفيات والمؤسسات العلمية والأعمال الخيرية، مما
لا يبلغ عشر معشاره الشرقيون، فهؤلاء أغنياء الشرق، لا يفكرون إلا في لهوهم وملذاتهم، فإن ارتقوا
قليلاً، ففي أسرتهم وأقاربهم، ولذلك لا نرى منهم تبرعاً لعمل خيري، إلا أن يكون ملقاً لوزير أو مدير،
أو رغبة في رتبة أو نياشين، وكثيراً ما نسمع عن غربي خرج عن ماله أو أكثره لعمل ينفع قومه، وقلما نسمع ذلك عن الشرقي، ولكن نسمع الكثير عن شرقيين ابتزوا أموال غيرهم، أو اغتصبوا عملاءهم الفقراء، أو غشوا في المعاملة أو ارتشوا لقضاء مصلحة أو نحو ذلك، فأين هي روحانية الشرق، ومادية الغرب؟
         وإن كانت روحانية الشرق عبدة وصلاة وصياماً ونحو ذلك، فما قيمتها إذا لم تؤثر في
عمل المؤمن؟ ما قيمة صلاة يتبعها سلب ونهب؟ وما قيمة صيام لا يمنع صاحبة من جشع وطمع؟ إن
العبادة إذا كانت على هذا النحو كانت حركات ميكانيكية، أو ألعاباً بهلوانية، وكانت هي والعدم سواء.
ولكن يظهر لي رغم ذلك، أن للشرق روحانية ليست للغرب، وأن من الواجب إذا نظرنا للشرق، ألا ننظر إليه فقط في عصر تدهوره وانحطاطه، وإلا ننظر إليه في شكله الأخير الذي ساء، بل في جوهره
الحقيقي، وقيمته الذاتية وتعاليمه ومبادئه غير مقيدة بعصر، ولا مرتبطة بزمن.
 إن الغرب من غير شك يحيا حياة مادية بحتة، بمعنى أن حياته عمل في مصنع أو شركة أو وظيفة بحسب حسابها المادي فقط من مرتب وأجر، وكيف يناله على خير وجه، كيف ينفعه على خير وجه، وكيف ينعم بهذه الحياة، وكيف يكسب خير كسب، وينفعه خير إنفاق، وكيف يعيش في أسرته، وكيف يحظى بالنعيم المادي ألخ. . وكل الأخلاق الحسنة المرسومة له أخلاق تجارية، تعمله كيف ينجح في التجارة، وكيف
ينجح في العمل، وكيف يسعد في الحياة، ولذلك كان أهم قوائم الفضائل عنده المحافظة على المواعيد، والنظام، والترتيب، والصدق في القول والعمل إلخ، والذي يسيطر على هذه الحياة، يرسم خططها،
ويخترع آلاتها، هو العلم، والعلم نتيجة العقل والقضايا المنطقية، وهي أمور كذلك مادية بالمعنى الواسع.
          أما الشرق فعماده قديماً وحديثاً القلب لا العقل، فإن كان ولا بد فالقلب أولاً والعقل ثانياً: هو يدخل في حسابه دائماً الحياة الآخرة بعد الموت، ويضمها دائماً إلى حساب الدنيا، وهو دائماً يتساءل هل هذه الأعمال يكافئ الله عليها في الآخرة بالثواب أو العقاب.
وأخلاقه التي يسير عليها مبينة على حساب هذه الآخرة أيضاً، وهو كثير السؤال عن غاية هذا
العالم ومصيره، وأنه مسير بقوة عظيمة هي قوة خالقه، وأنه سيحاسب الانسجام في الآخرة على
ما قدمت يداه في دنياه، وهذه الصورة مركزة في ذهن الشرقي، وموروثة له أباً عن جد، فهو في أشد
أوقات النعيم في الدنيا يشعر بحافز يحفزه إلى أن يَسأل ما عاقبة هذه اللذة بعد الموت؟ وهل أثاب
عليها أو أعاقب؟ وما سيكون موقفي أمام الله إذا سألني عنها؟ وهكذا هو يبني أخلاقه على أساس
الدين، ويبني أعماله على أساس القلب، ولهذه الطبيعة الشرقية والاستعداد الفطري الخاص كان الشرق
منبع النبوات والفلسفة الإشراقية ومذاهب المتصوفة، وإطالة التأمل، ونحو ذلك من مظاهر الحياة
الروحية، فإن ظهرت نفحات من ذلك في الغرب فمصدرها غالباً الشرق، واليهودية والنصرانية
والإسلام والتصوف في الغرب ليس إلا موجة من موجات الشرق.
