الحرب في السينما: الفرق بين الواقع والمتخيل

22-08-2006

الحرب في السينما: الفرق بين الواقع والمتخيل

من بين فصول الحرب العالمية الثانية، لا تزال ذاكرة العالم تكتظ باللقطات السينمائية المتتابعة للطائرات الأميركية، وهي تحلق طليقة في السماء، من دون اي اكتراث بالصواريخ المطاردة، او بالأهداف المتحركة المراوغة. ذلك التحليق لم يهدأ طوال ايام حرب الخليج الثانية ايضاً، للتغطية على ما يجري في ارض الواقع، ولحسم المعركة مبكراً عبر الصورة، التي جرفت في الوقت نفسه، سيل الكلمات المسموعة والمقروءة التي تصف الحرب، وتسهب جاهدة في تبيان التفاصيل. بدا واضحاً منذ بداية القرن الماضي، ان من يمتلك الصورة يمتلك السلطة، وان الكاميرا قد تكون امضى الاسلحة في الحروب المعاصرة.
اذاً، ثمة "حكاية غرام" طويلة بين السينما والحروب التي تتجدد مع كل زمن. ليس من نزاع مسلّح بين طرفين متخاصمين لم ينقل الى الشاشة الى حدّ ان الفيلم الحربي بات صنفاً سينمائياً في ذاته. هذه السينما انتجت تحفاً أشد وطأة وهولاً من اقتباسات كلاسيكيات الادب الروسي والفرنسي والانكليزي مجتمعة، بعدما وجدت في الحرب انعكاساً لذروة التراجيديا الانسانية وعنواناً لافتاً لجماليات الخراب والدمار ونهاية البشرية المنتظرة. معظمها أظهر ان التناقض سمة آدمية بامتياز: يكفي أن نرى كيف يُستخدَم العقل حيناً للخلق والبناء والتطوير، وحيناً آخر للارهاب والقتل والتدمير.
كثيرة هي الحروب التي استوحت منها السينما، فلكل حرب أفلامها، ولكل حرب متخصصوها من مخرجين تداركوا حقيقة الامر عبر اللغة السينمائية، خدمة للذاكرة الجماعية. قبل فييتنام، كانت الحرب الاولى الأحب الى قلوب السينمائيين، ذلك ان الفن السابع كان لا يزال متلعثماً حين اندلعت عام 1914. وجد السينمائيون أنفسهم في خضم معركة للدفاع عن حقوق الضعيف والمستضعف، بكل بدائية، وتلقائياً، ومن دون سابق تصور وتصميم، وبسذاجة معينة. شكلت الحرب الاولى، وما تبعها من ذكريات جماعية دامية، من مثل الثورة البولشفية في روسيا وابادة الشعب الارمني في تركيا وتحرر المستعمرات، خزاناً كبيراً للافكار التي صاغت التاريخ. لم تكن تلك الحرب، بعكس الحرب التالية، معركة ضد الايديولوجيات، بل كانت تختم حقبة وتفتح مرحلة جديدة، برز فيها العملاقان: الولايات المتحدة وروسيا. كانت قبل كل شيء مجزرة بشرية ومأسوية متلفة للاعصاب.
لم تبقَ السينما ازاء الحرب الاولى (ولاحقاً ازاء الحروب الاخرى الكثيرة) مكتوفة اليدين، بل كان لها منها مواقف نقدية بالغة القسوة. وظلت اهوال تلك الحرب ماثلة في الوجدان الجماعي طوال عقود، كجروح عميقة لم تبلسمها الحروب المتعاقبة. واذا كانت الحرب الثانية ألهمت كبار السينمائيين فولدت من رحمها عشرات الافلام الجيدة، فالحرب الاولى تغذت منها مخيلة الرواد، وفي طليعتهم غريفيث ورونوار وغانس وفيدور. في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، أقدم المخرج الفرنسي الكبير جان رونوار على انجاز واحد من أهم الافلام في تاريخ الفن السابع. دارت حوادث "الوهم الكبير" في مخيم للاسرى حيث يحاول فرنسيان الفرار. هذا الشريط الطليعي كان قبل كل شيء وصفاً دقيقاً لواقع العداء، الكره والاحترام والتشارك في المخاوف. انه فيلم حالم نوعاً ما، انساني وخصوصاً شامل، يرمز فيه الممثل فون شتروهايم الى المانيا.
