كراكيب أخاف أن ارميها فأتلاشى

07-08-2006

كراكيب أخاف أن ارميها فأتلاشى

كل تلك الكراكيب التي ترافقني من مدينة الى مدينة، وبيت الى بيت، وحياة الى حياة، تصحو في الليل بعد أن أغفو وتملأ الصالون فوضى. كان يجدر بي أن أحشرها في صندوق صغير، أدفنها في زاوية الخزانة، هناك في البيت الاول، في المدينة الاولى. لماذا ادفع في المطارات ثمن وزن الكراكيب، طالما هي في الليل تريد ان تمزّق قماش الكنبة ثم تلهو على وسادة النوم وتخنقني؟ ذاك الدب الكلسي الذي بلا رأس، أين صاحبته اليوم؟ في الكويت قالت لي إنها «هربانة من الحرب». كتبت ايميلاً قصيراً، وكنت قد بادرت «بالحركشة» رداً على رسالة «فورورد» وصلتني منها تتعلق بضرورة مقاطعة «ستارباكس» الذي يدعم مشاريع تخرج الطلبة اليهود في معاهد أميركا. مضى الف وخمسة وتسعون يوماً ولم أتبادل كلمة واحدة مع صاحبة «الدبدوب» المقطوع الرأس الذي يقفز بعد منتصف الليل الى وسادتي، يقترب من أفكاري، ويزنّ عله يجد رأسه.

ذلك الجرس اشتريته من راعي بقر على هضبة جبل سويسري. احمله مرات وأخرج به الى الشرفة، فيما ظل المباني الملاصقة، في لحظة الغروب، يكون قد تسلل، ثقيلاً اسود بارداً، الى رغبة مخنوقة في أعماقي تحرضني على القفز في الفضاء. أحدق في ما تبدى من وجه السماء، أحمل الجرس واحركه ببطء. انصت. رنينه لا يجد صداه في الاعلى. اذاً، بقي على العيش وقت. أعرف أن هناك متسعاً من هضاب الوقت التي يجب ان «ارعى» فيها. أقفل خزانة الرغبة السوداء، وأعاود وضع الجرس في مكانه. منذ ثلاثين شهراً، تقريباً، وانا العب لعبة الجرس، ولم ارمه بعد.

زجاجة الرمل الملون من بلدة معلولا المقدسة في سورية، كم رجل أمن قلبها في كم مطار. في الرياض فحصوها جيداً، وفي دبي صوروها، وفي مطار بيروت ضحكوا عليها. على تلك الزجاجة بصمات الأنامل التي تتجسد بعد منتصف الليل وتحاول قتلي. لم امحها يوماً. لا تزال عالقة على الزجاجة منذ خمس سنوات. لم افرك الزجاجة بالديتول ولا مرة. لماذا أفعل، فعلى رغم رعبي العصابي من الموت، ورغبتي الملحة بلقائه، اخاف على تلك الانامل المجرمة أن تندثر... فهي كل ما تبقى من صورة الحب الاول. وفي بعض الساعات الصعبة، حين تشفّ الذكرى، ويصبح لونها بلون الشاي الخفيف الاشقر... نشتاق الى الأنامل.

وحنظلة الذي على حجر من مبنى الاونيسكو في امسية ثورية من سنين، وقدم زجاجية صغيرة، لونها يدرأ الحسد ويجلب الحظ، حفظتها من ايام العمل الاول في المؤسسة الاولى، وقت اللهفة الاولى والحماسة الاولى والحلم الاول. وصورة سعاد حسني على ورقة جريدة صفراء منشورة مع مقالة الرثاء الاول. مضى وقت طويل يا زوزو، واشباح موتاي أكدسها في أحلامي. صارت ثقلاً.

أينك يا كاميليا، أشتاق الى وجهك الصبوح المتفائل، حين أحمل جرس البقر واخرج الى الشرفة. أشتاق الى صوتك المغمس بالأمل، حين أصحو في الصباح، فأجد نفسي على فوهة بركان من البكاء المخنوق. احنّ الى خلاصاتك الفلسفية المحرضة على الحياة، حين يلفني نفق اسود بابه يفضي الى حديقة اطفال في قانا. أينك يا كاميليا، ولم يبق منك الا شوكة وملعقة فضيتان، جلبتهما يوماً من «نيس» الفرنسية، ويستخدمهما حالياً أشباح الليل حين ينقضون على مائدة أحلامي جاعلين منها وليمة شهية.

كتيب صغير من مكتبة في شارع «فردان» في بيروت، على صفحته الاولى جملة متعثرة: «2 ايلول 2002... الحب من جديد». قلوب حمراء محشوة بالشمع، صنعها «باتشي»، وقدمت اليّ في «عيد حب» مات، منديل من «باتيسري ديليشيز» في الاسكندرية، حجر من ساحة «سانت ستيفان» في فيينا، روزنامة من «لوفر» باريس، شريط لهدى سلطان، صورة جمل يركب «الموتسيكل»، يعلق بقطعة مغناطيس، من وقت البراد القزم على شقة السطح، قبالة الجارات المغربيات اللواتي ينشرن غسيلاً مثيراً على مسكة بابي. دمية رنا الأليفة التي تتحول الى مصاصة دماء في الفجر، روزنامة زينب، نصف ليرة تركية عليها تمنيات الرفاق من اسطنبول، ضحكة دانيا على بطاقات أعياد ميلادي.

كل تلك الكراكيب، التي حملتها الطائرات في سماوات كثيرة، حلقت فوق مدن وبشر وحكايات، اود لو ارميها، فأنام، لكني أخاف أن ارميها فأتلاشى.

ابراهيم توتنجي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...