«البيمارستان النوري»: مشفى أهل الشام قديماً

22-04-2009

«البيمارستان النوري»: مشفى أهل الشام قديماً

لا يخفى البيمارستان النوري، الواقع في حي الحريقة الدمشقي، وإلى الجنوب الغربي من الجامع الأمويّ، على أحد، فتمركزه ضمن المدينة القديمة التي تعج بمحال الأقمشة والتذكارات والتحف ومجاورته للجامع الأموي جعل منه معلماً سياحياً لأبناء المدينة أنفسهم قبل الأجانب، ولربما يجهل الكثيرون اصل تللك الكلمة المشتقة من الفارسية والتي تتكون من بيمار ومعناها «مريض» وستان بمعنى «دار» أي دار المرضى، وكان العرب يسمون المشافي (بيمارستانات) ويخففونها فيقولون: مارستانات. واجهة مبنى البيمارستان النوري
ويعد الوليد بن عبدالملك الخليفة الأموي أول من بنى البيمارستان في بلاد الشام وذلك سنة (88هـ - 706م) فجعل فيه الأطباء، وأجرى لهم الأرزاق، كما أمر بحجر المجذومين وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق، وأعطى لكل مقعد خادما ولكل ضرير قائداً.

شيد البناء الأساسي للبيمارستان النوري في عهد الملك العادل نور الدين سنة 549هـ - 1154م ووسعه الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك سنة 637هـ، وقد بقي القسم الرئيسي من البيمارستان على وضعه الاصلي حتى الآن، وتبلغ مساحته اكثر من عشرة آلاف متر مربع، ويعد من الأبنية الأثرية الجميلة من حيث مخططه وطراز عمارته وزخارفه البديعة ونقوشه الفريدة، كما تزين جدرانه لوحات رخامية كتب عليها آيات من القرآن الكريم، وكان يستخدم لعلاج المرضى اما اليوم فأصبح متحف الطب والعلوم عند العرب.
تقول الهام محفوض مديرة المتحف «يمثل البيمارستان النوري فن العمارة السلجوقي من حيث مخططه وطراز عمرانه وعناصره المعمارية والزخرفية ومازال يحافظ على وضعه الاصيل ويعتبر من أهم المباني التاريخية في دمشق».
وتضيف «بعد ان قام الطبيب بدر الدين بتوسيع البيمارستان واضاف اليه دورا أكثر ليتسع لعدد المرضى قام بترميم البيمارستان الظاهر بيبرس ثم السلطانان قلاوون وابنه الناصر محمد في أواخر القرن السابع الهجري /13ميلادي كما تشير الكتابات المنقوشة عليه».
- للبيمارستان من الجهة الغربية باب ذو مصراعين من الخشب، مُصفّحين بالنّحاس ومُزخرفين بالمسامير النحاسية الموزعة هندسيًا. وتعلو بوابة البيمارستان زخارف جصّية جميلة صُمّمَت من تسعة مداميك من المقرنصات التي تعتمد على شكل الورقة المجوّفة. يلي الباب غرفة مربعة تقوم مقام الدّهليز، وهي من أجمل غُرَف المبنى، مزودة بإيوانين صغيرين شمالي وجنوبي، مسقوفين بعقد مزينة بزخارف ذات أقواس ومقرنصات جصّية تشابه زخارف بوابة البيمارستان. تنفتح الغرفة من الجهة الجنوبية على صحن البيمارستان المستطيل الشكل الذي تتوسّطه بحرة سماوية مبنية من الحجر المنحوت، للزوايا من الداخل حنايا نصف اسطوانية كعنصر زخرفي شاع في العهد السلجوقي والأيوبي، ويحيط بالصّحن أربعة أواوين، تنفتح على جانبيّ كل إيوانٍ غرفتان. والغُرَف مسقوفة بالعقود المُتقاطعة.
تقول محفوض «ما يميز البيمارستان تلك القبة الموجودة فيه والتي تمتاز بمقرنصاتها الجميلة، وتعتبر من أجمل القباب في مدينة دمشق، وقد كان بيمارستان نور الدين يماثل القصور الملكية بترفه، ووسائل الراحة المتوفرة فيه، وانواع الطعام الفاخرة التي تقدم للمرضى والمصابين، كما ان العلاج كان مجانا للفقراء والاغنياء على حد سواء من دون ان يكلف المرضى درهما واحدا، بل كانوا يمنحون لدى خروجهم من البيمارستان ثيابا ونقوداً تكفيهم للعيش دونما اضطرار للعمل لمدة اسبوعين (مدة فترة النقاهة)».
-  تقول محفوض «كان البيمارستان من جهة مستشفى يعالج المرضى ويؤوي من يحتاج منهم للعلاج، وفيه جناح للأمراض العقلانية، ومن جهة ثانية مدرسة للطب تلقى فيه الدروس على التلاميذ».
وتقسم قاعات البيمارستان النوري بحسب محفوض الى : ‏
مكتبة المتحف‏ والتي تضم مجموعة متنوعة من الكتب العلمية والطبية والصيدلانية والمؤلفات والمجلات والدراسات، التي تبحث في التراث العربي والاسلامي..كانت الغاية من هذه المكتبة أن تكون مادة لدراسة الطلاب ومرجعاً للاطباء ومتاعاً لرواد البيمارستان من الزائرين والمرضى الذين تتيح لهم حالتهم الصحية متابعة القراءة والاطلاع.‏
أما قاعة الطب‏ فتعرض فيها أدوات ومخطوطات ولوحات ورسوم طبية، ونماذج لأدوات جراحية مأخوذة من كتاب الزهراوي، بالإضافة إلى مقتنيات لها علاقة بالطب الروحي وأدوات لها علاقة بالشراب والغذاء والاهتمام الصحي في المشافي العربية.