لا عجب ان يكون عدد لا بأس به من المخرجين حصدوا سينمائياً ما زرعته الحروب في محيطهم. فهؤلاء سرعان ما ادركوا ضرورة التأريخ بصرياً. وفي حين كانت اوروبا تعيش اولى سنوات الحرب الثانية، صوّر في هوليوود يومئذ، الشريط المناهض للالمان، "قلوب العالم"، مع ليليان غيش، حيث نرى الالمان عنيفين ووقحين ومجسدين بطريقة شبه كاريكاتورية. هذا اول فيلم هوليوودي مهم عن تلك الحرب. نجمة السينما الصامتة غيش، تبكي امها وتتيه في ساحة المعركة. انطلاقاً من هذا العمل صارت الصورة شبه اداة. من لا يملكها يغيب عن الساحة، او يوضع في عداد الاموات. الجدير بالذكر ان اللجنة السينمائية لمكتب الحرب البريطانية هي التي امرت بتصويره، وادرجت الخطوة في مساعيها "الحميدة" لتوعية الاميركيين وتزويدهم معلومات عن مشاركتهم في المعركة. لم تكن كلمة بروباغاندا ولدت بعد، بيد ان المقاربة كانت متباينة منذ ذلك الحين من سينمائي الى آخر، اذ في عام 1937، عندما اخرج ابيل غانس "إني أَتّهم"، وتلته بعد سنة نسخة ثانية بالصوت، كانت اهدافه سلمية ليس الا، ما دام الاموات يعودون فيه الى الحياة لمنع اندلاع حرب جديدة.
في أفلام كثيرة، اختيرت الحرب الاولى ديكوراً فحسب. مثال ذلك، "الحفل الكبير" لكينغ فيدور في العام 1927 الذي تضمن مشاهد مبهرة على المستوى الجمالي. في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، صورت نحو خمسة افلام حربية لا تشكو شيئاً، منها: "ملائكة الجحيم" لهاورد هيوز مع جان هارلو، عن قصة كلاسيكية لصديقين فرّقت بينهما الحرب، منطلقاً من فكرة النزاع كعائق امام العلاقات، والتي اعيد طرحها مراراً وتكراراً، حيناً في قالب كوميدي ("بطل الابطال" لجيرار أوري)، وحيناً في اطار مأسوي ("بيرل هاربور" لمايكل باي). ولم يتوانَ هيوز (نرى هذا كله في "الطيار" لسكورسيزي) عن استخدام طائرات تلك المرحلة واللجوء الى قدامى الحرب لقيادتها. بيد ان حمّى التحليق جواً في مغامرات حربية سرعان ما انتقلت الى سينمائيين آخرين اعجبوا بهذه الآلات وبالابطال الذين يقودونها. في هذا السياق نأتي على ذكر فيلمين، الاول لهاورد هوكس، "ذا داون باترول" (1930)، مع دوغلاس فيربانكس جونيور، والثاني هو "النسر والصقر" (1933) حيث كاري غرانت في جسد طيار يغرم بكارول لومبار. كذلك شكّلت الحرب الاولى مادة شائقة للشريط البوليسي، ولعل أبرز ما عكس هذا الاتجاه هو "ماتاهاري" مع غريتا غاربو، وأيضاً "العميل السري" لالفرد هيتشكوك الذي يمزج ببراعة السياسة والجواسيس والظروف التاريخية في سويسرا المحايدة.
مع اندلاع الحرب الثانية، لم تعد السينما تستخدم الحرب الاولى للترفيه بل لتحذير الشعوب او للترويج. غير ان الوصول الى القمة في "المشهد الترفيهي" لم يحصل قبل العام 1951، السنة التي شهدت اللقاء الاسطوري بين همفري بوغارت وكاترين هيببورن في "الملكة الافريفية" لجون هيوستن. اصبح هذا الفيلم كلاسيكياً وعاد بأوسكار الى بوغارت الذي جسّد دور مدمن على الكحول يساعد مرسلة مسيحية. ثمة افلام اخرى مثل "ماكس الازرق"، وهو يعدّ احد اول الافلام الاميركية الذي لم يصور الالمان اعداء متوحشين، تشدد اكثر على العلاقة بين الطبقات لا على الاختلاف بين الجنسيات.
