رسالة الإسلام : بيان للمسلمين

02-08-2006

رسالة الإسلام : بيان للمسلمين

بسـم اللــه الرحمـن الرحيــــم

   الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
   أما بعد، فإن الدين الإسلامي قائم على نوعين من الأحكام:
   أحدهما: أحكام ثابتة، يحب الإيمان بها، ولا يسوغ الاختلاف فيها، وليس من شأنها أن تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا أن تخضع لبحث الباحثين، واجتهاد المجتهدين. ذلك بأنها ثابتة عن الله تعالى بطريق يقيني لا يحتمل الشك ، واضحة في معانيها ، ليس فيها شئ من الإبهام أو الغموض .
  والثاني: أحكام اجتهادية نظرية مرتبطة بالمصالح التي تختلف باختلاف ظـروفها وأحـوالها، أو راجعة إلى الفهم والاستنباط اللذين يختلفان باختلاف العقول والإفهام، أو واردة بطريق لا يرقى إلى درجة العلم واليقين، ولا يتجاوز مرتبة الظن والرجحان.
   والنوع الأول من الأحكام ـ وهو القطعي في روايته ودلالته ـ هو الأساس الذي أوجب الله على المسلمين أن يبنوا عليه صرح وحدتهم غير متنازعين، وربط به عزهم وقوتهم وهيبتهم في أعين خصومهم والمتربصين بهم. والمسلمون كلهم مؤمنون به إيماناً ثابتاً لا يتزعزع، لا فرق في ذلك بين طائفة منهم و طائفة.

   وإن جميع الآيات التي جاءت في النهي عن التفرق ، وذم الاختلاف ، والتحذير منه ، وضرب الأمثال بما كان من الأمم السابقة حين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ، إنما تعني الاختلاف والتفرق في هذا النوع من الأحكام ، ومن ذلك قوله تعالى : * إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ * ، * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات * ، * فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لاتبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون * . 
                  فهذا هو الاختلاف المذموم المنهي عنه في كتاب الله تعالى .
   أما النوع الثاني من الأحكام ، فإن الاختلاف فيه أمر طبيعي ، لأن العقول تتفاوت ، والمصالح تختلف ، والروايات تتعارض ، ولا يعقل ، في مثل هذا النوع أن يخلو مجتمع من الاختلاف ، ويكون جميع أفراده على رأي واحد في جميع شؤونه ، وهذا النوع من الاختلاف غير مذموم في الإسلام ، مادام المختلفون  مخلصين في بحثهم باذلين وسعهم في تعرف الحق واستبانته ، بل إنه ليترتب عليه كثير من المصالح ، وتتسع به دائرة الفكر، ويندفع به كثير من الحرج والعسر ، وليس من شأنه أن يفضي ، ولا ينبغي ، بالمسلمين إلى التنازع والتفرق ، ويدفع بهم إلى التقاطع والتنابز .

   ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتابعون لهم بإحسان ، والأئمة عليهم الرضوان ، يختلفون ، ويدفع بعضهم حجة بعض ، ويجادلون عن آرائهم بالتي هي أحسن ، ويدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولم نسمع أن أحدا من هم رمي غيره بسوء ،  أو قذفه ببهتان ، ولا أن هذا الاختلاف بينهم كان ذريعة للعداوة والبغضاء ، ولا أن آراءهم فيما اختلفوا فيه ، قد اتخذت من قواعد الإيمان وأصول الشريعة التي يعد مخالفها كافراً أو عاصياً لله تعالى ، وقد كانوا يتحامون الخوض في النظريات ، وفتح باب الآراء في العقائد وأصول الدين ، ويحتمون الاعتصام فيها بالمأثور ، سداً لذريعة الفتنة ، وحرصاً على وحدة الأمة ، وتفرغا لما فيه عزهم وسعادتهم وارتفاع شأنهم ، ولذلك كانوا أقوياء ذوي عزة ومهابة " أشداء على الكفار رحماء بينهم " .

   ولكن المسلمين لم يلبثوا أن انحرفوا عن هذه السبيل، واتخذوا من خلافاتهم عصبيات جامدة لا تعرف التفاهم، ولا تنزل على حكم البرهان والعقل، فكانوا باختلافهم المذهبي كالمختلفين  في الدين. يتبادلون سوء الظن ، ويتراشقون بالتهم جزافا ، وينظر بعضهم إلى بعض في حذر وحيطة ، بل أفضى بهم ذلك في كثير من الأحيان إلى التضارب والتقاتل وسفك الدماء ، وبذلك انحلت عرى الأمة ، وانفصمت وحدتها ، وقدر عليها أعداؤها ، ونزع الله هيبتها من القلوب ، وأصبحت غثاء كغثاء السيل ، وانقلب الخلاف الذي كان رحمة ونعمة ، إلى بلاء وشر وفتنة ، وصار مثله كمثل الخلاف في الأصول ، والنزاع على الأسس الأولى للإيمان .

   ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى هذا التفرق ، ويحذر منه ، وكان يشبه المؤمنين بالجسد الواحد ، ولم يكن شئ أبغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ولو في الأمور العادية .

   إن هذه الأمة لن تصلح إلا إذا تخلصت من هذه الفرقة، واتحدت حول أصول الدين، وحقائق الإيمان، ووسـعت صدرها فيما وراء ذلك للخلافات ما دام الحكم فيها للحجة والبرهان.

   ولقد أدركنا في الأزهر على أيام طلبنا العلم ، عهد الانقسام والتعصب للمذاهب ولكن الله أراد أن نحيا حتى نشهد زوال هذا العهد ، وتطّهر الأزهر من أوبائه وأوضاؤه ، فأصبحنا نرى الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي ، إخواناً متصافين وجهتهم الحق ، وشـرعتهم الدليل ، بل أصبحنا نرى بين العلماء من يخالف مذهبه الذي درج عليه ، في أحكامه لقيام الدليل عنده على خلافه ، وقد جريت طول مدة قيامي بالإفتاء في الحكومة والأزهر ـ وهي أكثر من عشرين عاما ـ على تلقي المذاهب الإسلامية ـ ولو من غير الأربعة المشهورة ـ بالقبول ، مادام دليلها عندي واضحاً ، وبرهانها لديّ راجحاً ، مع أنني حنفي المذهب ، كما جريت وجرى غيري من العلماء ، على مثل ذلك فيما اشتركنا في وضعه أو الإفتاء فيه من قوانين الأحوال الشخصية في مصر ، مع أن المذهب الرسمي فيها هو المذهب الحنفي ، وعلى هذه الطريقة نفسها تسير " لجنة الفتوى بالأزهر " التي أتشرف برياستها ، وهي تضم طائفة من علماء المذاهب الأربعة .

   فإذا كان الله قد برّأ المسلمين من هذه النعّرة المذهبية التي كانت تسيطر عليهم إلى عهد قريب في أمر الفقه الإسلامي ، فإنا لنرجو أن يزيل ما بقي بين طوائف المسلمين من فرقة ونزاع في الأمور التي لم يقم عليها برهان قاطع يفيد العلم ، حتى يعودوا كما كانوا أمة واحدة ، ويسلكوا سبيل سلفهم الصالح في التفرغ لما فيه عزتهم ، وبذل الوسع فيما يعلي شأنهم ، والله الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

عبد المجيد سليم

من مختارات الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...