أطياف فلسطين في مذكرات السكاكيني

08-08-2006

أطياف فلسطين في مذكرات السكاكيني

يحيل تاريخ فلسطين الحديث، عادة، على ما كتبه المؤرخون، الذين يسردون الوقائع ويعطفون عليها أسماء شهيرة، جديرة بالقيادة أو غير جديرة بها. وواقع الامر أن كتابات المؤرخين لا تقول إلا ما أراده المؤرخون، الذين يكتفون بالمشاهير ويضعون البشر، في أحوالهم المختلفة، جانباً. ولهذ، فإن تاريخ الفلسطينيين، وهو تعبير أدق، يوجد في المذكرات الشخصية، التي تصف الحياة اليومية الحية والبشر الذين تصنعهم الحياة، ولا يصنعونها بالضرورة، وربما تكون يوميات خليل السكاكيني، التي بدأ بتسجيلها من مطلع القرن العشرين الى «عام النكبة» مرآة شاسعة لأحوال الفلسطينيين في كفاحهم وتصوراتهم ونمط تفكيرهم، وفي أوهامهم الكبيرة ايضاً. مذكرات فريدة. تقع في آلاف الصفحات، تلتقط، يوماً وراء يوم، ما تأتي به الحياة، اجتماعياً وسياسياً وفكرياً، تاركة مساحة واسعة لأحلام انسان متفرد، خذلته الحياة أكثر من مرة. هذه المذكرات التي لم يلتهمها النسيان، الذي التهم أشياء كثيرة، تظهر اليوم في فلسطين المحتلة، تباعاً، في مجلدات.

ينتمي خليل السكاكيني (1878 – 1953) الى نسق مستنير من المثقفين العرب رأى في المدرسة، ذات مرة، طريقاً الى الرقي والارتقاء، بلغة ليست من هذا الزمان، ورأى التعليم تخليقاً لذاتية مستقلة، بعيداً من منظور لاحق، يختزل التعليم الى محاربة الأمية. لن تكون المدرسة، والحال هذه، إلا علاقة حداثية في جملة من العلاقات الحداثية، تنطوي على الصحافة والحزب السياسي وحرية التعبير وتحتضن، أولاً اعترافاً متبادلاً بين فئات المجتمع المختلفة. ولعل هاجس المدرسة، التي هي «مصنع الرجال» بلغة السكاكيني، هو الذي دفعه الى انشاء مدرسة نموذجية – المدرسة الدستورية – وبناء جهاز لإصلاح التعليم والعمل كمفتش عام للغة العربية وتأليف كتب لتعلمها، حظيت بصيت واسع في فلسطين والعراق ولبنان. لخص المربي فلسفته التربوية بالكلمات الآنية: «إن من واجب المدارس الجديدة أن تعلم الناس الثورة، لست أعني «ثورة السلاح»، فإن ثورة السلاح أهون الثورات... وإنما أعني الثورة على كل قديم، بالٍ، على الاخلاق الفاسدة، على النظم المعوجة». تربط ثورة الفكر بين المدرسة والوطن، وبين الدفاع عن الوطن ووعي تحرر من التقاليد. ذلك أن ثورة مسلحة يقودها وعي متخلف تفضي الى الهزيمة. وهو ما برهن عنه تاريخ فلسطين أكثر من مرة.

في مسار السكاكيني ما يجذب النظر الى أمرين: شخصيته المتفردة المملوءة بالرفض والعمل والحياة، واندفاعه المخلص الى محاربة الصهيونية والدفاع عن فلسطين. وهذا ما جعله يؤمن بقوة الروح، التي لا تستوي بلا قوة الجسد، ويؤمن أكثر بقوة العقل، التي تساوي بين القوة والفضيلة، ذلك أن «حق القوي صريح ثابت، أما حق الضعيف فهو حق مزعوم باطل يستند الى عقل ضعيف ومبادئ منحطة وشعور مختل وجسد سقيم...». لا غرابة في أن يطرد السكاكيني الشاعر القديم «الأخطل» من الكنيسة لأنه «وضع لسانه في سوق المزاد». وأن يوقع بعض مقالاته الصحافية باسم «أبي الطيب»، وأن يوقع رسائله باسم سقراط، وأن ينظر الى السماء فرحاً ويقول: «أكاد أن امسك النجوم وأنا جالس في مقعدي». بيد أن ما يبدو طريفاً، أو قريباً من الطرافة، وهنا الأمر الثاني، مغاير تماماً لما يبدو عليه. فقد انتخب السكاكيني عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، وانتخب لاحقاً في المجمع اللغوي في القاهرة، بتأكيد من طه حسين، وأسس صحفاً وأشرف على اذاعة فلسطين وعمل، عربياً، على محاربة الصهيونية، وتمرد على الاكليروس اليوناني وصاغ نشيد الثورة العربية، وكان حاضراً في العمل الوطني كله، خطيباً ومفكراً وصحافياً، حتى قال مرة: «أكاد أن أكون زعيماً للحركة الوطنية وأنا جالس في بيتي»... كان في السكاكيني، الذي استقال من عمله مع مجيء المندوب السامي الصهيوني هربرت صموئيل، ذلك الاحتفال المدهش بالحياة والكرامة والوطن، كأن يقول: «لو ترك جميع الناس القدس لبقيت فيها وحدي»، أو: «لا استطيع أن أكون تحت رئاسة هؤلاء الرهبان الفاسدين المنحطين». واجه السكاكيني الاكليروس اليوناني المتزمت بنقاء المسيح، وواجه الأرواح الميتة بروح لا تكف عن الاشتغال. كان «يعمل دائماً بروحه»، كما قال عنه نقولا زيادة، ذات مرة.