لم يغب الايطاليون عن سينما الحرب، لكن على طريقتهم الخاصة، التي كانت في مجمل الاحوال فكاهية في طرح المآسي، تجلت في "الحرب الكبيرة" لماريو مونيتشيللي الذي نال جائزة "الاسد الذهبي" في مهرجان البندقية عام 1959، يوم كان المخرجون الايطاليون ينجزون الروائع. وكيف لنا ان ننسى "والسفينة ذاهبة" لفيلليني الذي يتمحور، في استعارة غريبة لكن بالغة الدلالات، حول قصة تدور حوادثها على متن سفينة حيث اشخاص لا مبالون وشعبيون يسعون لانقاذ لاجئين صرب هم من ضحايا الحرب التي اندلعت للتو. كيف يمكن ألا نضيف الى هذه القائمة برناردو برتوللوتشي ورائعته الملحمية "1900" مع كل من روبرت دينيرو وجيرار دوبارديو.
عندما نراجع علاقة السينمائيين بالحروب التي صوروها، نكتشف ان هؤلاء شهدوا منذ البداية على جنون الانسان وقدرته اللامعقولة على التدمير الذاتي. "صلبان الخشب" مثلاً، الصادر عام 1932 والمقتبس من حياة رولان دورغيليس ومن روايته، يكشف ابسط الامور وأكثرها تعقيداً: بشاعة الطبيعة الانسانية. فيلم نعيش فيه مع الشخصية ونشتمّ رائحة الموت والثورة والرؤية المؤسفة لعالم يسارع الى حتفه. وفي الفترة نفسها تقريباً، يجمع "وداعاً أيها السلاح" الممثلين غاري كوبر وهيلين هايز في قصة حب بين ملازم اول في الاسعاف وممرضة في ايطاليا. وراء هذه القصة الرومنسية، نجد اتهاماً مباشراً لمعنى المعركة وطرحاً لفكرة تفضيل الحب على الحرب. الحق ان أفلام تلك المرحلة كان يعبرها شيء من السذاجة والتبسيط في النظرة، وخصوصاً اذا عقدنا مقارنة بينها وبين التحف الحربية التي انهالت علينا منذ نهاية السبعينات مع "صياد الغزال" (تشيمينو) و"القيامة الآن" (كوبولا) الذي لا يزال حتى الآن، بحسب اعتقادي، أروع فيلم تناول الحرب، ولاحقاً "بلاتون" (ستون) و"أضرار الحرب" (دو بالما) و"فول ميتال جاكيت" للراحل الاعظم ستانلي كوبريك.
من أول الافلام الحربية التي طرحت رؤية مأسوية ملحقة بنقد لتعصب الجنود وعنادهم، "لا جديد في الغرب" للويس مايلستون، وهو اقتباس من بيست سيلير الالماني ايريش ماريا رومارك، الصادر عام 1928. لكن السينما الحربية لم تقتصر على الملاحم الطموحة والعمل المنبثق من التأمل ووجهة النظر الحقيقية فحسب، انما صارت مصدر لهو للمراهقين لا سيما مع بداية موجة الثمانينات (سلسلة "رامبو") التي فرضت قوانين جديدة مفادها انه يكفي بطل مفتول العضلات يحمل في يده رشاشاً وفي مواجهته حفنة من "الاعداء" لصنع فيلم حربي. غير ان هذه الموجة لم تحد من امكان العودة الى التاريخ بل ظل العديد من الاعمال المناهضة للعنف يستوحي من الحرب الاولى، مثل الاوسترالي بيتر وير الذي اتخذ عام 1981 من معركة غاليبولي في تركيا (قامت بإبادة الارمن عام 1915) خلفية للصورة. أُرسل صديقان اوستراليان الى هذه الجبهة (احدهما ميل غيبسون)، ولم يكونا مستعدين لمواجهة الاتراك المجهزين والهجوميين. وهو فيلم عنيف وعاطفي ومدمِّر.
