رسالة الإسلام : وحدة المسلمين و الثقافة الإسلامية

02-08-2006

رسالة الإسلام : وحدة المسلمين و الثقافة الإسلامية

   لا يهمني إن كانت هذه القصة حقيقة واقعية، أو خرافة من نسج الخيال، وإنما يهمني أن تكون مقدمة لنتائج نتعرض لها في هذا المقال.

   ولا يهمني إن كان بطلها من حكماء الفرس ،أو من أبطال الرومان، أو من غزاة العرب، من الموحدين أو من غيرهم، بقدر ما تهمني فكرته السامية.

   كان حكيماً نافذ الكلمة في عشيرته، شديد الغيرة على مصالحهم، تقدمت به السن، فأراد أن يزف وحيده ويتنازل له عن رياسة قومه، فقدم إليه أتباعــه ـ على عادة القبائل والعشــائر ـ هدايا ثمينة ، فأراد أن يستغل شعورهم هذا في توطيد الإمارة لولده ، ولأحفاده من بعده ، فخطب فيهم شاكراً ، ورجاهم أن يستردوا هداياهم ، فألحوا عليه في قبول شئ فقال لهم : " إن كان لابد من تقديم شئ ، فأقيموا لولدي بيتاً يسكنه ، بشرط أن تشتركوا في بنائه ، وتساهموا في إقامته ، وأحب أن أراكم تحملون لبناته بأنفسكم وتضعونها في البناء بأيديكم ، فأقدموا على العمل الذي يرضي شيخهم الكبير ، ولما تم البناء ، أوصى ولده أن يقيم فيه ، ولا يتحول عنه ، لأن مقامه في بناء مشترك ربط للقلوب والنفوس جميعاً ، ولأن الناس يتمسكون به ، ويتعلقون بإمارته ما أقام في هذا البيت الذي صنعوه بأنفسهم ” ويقولون :" إن نبوءة الشيخ تحققت ، وكان نزيل هذه الدار من أحفاده أميراً مرموقاً وحاكماً مطاعاً " . 

   إذا كانت هذه القصة خيالية ، فهناك قصة من صميم الواقع ، عن قصر فخم لم تر عين الزمان مثله ، أقيم على أساس متين ، وشيد من حجر صلد بأيدي أمهر البناة المخلصين من الأبيض والأسود ، ساهم في إقامته رجال من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، من بلخ وبخارى وسمرقند وطوس وطبرستان والري والعراق والشام والحجاز ومصـر والأندلس وما بينها ، وتعبت فيه عقولهم ـ إن صح هذا التعبير ـ واستعملت فيه لبنات نورانية بدل اللبنات الظلمانية المعروفة .

  وإذا  كانت مرضاة هذا الشيخ هي الدافع إلى بناء ذلك البيت الصغير ، فان الدافع الى بناء هذا القصر المنيف ، هي مرضاة الله في الدارين ، وإرضاء الضمير والإيمان والعقيدة ، بني باسم الإسلام ، وقدمه بناته إلى الإسلام ، ليكون في خدمة الإسلام والمسلمين ، ولم يكن لحدائقه أسوار تمنع الناس من الدخول فيه ، ولا بين أقسامه حواجز تحجب عن الرواد بعض نواحيه ، فتوجهت إليه عقول الملايين ، وتعلقت به قلوب مئات الملايين ، وعبق عطره في أركان العالم الإسلامي وفاح شذاه في أركان الكون كله ، وأطلت عظمته علـى الشرق والغرب .

   ذلك قصر الثقافة الإسلامية التي أراد الله أن تكون أعظم مفخرة للمسلمين ، وأعظم ثمرة للإسلام ، تلك الثقافة التي لم يوح بها أحد ، وإنما أوحى بها الشعور والإيمان والرغبة في أن يكون للإسلام ثقافة خاصة ينهل منها المسلمون ، واندفع لتحقيق ذلك بناؤون من كل شعب مسلم ، ومن كل طائفة إسلامية ، وتخلوا جميعا عن كل قومية ولغة ،إلا قومية الإسلام ولغة القرآن ، فالبلخي نسي بلخيته ، والفارسي نسي فارستيه ، والبخاري نسي أنه من بخارى ، والعربي نسي عروبته وجعلوا أنفسهم في خدمة الإسلام ولغة الإسلام ، وخلقوا ثقافة إسلامية استنبطوا قسما كبيرا منها من الإسلام نفسه، وأخذوا قسما آخر من الثقافات اليونانية والفارسية والهندية ، التزموا فيها نهجاً لم يلزمه البناة قبلهم ، هو أن يصبغوه بصبغة الإسلام، ويسخروه في خدمة فكرة الإسلام ليكون ثقافة إسلامية قبل كل شئ ، ووفقوا في هذا توفيقاً عجيباً ، حتى أنهم أخذوا الفلسفة اليونانية ـ التي كانت تثبت العقائد الوثنية ، والتي استغلتها الكنيسة فيما بعد لخدمة ـ التثليث ـ وصبغوها بالصبغة الإسلامية واثبتوا بها التوحيد المعاد ، ولست بصدد شرح هذا وسأفرد له بحثاً خاصاً.