في قاعة الصيدلة تعرض نماذج تمثل بعض الأدوات والأجهزة التي كان يقوم العلماء العرب بواسطتها بمزج ودق وتركيب الأدوية المستخرجة من الأعشاب الطبية، بالاضافة الى الميزان لتحديد العيارات الدقيقة للمواد قبل مزجها، واجراء التجارب عليها، كما يعرض جدول خاص بأسماء النباتات الطبية ورسومات خاصة بالصيادلة العرب.
وأخيرا قاعة الطيور والحيوانات المحنطة وهي قاعة تعليمية أكثر من كونها تاريخية، وتحتوي على نماذج حديثة من طيور وحيوانات محنطة نشير الى مدى اهتمام العرب بعلم الحيوان وفن البيطرة.
واحتوى البيمارستان كذلك على أقسام مرتبة لكل منها أطباؤه المختصون منها: قسم الأمراض الباطنية، قسم الجراحة، قسم الكحالة «أمراض العين» وقسم مختص لعلاج الأمراض العقلية، وأقسام متممة تشبه ما يسمى اليوم «العيادات الخارجية»، وقد ذكر ابن أبي اصيبعة عن الطبيب رضي الدين الرحبي بأنه كان يجلس على دكة ويكتب لمن يأتي الى البيمارستان وسيتوصف منه للمريض أوراقا يعتمدون عليها ويأخذون بها من البيمارستان الأدوية التي يصفها.
- تقول محفوض «كان في البيمارستان طريقتان للعلاج: علاج خارجي اي ان المريض يتناول الدواء من البيمارستان ثم ينصرف ليتعاطاه في منزله، وعلاج داخلي يقيم المريض اثناءه في البيمارستان في القسم الخاص بمرضه حتى يشفى منه».
أما تكاليف إنشاء هذه البيمارستانات وتمويلها والإنفاق عليها فكان يتم صرفها من بيت المال أو من الأوقاف المخصصة لها في صك إحداثها.
تضيف محفوض «كان البيمارستان موضوع عناية في كل العهود وله أوقاف وناظر خاص به».
وجاء على ذكر أساليب المعالجة في البيمارستان النوري الرحالة ابن جبير فقال: الأطباء يبكرون إليه كل يوم ويتفقدون المرضى ويأمرون باعداد ما يصلح لهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان، (للمجانين نوع خاص من العلاج).‏
وكان طلبة الطب يتلقون علومهم على يد أساتذتهم في البيمارستانات، اذ كانت تهيأ لهم الايوانات الخاصة المعدة والمجهزة بالآلات والكتب أحسن تجهيز، فيجلسون بين يدي معلمهم بعد ان يتفقدوا المرضى وينتهوا من علاجهم.
كما كان لأطباء البيمارستان رئيس يسمى ساعور البيمارستان (الساعور كلمة سريانية تعني بالعربية متفقد المرضى)، وكانت تناط بالساعور مهمة ادارة الامور الطبية والفنية في البيمارستان، فالاشراف الطبي كان من صلاحية رئيس الاطباء، فهو الذي يحكم على مقدرة الاطباء، ويأذن لهم في التطبيب ونحو ذلك، وكان يتم اختياره من بين العديد من زملائه بعد اجتيازه امتحانا دقيقا.
ولم تكن إجازة الطب تمنح للطبيب إلا إذا أثبت جدارته ومهارته في هذه الصناعة، وكان رئيس الأطباء في البيمارستان يقوم بامتحان الطلبة الراغبين في الحصول على إجازة الطب كل حسب اختصاصه، ويكتب للناجح رقعة (وثيقة) بخطه تجيز له ممارسة الطب.
يقول خليل بن شاهين الظاهري في كتاب (النجوم الزاهرة) بعد أن زار دمشق: (وبها بيمارستان لم ير مثله في الدنيا، وعندما دخلت دمشق سنة 831 هـ كان بصحبتي رجل أعجمي من أهل الفضل والذوق، فلما دخل البيمارستان، تمارض وأقام فيه ثلاثة أيام ورئيس الأطباء يتردد إليه، فلما فحصه وعلم حاله وصف له ما يناسبه من الأطعمة الحسنة والفواكه والحلوى. وبعد ثلاثة أيام كتب له الطبيب كلمة جاء فيها: إن الضيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام، وهذا يوحي بأنه أدرك أنه متمارض، ومع ذلك فقد عامله كأحد الضيوف).‏
وقد عمل في الطّبابة والتدريس في البيمارستان أشهر أطباء العرب، منهم ابن سينا والزهراوي. ومن الأطباء الذين نبغوا وتخرجوا فيه ابن النفيس.
يقول الدكتور غزوان ياغي، رئيس قسم الآثار في مدينة دمشق القديمة: «ظل البيمارستان النوري الكبير يعالج فيه المرضى الى سنة 1317هـ - 1899م، وكان أطباؤه وصيادلته لا يقلون عن العشرين، حتى قامت بلدية دمشق في عهد حسين ناظم باشا - والي سورية آنذاك - بإنشاء مشفى الغرباء (المشفى الوطني) بجانب التكية السليمانية، وهكذا خلف هذا المستشفى الجديد البيمارستان النوري الذي جعل ميتما للبنات أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم أصبح فيما بعد مدرسة للتجارة سنة 1356 هـ/ 1937م».
ومنذ عام 1945م عُنيت به مصلحة الآثار القديمة وقامت بترميم بعض أجزائه، وفي عام 1987م قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميم هذا المبنى التاريخي الهام وجهزته ليكون مقرا لمتحف الطب والعلوم عند العرب.

علياء تركي الربيعو

المصدر: أوان الكويتية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...