من سلسلة الافلام التي تصدت لمآسي الحروب ومعارك الايديولوجيات، "ريدز" لوارين بيتي، المقتبس من قصة الكاتب الصحافي جون ريد، في خضم ثورة اكتوبر عام 1917، التي ستحمل مستقبلاً اسم الاتحاد السوفياتي. غير ان العمل الابرز الذي يتناول في الوقت عينه نهاية المستعمرات، مستبقاً حصول معارك القرن الاخرى، هو "لورنس العرب" لديفيد لين الذي صوّر ايضاً قصّة حب جارفة في "دكتور جيفاغو" تجري حوادثها في خضم الثورة الروسيّة، وتمّ اقتباسها عن رائعة الكاتب بوريس باسترناك. قد لا يسنح لنا المجال هنا لتعداد عشرات الافلام الحربية القيمة التي صورت الحرب من منظور فكري انساني فلسفي، لكن اهمها: "السفينة"؛ "القذرون الـ12"؛ "امبراطورية الشمس"؛ "باتون"؛ "جسر النهر كواي"؛ "ستالينغراد"؛ "اليوم الاطول"؛ "ما دام هناك رجال"؛ "تورا! تورا! تورا!"؛ "الهروب الكبير"؛ "مدفعيات نافارون"؛ "ذلك الاحمر الكبير"؛ "فوريو"؛ "غلوري"؛ "عازف البيانو"؛ "الطبل"؛ واخيراً "بيرل هاربور" الذي ارى فيه احتمالات سينما كبيرة اذا تمكنّا من فصل خطابه النتن عن انجازاته البصرية الخلاقة.
لطالما كان للسينما اثر سياسي وشعبي كبير ظل عرضة للتلاعبات غير الواعية او المطلوبة. اخرج الالمان افلاماً عديدة عن الحرب الاولى بعد 1935، من قبيل الترويج. على سبيل المثال، "سيرجنت يورك" لهاورد هوكس (سيناريو لجون هيوستن) المتمحور حول قصة فلاح مفلس وعاطل عن العمل، يكتشف الايمان في يوم كان يستعد فيه لقتل احدهم. يصور هوكس بروعة حياة الجنود وافعالهم متأرجحاً بطريقة غير تقليدية بين الحياد ونشر الرسالة الوطنية والعسكرية.
في ثلاثة عقود، انتقلت السينما بطريقة طبيعية من الترويج الى رؤية اكثر مثالية. لم يعد هنالك داعٍ للافلام عن الطيارين القيمين او السيناريوهات التي تصور العلاقات الملتبسة بين الاعداء. فالعالم يتمزّق باستمرار بالحرب واصبحت الحرب الاولى شاهداً على عبثيتها ونتائجها السلبية على البلدان والضحايا. أيقن الجميع ان ما من رابح، وان "الجثة وحدها ترى نهاية الحرب" (أفلاطون). ازاء ذلك، لم يكن جائزاً للمخرج الفرنسي الكبير برتران تافيرنييه ان يبقى صامتاً. ففي "قبطان كونان" عالج فصلاً منسياً من تجربة عسكرية فرنسية في البلقان، معطياً نفسه فرصة لكي يقدم بتأملات سوداوية عن الحرب.
اللافت انه في العام الماضي، وفي اطار احتفالات جرت في فييتنام لمرور ثلاثين عاماً على نهاية حرب فييتنام، بدأ عرض فيلم "تحرير سايغون" الذي استغرق التحضير له عشر سنين، وتدور حوادثه على سقوط مدينة سايغون في يد القوات الفييتنامية. عرض الفيلم عندما قررت السلطات الفييتنامية معاقبة الممثل الفييتنامي دون دونغ بسبب مشاركته في "كنا جنوداً" لميل غيبسون، وتدور حوادثه حول معركة ايا درانغ التي وقعت عام 1965 وانتصرت فيها كتيبة أميركية على قوة فييتنامية شمالية كبيرة. وزارة الخارجية الفييتنامية علقت على الفيلم الأميركي قائلة: "إن فيلم "كنا جنوداً" لا يقدم التاريخ الحقيقي للحرب العادلة التي شنها شعب فييتنام ولا يقدم الجندي الفييتنامي في صورته الحقيقية".