 يكاد يكون للشرقيين عنصر خاص ينقص غيرهم، وهو الإحساس الديني العميق الذي يلازمهم
حتى في أوقات خروجهم عن الدين، ولذلك كثيراً ما يعقب المعصية تنبه الضمير الديني، والمبالغة
في التوبة والندم، إنهم يؤمنون في كل حركاتهم وسكناتهم وتصرفاتهم بإله يسيرهم وقَدَر يتحكم فيهم.
 قد يأتي على الشرق زمن تفسد فيه عقيدته ويسوء تصرفه، وتنحط مشاعره، فتصدر عنه أعمال خسيسة لا تصدر عن الغرب المادي، ولكن هل يصح أن نعدّ هذا العارض إفساداً للذاتية وفقداً للخاصية،
أو نعده حاسة أصيبت بآفة مع الرجاء في شفائها، أو جسماً أصابه المرض وفيه حصانة تبشر
بالشفاء، لو حكمنا بالظاهر لقلنا إن مادية سليمة تخضع للعقل وتنجح في الحياة، وتسيطر على العالم خير
من روحانية فسدت، ومبادئ قويمة تعفنت، ولكن ليس هذا إنصافاً في الحكم، فما نتيجة هذه المادية الناجحة؟ إنها مدينة روّعت العالم، وجعلته على بركان يوشك أن ينفجر، وهو كل يوم في اختراع جديد يهدد
العالم بالفناء، فما قيمة القوة إذا كانت محطَّمة، وما قيمة القصر المزوّق إذا ساد سكانه الفزع، ولو أنك
سألت أسرة أوروبية هل تفضل أن تعيش عيشة بذخ وترف وتفقد أبناءها في الحروب، أو تعيش عيشة وسطاً ولا يهلك أحد منها في حرب، فما الذي كانت تفضل؟ إني لفي شك من قيمة المدينة الغربية إذا
نحتن قسمنا ما أنتجته للعالم من شرور بما أنتجته للعالم من خيرات، فما قيمة آلات وأدوات ومخترعات بجانب أرواح تحصد، وطمأنينة تفقد، واستغلال قليل من الناس للكثرة الغالبة من العالم يرهقونهم ويسومونهم سوء العذاب، ذلك لأنهم قالوا : « إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ».
         ولو آمنوا بالبعث وضموا إلى دنياهم آخرتهم، وقدروا أنهم سيقفون أمام الله يسألهم عن أعمالهم، لكانت المدينة غير المدينة، ولكانت مدينة مادية روحانية معاً، وهذا ما ينقصها ولا يصلح العالم إلا بها،
وإذ ذاك يكمل الغرب نقصه فيزيد في روحانيته، ويكمل الشرق نقصه فيزيد في ماديته، ويسير الركبان
جنباً إلى جنب لخير العالم وإسعاده.
 وما الغاية لهذا العالم؟ ما سر الحياة؟ لماذا نعيش؟ ولماذا نموت؟ ما موقفنا بعد الموت؟ .
كل هذه ونحوها من عشرات الأسئلة لا يستطيع العلم أن يجيب فيها غذ ليست من الأمور المادية، وأشبهها التي تدخل في اختصاص العلم، إنما هي من الروحانيات التي لا يستطيع الإجابة عنها إلا الدين .
         لقد بلغ العلم ذروته في المدينة الغربية، ولكنه لم يفعل أكثر من تحسين وسائل الحياة، أما صبغ الحياة لتتفق مع الغاية التي يجب أن تنشد، فوظيفة الدين، فلما اقتصرت المدينة الحديثة على الوسائل
دون الغايات، ضلت السبيل، ووقعت في الحيرة والاضطراب، وسببت هذا الشقاء المفضض بالنعيم.
وخالق العالم مادة وروحاً، فكان من الطبيعي ألا يسعد إلا إذا غُذى العنصران، واكتمل المنهجان.

أحمــد أميـــن

من مختارات الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...