انطلق السكاكيني، الذي تعرف الى فرح انطون جيداً في أميركا، من فكرة التحرر الوطني، التي لا تثمر إلا بتحرير العقل والارادة الانسانيين. وهذا ما وضع على لسانه تعبير «النفوذ الداخلي» الذي يشير الى تخلف ولود له شكل البداهة، حيث «الضابط يلطم الجندي ويدوس على رأسه»، والمعلم يصفع التلميذ قبل أن يعلمه، والانسان الفقير «يرى في الزعيم رمزاً». انطلق المربي من البداهة العاقلة، التي ترى الى النصر وتعرف أسبابه، وتعرف أن الهزيمة آتية بفضل وعي مهزوم وعقل أدمن السبات. وهذه البداهة هي التي كانت تدفع هذا المسيحي العربي النجيب الى الصراخ في وجه «الارواح الهامدة والعقول النائمة والنفوس المستقرة». وما حلم المدرسة الجديدة الا الحلم بإنسان مغاير، يتعلم الكرامة وهو يتعلم القراءة، ويدخل المدرسة كريماً ويخرج منها بكرامة أكبر. يقول السكاكيني: «المدرسة عندي ليست مكان تربية وتعليم، إنها مكان تربّ وتعلم». لا أحد يعلّم أحداً، وكل الناس أساتذة وتلاميذ، والعقول متساوية، وما يقترح التفاوت هو الظلم والاستبداد. تتعين المدرسة الجديدة، في مجازها الأول، مدرسة لتحرير العقل المعتقل، وتكون في مجازها الثاني مدرسة وطنية، يميز تلاميذها بين القيادة والتزعم، وبين الروح الوطنية والكراهية الطائفية. ربط المربي، الذي دفن في القاهرة، بين «علم جمال العقل» و «علم جمال الوطن»، مؤكداً العقل اليقظ مرجعاً للوطن، والوطن مرجعاً للعقل الاخلاقي. ولهذا اعتقد بأن الانسان الذي يكتشف عقله «اشبه بالآلهة»، وأن من احتفظ بعقل عاطل «اشبه بالبهائم».

في ملاحظات ثاقبة، تخترق صفحاته الشاسعة، توقف السكاكيني، وهو يرى الى فلسطين صائرة الى الهزيمة، أمام ظواهر مميتة ثلاث: احتقار أهل المدن للفلاحين، لغة وسلوكاً وملبساً ومأكلاً، كما لو كان الفلاح من طينة أخرى، يقاد ولا يقود ويسمع ولا يتكلم ويؤمر ويطيع. والمأساة في الأمر لها وجهان: شكل الفلاحون 92 في المئة من مقاتلي ثورة (1936 – 1939)، والوجه الآخر، وهو أكثر فداحة: سلّم الفلاحون تسليماً لا قلق فيه بأن دور الفلاح هو القتال وأن دور ابن المدينة القيادة وإملاء الأوامر. تجلت الظاهرة الثانية في الطائفية، حيث الغالبية تمنع عن الاقلية حقوقها، وحيث الحوار بين الطوائف ممتنع إلا في أزمنة الكوارث. بل ان في الوعي الفلاحي الطائفي ما يرى في المسيحي «إنساناً وافداً» يحق له أن يشارك في القتال والتظاهرات، من دون أن يكون له الحق في القرار السياسي. أما الظاهرة الثالثة فهي الغربة الكاملة بين المقاتلين والقيادة السياسية. هذه هي صورة شعب فلسطين قبل الخروج، الكل يرغب في الانتصار ولا يعرف المسافة بين الرغبة والهدف، والكل يحب فلسطين ولا يعرف معنى الانسان الفلسطيني. لهذا بقي المربي وحيداً، «زعيماً في بيته»، علماً أنه قومي عربي، نقض بعروبته الاكليروس اليوناني، ونادى بدين انساني جامع، بل انه قال بـ «الدين الوطني»، الذي يصالح بين الانتماء الوطني والايمان الديني. قال مرة غاضباً: «إنني عربي وفلسطيني، وإنني مسيحي بقدر ما أنا عربي وفلسطيني»، وقال بغضب أكبر: «هؤلاء القائلون بوطنية قصوى، يقولون في الصباح شيئاً ويتعشون، في المساء، مع الانكليز واليهود».

في مذكرات السكاكيني، بصفحاتها التي تقارب الخمسة آلاف، ما يسمح للقارئ بأن يرى فلسطين، التي كانت، في احلامها وأوهامها وشجاعتها، وفي ذلك الوعي الريفي المتخلف، الذي يضع المتزعم فوق الطائفة، ويضع الطائفة فوق الوطن، كي يندب الوطن حين يصبح لاجئاً. جاء في أحد كتب التاريخ المتأخرة: «وقد خطب في المتظاهرين خليل السكاكيني، وهو مسيحي». كان السكاكيني يقول: «ما أنا إلا معلم عربي فلسطيني يقاتل الصهيونية».

فيصل درّاج 

المصدر: الحياة

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...