الطائفة الحمصية ومحنة أحمد تكروني

17-09-2009

الطائفة الحمصية ومحنة أحمد تكروني

الجمل - خطيب بدلة: سأنطلق من حادثة إقالة السيد أحمد تكروني رئيس تحرير صحيفة العروبة الحمصية من قِبَل السيد وزير الإعلام التي وقعت بتاريخ 2 / 8 / 2009، لأناقش مجموعة من المسائل المتعلقة بالعمل الصحفي في سورية، والآليات التي تحكم هذا العمل، في القطاعين العام والخاص.
قبل سنة 2000 لم يكن في سورية سوى صحيفتين حكوميتين هما الثورة وتشرين، وصحيفة البعث التي تصدرها القيادة القومية لحزب البعث، وثمة صحف في بعض المحافظات الكبيرة تتبع لمؤسسة الوحدة، إضافة لصحف المنظمات الشعبية، وعدد قليل من صحف ومجلات القطاع الخاص التي لا شوكة لها ولا ذباحة، كمجلة الضاد لعبد الله حلاق، والثقافة لمدحة عكاش، وصوت العرب لتوفيق عنداني.
وبعد سنة 2000 صدرت مجموعة قليلة من الصحف والمجلات الخاصة التي لا يعرف أحدٌ شيئاً عن آلية إصدارها، وقد قيل إن بعضها صدرت بموافقات شفهية، ولا يوجد أي شيء خطي بخصوصها، ولذلك بقي شرشُ هذه الصحف- كما يقال في التعبير الشعبي- على البلاط، فلم نكن نحس ولا ندري ولا نسمع إلا أن الصحيفة الفلانية قد أُغلقت، ومن ثم يذهبُ الأصحابُ، كما غنت السيدة أم كلثوم، كلٌّ في طريق!.. وأما الصحف الخاصة المستمرة بالصدور فيمكن إغلاق أي منها في أية لحظة.
وإذا كان لا بد لكلمة الحق من أن تقال، فإن فعل إقالة الأستاذ أحمد تكروني، بالصيغة التي وقع بها، ينتمي إلى آلية عمل الصحافة السورية (الحكومية) التي كانت سائدة في (الثمانينيات)، حينما كان المدير العام للصحيفة يتحمل وزر الشاردة في صحيفته، والواردة، ولقاء أي خطأ، أو حتى هفوة، يرتكبها هو أو (تمرر عليه) من قبل شخص آخر، يُقال أو يُرسل إلى السجن إلى أجل غير مسمى، ولا يخرج إلا بتوسط أهل الخير.
هذا ما حصل بالضبط مع السيد تكروني، فهو شخصياً لم يغلط، ولم يرتكب هفوة، بل إن مادة صحفية نشرت في زاوية "تحية الصباح" على الصفحة الأخيرة من جريدة العروبة، كتبها الأستاذ حسن الصفدي، هي التي أودت به، وجعلته "يتبهدل" ويخرج من (مولد) الصحيفة، بعد ثلاثين خدمة أمضاها بين أمين تحرير ورئيس تحرير هذه الصحيفة، (بلا حُمُّص)!
لعل السبب الرئيسي الذي كان يجعل أصحاب القرار الصحفي في الثمانينيات يخافون (من خَيَالهم)، ويسارعون إلى (كسر الجَرَّة) في رأس مرتكب الخطأ أو الهفوة، كان له ما يسوغه من وجهة النظر المنطقية، فالصحف الموجودة على الساحة أيامذاك كانت هي هي، لا تزيد ولا تنقص، والصحف العربية والعالمية التي كانت تدخل إلى البلاد كان الرقيب "المكتوبجي" (يُفَلّيها) كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، ولا يسمح لـ (الذباب الأزرق) أن يعبر إلى الداخل عبرها، فإن لم يفعل الرقيب ذلك كانت الجرة تنكسر في رأسه هو.
إن الأمر الغريب، والمدهش، حقاً، هو أن يُقال رجل مخلص لعمله كأحمد تكروني، وهو على مرمى خمسة أشهر من أبواب التقاعد، بهذه الطريقة (الثمانينية!).. ونحن في عصر الإنترنت العظيم، نستطيع أن نقرأ ما نشاء في الممنوعات الثلاثة (الدين والجنس والسياسة)، في الصحف العربية والعالمية، الورقية والإلكترونية، دون أن يتمكن أي (مكتوبجي)، مهما كان (حويطاً) من الحيلولة بيننا وبينها، ويستطيع أقلُّنا خبرة بالتقنيات الإلكترونية أن يدخل إلى المواقع الإلكترونية المحجوبة، ويقرأ ما فيها، بل يفليها، باستخدام رابط الـ (proxy)، أو يطلب المادة من حضرة وجناب محرك البحث العظيم (google)، ونقرأ النسخة المخبأة من دون عناء.