إذا اعتبرنا ان افضل الأفلام الحربية الأميركية التي صورت منذ التسعينات حتى الآن، هي "انقاذ الجندي راين" لسبيلبرغ، و"الخيط الاحمر الرفيع" لماليك، يمكن من خلالها رصد بعض التعديلات التي أصابت سينما الحرب في المدة الأخيرة. ومن هذه التغيرات أن معنى البطولة ليس مطلقاً، بل نسبي وفردي وذو خصوصية شديدة. وربما يكون السبب هو العقدة الفييتنامية. هذا ما نراه في "إنقاذ الجندي راين"، في حين يطرح "الخيط الاحمر الرفيع" الحرب بمعناها العبثي، وهو المعنى الذي حاولت السينما العالمية الابتعاد عنه في غالب الأعمال.
ومثلما ابتكرت السينما الأميركية تاريخاً للشعب الأميركي عبر أفلام "الويسترن"، فإنها سعت جاهدة لصنع بطولات لهذا الشعب من خلال أفلام الحرب. في اي حال، هذا ما طرحه "يو - 571" لجوناثان موستو الذي يحكي قصة استيلاء مجموعة من الجنود الأميركيين على غواصة المانية تحمل اجهزة حديثة. أما "أبطال عاصفة الصحراء" فربما يجيب عن بعض الأسئلة التي تهم الأميركيين أكثر من غيرهم والتي يعتبر طرحها دعما للصورة التي تحاول أميركا ترويجها. من هذه الأسئلة: هل الانسان محبّ للحروب في طبعه؟ وهل الحرب حالة طارئة على البشر أم حالة مستديمة؟ ما الذي يجب على الأميركيين فعله لمواجهة قوى الشر؟ هل أميركا دولة تعتز بقوتها العسكرية فتبادر الى شن حروب على الآخرين أم كثيراً ما تضطر الى المشاركة في الحرب لرد العدوان عن الحلفاء؟ بالطبع، يمكن توقع الاجابات التي تقدمها الحوادث، بل يمكن توقع الظلال المحيطة بهذه الاجابات، إذا عرفنا أن احداث الفيلم تدور على حرب تحرير الكويت 1991، وذلك بالتركيز على اللمسات الإنسانية والواقعية للأبطال، حيث يفاجأ الجميع بالحرب فتنقلب الحياة العادية للأبطال.
لا يكتمل مشهد السينما الحربية من دون المداخلات المدوية التي قام بها السينمائيون الاوروبيون (هل لنا ان ننسى تحفة "هيروشيما حبي" لألان رينه؟)، من مثل امير كوستوريكا الذي شعر بعد نشوب حرب البلقان بالرغبة في العودة الى بلاده يوغوسلافيا وإخبار تاريخه للغربيين، فانطلق في اكثر اعماله طموحاً، "أندرغراوند" (1994)، حيث روى، انطلاقاً من سيناريو دوسان كوفاسيفيتش، مؤلف يوغوسلافي كبير، 50 عاماً من حياة بلاده، بدءاً من الحرب العالمية حتى القضايا المعاصرة. كوميدياً في الشكل، قد يبدو محتواه ملتبساً للذين لا يتمعنون فيه، ويعتبر من اكثر افلامه اثارة للجدل. انجز تصويره خلال حصار ساراييفو ويسخر فيه من الاكاذيب المحبوكة في يوغوسلافيا الشيوعية. ولم يقلع النقاد عن توجيه الاتهامات الى المخرج والتدخل الغربي في الخلافات الصربية.
أما اريك رومير، المكرّم والمكرّس كأحد "الذئاب المحنكين" في السينما الفرنسية، فتخيّل عبر فيلمه "الانكليزية والدوك" ما يتعذر تخيله، وأنجز ما يصعب إنجازه: تنويعة على موضوع الثورة الفرنسية بموازنة خجولة، بحيث احتلت اللوحات مكان الديكورات التقليدية، من خلال اسقاطها رقمياً على المشاهد المصورة بالطرق المعروفة. لم يداعب رومير التاريخ فحسب لكنه يأخذ عنوة علامات الفيلم التاريخي، ويستولي على منهجيتها، باعثاً في مشروعه الجانب الوثائقي - الإرشادي. على عكس أفلام كثيرة عالجت هذا الموضوع، فإن المسار المتّبع هنا، فرض على رومير أن يلتزم وجهة نظر أحادية الجانب، فالبؤس البدائي الساذج لا مكان له، ولعلها كانت فكرة رومير ليظهر كم أن الحقيقة مطاطة وكم أنها قابلة للتغيير، وبالتالي مدى ارتباطها بالزاوية التي نراها منها، فالجميع لديه اسبابه الخاصه ليعتقد أنه على حق.
