«المعلم ديوشين» لإيتماتوف

20-08-2006

«المعلم ديوشين» لإيتماتوف

تقع قريتنا كوركوريو عند سفح هضبة واسعة حيث تنحدر نهيرات جبلية جياشة من مضائق كثيرة، وتحت القرية ينبسط السهب الروسي الذي تمخره السكة الحديد. فوق القرية تقف شجرتا حور كبيرتان على رابية، وانا لأذكرهما منذ ذلك الحين كما اذكر نفسي. الداخل الى القرية يراهما قبل كل شيء مهما تكن الجهة التي تدخل منها الى القرية. هما دائما على مرأى مثل فنارين على قمة. وكم من مرة عدت من الاصقاع البعيدة الى كوركوريو وأنا افكر دائماً في حزن ممض: هل سأرى شجرتي الحور التوأمين قريبا؟ حبذا لو اصل الى القرية سريعا وأهرع الى الرابية حيث الشجرتان فأطيل الوقوف تحتهما واسمع حفيف الاوراق في تلذذ. كنت دائما اصغي الى حفيف الشجرتين وقلبي يدق رهبة وفرحا، محاولا مع هذا الحفيف الذي لا ينقطع ان اتصور تلك الابعاد القصية. شيء واحد لم يخطر ببالي آنذاك: من غرس هاتين الشجرتين؟ لسبب غير معروف سُميت تلك الرابية التي تقف عليها الشجرتان "مدرسة ديوشين". تداول الأهالي في ما بينهم ان مدرسة كانت تقع على هذه الرابية في زمن ما، ونحن لم نجد لهذه المدرسة اثرا. في طفولتي حاولت اكثر من مرة ان اعثر ولو على اطلالها فطوّفت وبحثت لكني لم اجد شيئا، ثم بدا لي غريبا ان تسمّى الرابية الجرداء "مدرسة ديوشين" فسألت الشيوخ، ذات مرة، من يكون ديوشين؟ انه ينحدر من سلالة اسمها "غنمة عرجاء". هو ذلك الشخص الذي يعيش حتى الآن هنا. كان ديوشين في ذلك الوقت كومسوموليا، وكانت على الرابية سقيفة مهجورة لأحد الناس ففتح ديوشين هناك مدرسة ليعلّم الاطفال. هل كانت مدرسة فعلا، ام انها بلا مسمّى. كان زماناً طريفاً.
كنت قليل المعرفة بديوشين. اتذكر انه كان كهلا مديد القامة، شكساً وله حاجبان كثيفان حادان. كان بيته في الضفة الأخرى من النهر، ويعمل خبيرا في ري حقول الكولخور، وكان، بين الفينة والفينة، يأتي الى شارعنا ممتطياً حصانه ويشدّ الى السرج رفشا كبيرا. وكان حصانه يشبهه على نحو ما: بادي العظام، نحيل، ورقيق القدمين. تقدمت السن بديوشين وقيل انه اخذ ينقل البريد حتى لم يعد في وسعي ان اتصور ان ذلك الرجل الملتحي، المتواضع، كان كومسوموليا في يوم من الايام، بل كان ايضا، وهذا اغرب الاشياء، يعلّم الاطفال وهو الضعيف في القراءة والكتابة. كان ساعي البريد (وهي صفة ديوشين الحالية) في الكولخور رجلاً غريب الاطوار. خرج بعد الحرب من المستشفى، وكان ذلك في اوكرانيا، وظل يعيش هناك. مضى على رجوعه خمس سنوات، وهو يقول: عدت لأموت في موطني. يعيش طوال حياته وحيدا، مع انه مارس جميع المهن. بعيداً عن ديوشين، نعيش في قريتنا منذ الازل على عملنا الفلاحي، والمعول يطعمنا، وسيعيش اطفالنا على هذا النحو. فما حاجتهم الى التعلم؟ القراءة والكتابة يحتاج اليهما الرؤساء اما نحن فأناس بسطاء، ولا حاجة بنا الى مدرسة.
في الاجتماع غمر الشحوب وجه ديوشين ففكّ ازرار معطفه بأصابع مرتجفة وأخرج من جيب قميصه العسكري ورقة طويت اربعاً ونشرها في عجالة وقرأ: يعني انكم تعارضون هذه الورقة؟ الورقة تتحدث عن تعليم الاولاد وختمت بختم السلطة السوفياتية. من اعطاكم الارض والماء؟ من اعطاكم الحرية؟ من يعارض قوانين السلطة السوفياتية؟ من؟ اجيبوا. نحن قوم فقراء، كنا طوال حياتنا مداسين ومهانين. عشنا في الظلام والآن تريد السلطة السوفياتية ان نرى النور، وأن نتعلم القراءة والكتابة، ومن اجل ذلك ينبغي تعليم الاولاد.
كان ديوشين الوحيد بمعطفه الاسود يتسلق كل صباح الدرب الى الرابية حيث الاسطبل المهجور، ولا يهبط الى القرية الا في ساعة متأخرة من المساء، وغالبا ما كنا نراه يحمل على ظهره حزمة كبيرة من العشب الجاف او القش، وحين يراه الناس من بعيد يقفون على ركابهم واضعين اكفّهم فوق أعينهم ويتحدثون في دهشة:
- أهذا هو المعلم ديوشين يحمل حزمة من القش؟
ويتردد الصدى:
- هو بنفسه.
- يا له من مسكين. الظاهر ان عمل المعلم ليس بالامر الهيّن ايضاً.
- نعم. لانه يحمل ورقة ممهورة بختم، وكل القوة فيها.
منذ ذلك اليوم كان ديوشين يجمعنا من بيوتنا كل صباح. وحين دخلنا المدرسة للمرة الأولى اجلسنا المعلم على القش المفروش على الارض واعطى كل واحد منّا دفتراً وقلماً ولوحة خشبية.
ثم قال ديوشين:
- ضعوا اللوحة على ركبكم لتكتبوا بصورة مريحة، ثم اشار الى صورة لروسي ملصقة على الجدار وقال:
- هذا لينين.
الآن، حين اتذكر ذلك لا اصدّق انه وقع فعلاً. ضحك الاغنياء من ديوشين. فكم من مرة، حين كانوا يسيرون في عمراتهم من فراء الثعالب، ومعاطفهم الثمينة من فراء الخرفان، راكبين الخيول المطهمة والعامرة بالحيوية يتفرسون ملياً في ديوشين ويضحكون. عندما حان رحيلي، أنا كاتب هذه القصة، ودّعتُ معلمي ديوشين ومدرستي الاولى، وطفولتي، وحبي الاول. شكراً لك يا ديوشين!
انصرمت الحرب والشبان لا يعرفون أيَّ معلم كان ديوشين في زمانه، وكثيرون من الجيل القديم ماتوا، وقُتل غير قليل من تلامذة ديوشين في الحرب وكانوا محاربين سوفياتيين حقيقيين، اما عن ديوشين فلم نعرف شيئاً. هل مات في الحرب أم أنه لا يزال حياً!.

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...