بيد أن الشيء الأكثر غرابة وإدهاشاً لا يقتصر على أن الرجل أقيل من أجل مقالة كتبها شخص غيره، بل لأن المقالة التي كتبها غيرُه، ودفع هو ثمنها، (عادية جداً)، وليس فيها أي شيء مُريب، ولم يتحدث بها أحد- كما علمت من أكثر من مصدر- ولم يتصل برئيس التحرير لأجلها أحد.. وكل ما في الأمر أن (فاعل خير) هو الذي تبنى القضية، و(حركها) و(تابعها) مثلما كان الحال في الثمانينيات تماماً.
يجدر بنا أن ننوه على الفور أن المقالة مكتوبة بأسلوب ساخر مليء بالمداعبات الحمصية، ولعل هذا ما أوجد الالتباس المذكور. فعنوانها هو "نحن الحماصنة متعصبون لحمصيتنا".. وهي تبدأ بعبارة: نحن الحماصنة مستهدفون، لأننا حماصنة بالذات، فنحن أقلية بالنسبة للجمهورية، وأقلية أصغر بالنسبة لسوريا الطبيعية، على اعتبار أن لهجة سكانها واحدة، غير أننا نحن الحماصنة لنا لكنة خاصة بنا، ونتعاطى كلمات بعينها، وننطق الياء مفخّمة على طريقتنا، ومن هنا غدونا نحن (الطائفة الحمصيّة) هدفاً لكل متصيّد نطقاً / لَكْنَةً لم يعتد على سماعه... (إلى آخر المقالة وهي موجودة بنصها الكامل على الإنترنت).
أكاد أجزم بأن أصحاب العلاقة الذين سطروا قرار الإقالة لم يقرؤوا المقالة المذكورة، أو أنهم قرؤوها ولم يتمعنوا بها، فمدينة حمص تحتوي على موزاييك اجتماعي فريد من نوعه، يشمل المذاهب الإسلامية والمسيحية كلها من دون استثناء. لذلك، حينما يأتي كاتب ما، ويعتبر "حمص" كلها طائفةً واحدة، فهذا رجل أبعد ما يكون عن التفكير الطائفي، لا بل إنه معاد للطائفية.
إن الكاتب حسن الصفدي- مع ذلك- لم يقصد هذا الأمر، وإنما استخدم كلمة "طائفة" بمعنى "جماعة"، وهو المعنى المقصود بقوله تعالى في سورة الحُجُرات: إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
(ملاحظة: لم تكن المذاهب الطائفية موجودة في زمن نزول القرآن الكريم، وهذا يؤكد أن المقصود هو الجماعة أو الفئة).
أخيراً: إن ما دفعني لكتابة هذه المداخلة، بكل مودة، هو أننا نحن، (طائفةَ) الصحفيين السوريين، يليق بنا أن يكون لدينا قانون صحافة معاصر، ينظم آليات إحداث الصحف، والمعايير التي يجب أن تتبع في عمل الصحف الحكومية والخاصة، وأن يوضع فيه سلم العقوبات، بمعنى، في مثل هذه الحالة، تحديد حجم المساءلة لرئيس التحرير، فيما إذا وقع خطأ من قبل أحد المحررين، لا أن يُقال ارتجالياً، ويُنسف تاريخه.
وأقترح، بكل مودة، على الأستاذ خلف المفتاح المدير العام لمؤسسة الوحدة، أن يقيم في مبنى صحيفة العروبة، أو في مبنى مؤسسة الوحدة، حفلاً تكريمياً للصحفي أحمد تكروني بمناسبة تقاعده بعد أكثر من ثلاثين سنة خدمة، وبذلك يرُد للرجل بعض اعتباره، ويطمئنُّ مَنْ هم في موقع المسؤولية في الصحف الحكومية إلى أن تاريخهم الصحفي الطويل لا يمكن أن يذهب سدى، هكذا، بجرة قلم، أو بتقرير كيدي.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...