الحرب الاهلية الاميركية باتت معروفة من فرط ما صوّرتها السينما الاميركية، منذ ايام غريفيث مع "ولادة امة" الى تشيمينو مع رائعته "باب الجنة"، مروراً بـ"ذهب مع الريح" لفليمينغ، الذي "زرع" شخصياته في هذا الديكور الذي يتصارع فيه ابناء العالم الواحد. لكن الزمن تغير والعقلية أيضاً.
الرومنطيقية الهوليوودية الخام لم تعد تتماشى مع نظريات الحداثة المعادية للبورجوازية، وأثبتت التجارب في ما بعد ان من غير المستحب المس بالتاريخ الاميركي، حتى ولو كان ذلك على حساب الحقيقة. حديثاً، كان على انطوني مينغيللا، في فيلمه الاخير "جبل بارد" ان يعود بسينماه الى اكثر الفصول دماراً وعاراً في تاريخ الدولة العظمى. لكن السينما فن وقضية (بغض النظر عن المضمون السيئ للكلمة)، لا تحكمها القوانين، ولا تتقيد بالاعراف والتقاليد الإجتماعية، لا بل هي وجدت لكي تعاكسها وتفضح الكذبة الجماعية. اذ في أسلوب مينغيللا في التعاطي مع مسألة الحرب الأهلية الاميركية، ينبغي ان نرفع له القبعة، لان الرجل لم يكتف بإدارة المعارك بصورة كاملة، انما اراد ايضاً الابتعاد عن الخطاب التقليدي السائد في هوليوود، وترك ابطال هذه "التراجيديا الاغريقية"، خاضعين لمصائرهم، يَقتلون ويُقتلون، ليلعن الله الساعة التي خلق فيها الانسان على صورته. بالتأكيد، ادانة الحرب ليست بجديد في السينما الاميركية، لكن جعلها تبدو كأهم اكتشاف للانسان منذ ولادته، وتصوير ابطالها هاربين من نار جحيمها، من مزايا آخر الافلام الحربية.
في العادة، لا تخلو الروايات الحربية الاميركية من البطولات المزعومة والخرقاء، وتعبئة القلوب حقداً وعنفاً وكراهية، او ايماناً بالشرف والفضيلة لدى "جنود الواجب". مللنا صيغة الجندي الصغير التافه والمتعجرف والنزيه الذي يلتزم الدفاع عن شرف عائلته وبلاده. في آخر الافلام الحربية، لكل شخصية حدود يرسمها منطق الامور وطبيعة الظروف الانسانية. كأنها ترغب في القول: "كفانا كذب ونفاق". فالجندي الذي يرميه وطنه في البرد والصقيع ونار جهنم، لا يستطيع ان يفكر بوطنه. مينغيللا أدرك ذلك، اذ صوّر الجندي الجنوبي الهارب من واجباته العسكرية والقومية تجاه "وطنه"، علماً انه بطل بامتياز. قضيته انه لا يملك قضية ولا يرغب في الموت من اجل لا شيء. له كامل الحق في الهرب من جحيم الحرب، والعودة الى "كولد ماونثن" والى حضن الحبيبة التي تنتظره على احر من الجمر.
هل الخسارة التي تخلفها الحروب في النفوس البشرية ضرورية لندرك قيمة الحياة والانسان؟ هل الحقد يؤدي بنا الى فهم حاجتنا الى الحب وحاجة الحب الينا؟ خلف الكادرات الانيقة التي يهندسها الفيلم الحربي، ثمة حقائق مواربة تتجلى في حاجة الانسان الى النظرة السوداوية، وحاجة قصص الحب الى المأساة. كذلك، وراء الشعارات العسكرية والصدور العارمة بالواجب والتضحية والوفاء، ثمة علم مرصع بالنجوم تدوس عليها اقدام الجنود الهاربة الى الحرية والحياة والى حضن العشيق الدافىء. في اي حال، ادركت سينما الحرب انه ليس جائزاً فصل الحب عن الحرب لان الاثنين يتطلبان تضحيات كبرى.

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...