هل النقد الأدبي علم ؟

01-08-2006

هل النقد الأدبي علم ؟

سعت النظريات الأدبية الشهيرة الى تفسير الظاهرة الأدبية بمقولات من خارجها، متطلعة الى الدقة والوضوح. ذهب لوكاتش الى هيجل وماركس، مفسراً الأدب بالتاريخ، والتحولات الأدبية بالتحولات الاجتماعية. وشاءت مارت روبير، كما غيرها، الاستعانة بفرويد والتحليل النفسي، إذ الرواية سيرة ذاتية مكبوتة، تترجم طفولة لا ينقصها الحرمان. واختار باختين أن يجمع بين الكانتية الجديدة والماركسية وفلسفة اللغة التي أنجزها الرومانسيون الألمان... وإذا كانت هذه النظريات قد التمست في الفلسفة وغيرها ما يعطي التحليل الأدبي قواعد متماسكة، فقد شاءت بعض المحاولات أن تضع في التحليل بعداً علمياً صارماً، يقصّر المسافة بين النقد الأدبي والعلوم الدقيقة. فبعد أن قال الشكليون الروس قبل ثورة اكتوبر وبعدها لفترة وجيزة بـ «العلوم الأدبية»، جاءت البنيوية الفرنسية، في ستينات القرن الماضي، بصخب كلامي وحديث متغطرس عن «عملية المقاربة النقدية». ومثلما تخلى الشكليون الروس عن مشروعهم، بسبب الرقابة الستالينية وانغلاق بحثهم النظري، تخلى البنيويون الفرنسيون عن طموحهم الكبير.

ولعل هذا التخلي، الصاخب بدوره، هو الذي أوصل لاحقاً الى شعار «نهاية النظرية»، ودفع بنيوياً شهيراً مثل ت. تودوروف الى كتابة: «نقد النقد» والرحيل الى أرض جديدة، يتأمل فيها الأنا والآخر والتعددية الثقافية و»فتح أميركا» والسؤال هو: هل النقد الأدبي علم أو فيه ما يشبه العلم؟ وهل هو منهج بصيغة الجمع أم بصيغة المفرد؟

نشر الأستاذ الجامعي ب. كليمان في باريس، كتاباً عنوانه: «حكاية المنهج»، لقي ترحيباً من العاملين في الأدب والفلسفة. يقوم الكتاب على نفي الاختصاص، بالمعنى الضيّق للكلمة، معتبراً النقد الأدبي شكلاً من البحث الفكري يتيح للباحث أن يقرأ فكره في فكر غيره، وأن يقرأ حدود الفكر في كتابات مختلفة. إنه تجربة مفتوحة، قوامها تراكم المعرفة، والمقارنة العارفة بين كتابات فلسفية متعددة الأزمنة، وبين هذه الكتابات ونصوص أدبية متنوعة، يشير عنوان الكتاب، ولو بقدر، الى ما يريد قوله، مقرراً أنّ في كل حكاية منهجاً خاصاً بها، وأن لكل منهج حكاية، تروي تكونه وطريق الوصول اليه. والأساسي، في الحالين، هو الحكاية، التي تستقي تنوعها من تنوع التجارب الانسانية. تكون الذات المفكرة، والحال هذه، مبتدأ المنهج، كان ذلك في فلسفة أفلاطون أو في رواية بروست، وتصبح المناهج، مهما تعددت، نسبية المعرفة، طالما أن حقيقة كل منهج تتعدل على ضوء منهج آخر. لهذا يكون المنهج الديكارتي منهجاً بين مناهج أخرى، علماً أن الفيلسوف أراد كتابه الشهير «مقالة في المنهج» مرجعاً وحيداً للازمنة الحديثة. لا يدعو الاستاذ كليمان، مع ذلك، الى نسبية معرفية مطلقة، تنتهي في التحديد الأخير الى الغاء المعرفة، إنما يقول بأمرين: فتح الأدب على الفلسفة انطلاقاً من «حكاية المنهج» وتأكيد دور الذات الباحثة، التي يقودها تراكمها المعرفي الى اضافة «نقدية» جديدة، يصل الباحث اليها مفرداً، وتوسع أفق ما وصل اليه غيره من الباحثين.