   ولم ينشط في إقامة هذا القصر البناؤون فحسب ، بل نشط كذلك الجارون والبستانيون واهتم كل بناحيته ، وتقدم كل فن يشجعه  الإسلام من تفسير إلى أدب ، ومن طــب إلى كيـمياء ، ومن علوم إسلامية إلى نبوغ في الفقه بنوع خاص ، وهكذا أوجدوا كنزاً ثميناً ، يليق أن يسمى بحق أغنى كنز في العلوم الإسلامية ، ازدهـــرت كل هذه العلوم دون أن يؤخـــــذ عهد من القائمين عليها ودون أن تشرف على تنســيقها منظمة كاليونسكو ، ودون أن يمنع أحــد من الدخول في أي بحث ، أو يحرم من الرجــوع إلى أي مرجـــع ، أو الاغـــتراف من أي منهل . كانت ثقافة إسلامية لكل المســلمين

لا لشعب دون شعب ولا لطائفة دون طائفة وكان لكل عالم حق الدخول في كل بحث ومراجعة أي كتاب والأخذ بأي رأي ولا ينظر أحد غالى من يخالفه في الرأي إلا نظرة التقدير والأخوة.

   فالخليفة يقدم إلى الإمامي كرسي الدراسة ببغداد ، والسني يستمع إلى دروسه كثير من غير أهل السنة ، ومرجع الفتوى إلى كل مذهب ، والباحث يقف على رأي كل مفكر ، كانت ثقافة عامة مشتركة ، تعلق بها كل قطر لأنه يساهم فيها ، وغار عليها كل صقع لأن له قسطاً منها وحفظ حرمتها وكرامتها كل مسلم ، واحترم رجالها ونظر إليهم كمجموعة يكمل بعضهم بعضاً
ولا تقبل التجزئة .

   لعلك تتساءل أين هذا القصر ؟ هل عدا عليه الدهر فخربه، أم غصبه أحد الطغاة ودمره ؟ كلا : لا هذا ولا ذاك ، إنما تنازع فيه ورثته وقسموه فيما بينهم وأقاموا الحواجز بين أقسامه ، واستقل كل فريق بحصته وامتنع الآخرون من الدخول إليها.

   وهكذا تحولت الثقافة الإسلامية من عامة جامعة ، إلى مذهبية ضيقة ، ومن قومية شائعة ، إلى طائفية محدودة وعكف كل عالم على مراجع مذهبه ، وأغضى عن مافي المذاهب لأخرى ، وتعصب لما درس ، واستراب في كل ما جهل . وتأثرت كل طائفة بعلمائها، وتمسكت بنهجهم، ونفرت من كل من يخالفهم في الرأي بل ذهبت إلى الشـك في عقائد الطوائـف الأخرى.

   وانتهز كثير من غير المسلمين هذه الظلمة ، وتسللوا إلى الصفوف ، وتسموا باسم المسلمين ، واستغلوا جهل الطوائف بعضها ببعض ، يزعمون لكل طائفة أنهم من الأخرى ، يقولون للشيقة نحن من أهل السنة ، ويقولون لهؤلاء نحن من أولئك ، واستطاعوا في غفلة المسلمين وجهلهم أن يسيئوا إلى الإسلام قروناً عديدة .

   كل هذا حصل بسبب التعصب المذهبي الذي تريد جماعة التقريب القضاء عليه ، وبتأثير النزعات الشعوبية التي ترمي إلى تقسيم هذا التراث باعتبار العنصرية.

      فلو أننا فتحنا صدرونا من جديد ، واعتبرنا الثقافة الإسلامية ، مجموعة يكمل بعضها بعضاً وتفاهمنا فيما بيننا على هذا الأساس ، وأدركنا أن هذه الثقافة إسلامية ، بنيت على أن  تكون للإسلام قبل كل شئ ، وليست ملكاً لفرد ولا لمذهب أو طائفة كما أنها ما أوجدت لتكون عنصرية ، لجددنا بناء هذا القصر المنيف ولمحونا عن كل طائفة باطل الاتهامات الموجهة إليها ولأخرجنا من بيننا من ليسوا بمسلمين كأولئك الأدعياء الذين انتسبوا كذباً إلى الإسلام وهم معاول هدم في الكيان الإسلامي .

   وفي رأيي أن ثقافة إسلامية موحدة ـ إذا التف حولها المسلمون _ كفيلة بتوحيد صفوفهم ، ولا يخفي ما تؤدي إليه الوحدة من عز ومجد وسؤدد .

   وما دامت هذه الثقافة موجودة، فان من الميسور بلوغ هذا الهدف، وهو ما نعمل له ونسعى إلى تحقيقه، والله ولي التوفيق.

محمد تقي القمي

من مختارات الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...