يهدي المؤلف كتابه الى اسمين كبيرين، جمعا بين الأدب والفلسفة، هما الراحلان، بول ريكور، الذي طالب بالقراءة الدقيقة الواضحة وتكامل المعارف الانسانية، وجاك دريدا، الذي كان يقتفي آثار البشر ولا يقول بحقيقة أخيرة. يقول المؤلف في مستهل كتابه: «كل منهج هو ليس أكثر من منهج، مثلما أن كل كتاب هو ليس أكثر من كتاب». فلا وجود لمنهج وحيد، ولا وجود لكتاب هو: الكتاب، كما تذهب العقول المتخلفة. وواقع الامر أن صاحب المنهج، كما يرى المؤلف، يصل الى منهجه في نهاية الطريق، أي يصل اليه متأخراً، كما لو كان قد تعرف على بعض وجوهه لا على كلها. وما دور «مقدمات» الكتب إلا شرح ما غفل الكاتب عن شرحه وهو ذاهب الى المنهج، كما لو كانت «المقدمة» طريقاً اضافياً متأخراً، يكمل الطريق الطويل الذي سبقه. وإذا كان في انتساب المؤلف الى الراحلين الكبيرين ما يؤكد وحده الجهود في النقد الأدبي، فإن فيه إقراراً بأن «الادب لا يشرح بالأدب». إنما يحتاج الى معرفة من خارجه، هي الفلسفة، عملاً بقول فيكتور هوجو: «الأدب والفلسفة متواشجان دائماً». تأمل برونو، وهو رئيس الكلية العالمية للفلسفة، أحوال المنهج لدى جملة من الفلاسفة: مقالة في المنهج لديكارت، مقدمة الى منهج ليوناردو ديفنشي للشاعر بول فاليري، قضايا المنهج عند سارتر، إضافة الى نصوص لباسكال والسيد أوغسطين ونيتشه وأفلاطون... وتأمل أيضاً معنى المنهج في نصوص أدبية لفاليري وبروست وريمون رسل، أو نصوص نقاد أدبيين مثل جورج بوليه وتسيفتان تودوروف. قاده البحث، وهو يقارن بين حكاية الكتابة في الأدب والفلسفة، الى شكلين من الحكاية، حكاية التعلم، حيث كل كاتب يضع في نصه نص كاتب آخر، يأخذ بمساره وتصوره ويتعلم منه بوعي مجزوء تارة، وبلا وعي تارة أخرى. والحكاية الثانية هي حكاية التحول، التي تجعل الكاتب، وهو يقرأ آخر، بنزاهة أكيدة، يقترب منه ويوغل في الاقتراب، حتى يكاد يرى ذاته فيه، أو يراه في ذاته. يضيء الاقتراب حكاية الكاتب المقروء، ويسعف القارئ على استعادة حكايته، التي صيرته كاتباً. ليس المنهج بهذا المعنى، إلا وجهاً من وجوه السيرة الذاتية، تراءى للباحث ذات مساء وعثر عليه بعد جهد طويل».

يشرح كليمان «حكاية التعلم» بكتاب الناقد تودوروف «نقد النقد» الذي أدرج فيه، في شكل مضمر، كتاب الهنغاري لوكاتش الشاب «نظرية الرواية». فمع أن الناقد الاول لم يشر الى كتاب الناقد الثاني، فقد أخذ منه تعامله مع تطور الرواية. فوفقاً لما رآه الناقد الهنغاري. فإن الرواية جنس ديالكتيكي، بدأت برواية المثالية المجردة، وعنوانها الأكبر دون كيخوته، وتلاها نقيضها رواية انقشاع الأوهام. كما جسدها فلوبير في «التربية العاطفية» وصولاً الى التركيب الذي أنجزه بلزاك في روايته الواقعية، أو في «رواية التعلم»، حيث الصراع الاجتماعي يعلم الفرد ويعيد تعليمه اكثر من مرة. حاكى تودوروف، في مجال النقد، ما قبل به لوكاتش في مجال الرواية، حين قسّم مراحله النقدية الى ثلاث: المرحلة الدوغمائية، وتساوي رواية المثالية المجردة، والمرحلة البنيوية، وتعادل رواية أخرى، ومرحلة النقد الحواري، حيث في كل كلمة كلمة أخرى تواجهها وتجبرها على تعديل دلالتها. كان لوكاتش في نقده الفلسفي يروي حكاية، وكان البنيوي، الذي ترك البنيوية، يحكي في المنهج حكاية أخرى، وهو الذي انتقل من حقبة بلغارية دوغمائية الى مجتمع فرنسي ليبرالي، ومن أفكار نخبوية متعالمة الى منظور انساني رحيب. ولن يختلف الأمر عند الذهاب الى بروست، حيث الحكاية تبدأ مع «العشاء مع سوان الذي يحرم الطفل من قبلة والدته المسائية». أما المنهج فيقوم على تجربة أولى تؤكد عودتها الدورية على تدرج السرد: تجربة مسرح آخر، تمثل فيه الحياة الحقيقية ويكون بطله (أو روايته) شاهداً مستبعداً». وهذه التجربة، التي تعود في شكل دوري، تحدد التقنية والبدايات الروائية والمواضيع المتناظرة وتعلن عن سيولة الزمن.

يدافع برونو، في كتاب واسع الثقافة، عن الفكر المصقول الطليق، متحدثاً حراً وقائلاً بما يهجس به، كأن يقول «إن لكل منهج معرفة خاصة به»، أو «إن قراءة النصوص الفلسفية في شكل أدبي لا تقل أهمية عن قراءة الروايات في شكل فلسفي». وهذا الفكر الرهيف المدافع عن فاعلية الفكر، أقنع المؤلف أن لا يبدأ من الأدب ولا من الفلسفة، بل من الحكاية التي اختارها الفكر ليستنطق ذاته، روائياً مرة وفلسفياً مرة أخرى غير أخيرة.

فيصل دراج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...