ياسين رفاعية: بيروت هي الحلم والمفتاح

05-09-2006

ياسين رفاعية: بيروت هي الحلم والمفتاح

مع العديد من القصص، والروايات، والمجموعات الشعرية، وكتابة المذكرات، يحاول الكاتب ياسين رفاعية النجاة عبر الكتابة، مما تزخر به حياته من موت أحبه. عن إصداره الجديد: الحياة عندما تصبح وهماً وفيه كشف حنون عن سيرة حياة جمعته والشاعرة الراحلة أمل جرّاح، حاورته عناية جابر:

الحياة عندما تصبح وهما اصدارك الروائي الجديد عن دار الساقي وفيه حكايتك مع زوجتك الراحلة أمل جراح ماذا فعلت بك المسافة عنها الآن؟
? أصدقك القول، كأن رحيل أمل كان البارحة ان لم يكن قبل دقائق، ذلك ان أمل جراح لم تكن زوجة وأما فقط، بل كانت كل شيء في حياتي، ومهما فعلت، ومهما كتبت عنها لا أفيها حقها... بل أشعر منذ وفاتها والى الآن بالندم الشديد لما قد أذيتها... بقصد او دون قصد، كانت حنونا الى حد عجيب، بل كانت تفهمني على الطاير كما يقولون... وغالبا ما كانت تقول لي ما أفكر به، وتكون صادقة، ومهما تحايلت عليها كانت تكشفني بذكاء... وأحيانا تتجاهل اخطائي وموبقاتي، طالما، في الختام أعود الى البيت.
وأمل موجودة في كل ما كتبت، في رأس بيروت في أسرار النرجس وفي وميض البرق التي قرأت فيها موتها قبل رحيلها بأشهر. وأول ما أبتدرتني بالكلام عن تلك الرواية: أهكذا سيكون مصيرك بعد رحيلي. وبكت. يا لحسرتي عليك. كررتها مرارا. وفي الواقع كانت وميض البرق قصتنا منذ البداية، وهي محشورة في يوم واحد من الزمن، فاذا كانت وميض البرق هي الحلم والرؤيا، فإن الحياة عندما تصبح وهما هي الواقع، في كل سطر فيها، منذ اللحظة التي سقطت فيها على كتفي الى اللحظة التي واريناها فيها الثرى. هل تصدقين يا عناية، انني ازور قبرها بشكل شبه يومي، وعندما اضطر الى السفر اذهب الى قبرها واستأذنها... ولا أبالغ اذا قلت لك انني أبث همومي لها كانت خرجت من القبر وجلست امامي تستمع لي بصمت وبإصغاء شديد... لا أستطيع ان أصف لك مشاعري تجاه هذه الحالة التي لا تفارقني على الدوام، وكنت أظن ان في الكتاب تخف وطأة الموت عن كاهلي... لكن بالعكس، يزداد حضور الموت شراسة وقسوة خصوصا بعد ان فقدت ابنتي الشابة بعد اشهر حزنا على أمها.
أنا أرى الرواية جزءا من سيرة ذائبة، وبالنسبة لي فقد كتبت حتى الآن تسع روايات كلها جزءا من حياتي التي عشتها بالطول والعرض، ومأساة أمل موجودة في قصصي ورواياتي بشدة بين السطور. وكلما انتهيت من رواية او قصة أشعر انني لم أكتب كل شيء عن هذه المرأة... ويوما بعد يوم من رحيلها اكتشف كم كانت عظيمة ومتفهمة للحياة التي كانت تحبها حتى الطغاف. وتلعن قلبها الذي راح يخونها منذ صباها، لكنها قاومت بشجاعة نادرة تعجب منها أطباؤها، خصوصا في المرحلة الأخيرة عندما قال لها طبيبها: يأ أمل... لقد دخلنا النفق المسدود، ومصيرك الآن بين يدي الله... فأجابت: في الحقيقة أنا تعبت وآن لي الرحيل. استسلمت بكبرياء وواجهت مصيرها بشجاعة قلّ نظيرها. باختصار ما زالت معي حتى هذه اللحظة... وهذا المقعد المجاور لمقعدك هو مقعدها، في الحقيقة ذهبت... ولم تذهب.
في كتابك، وعلى الرغم من إضاءته على خصال الراحلة. الرقة والعذوبة وحب الحياة. سوى انك انت المعشوق دائما وهي العاشقة لك. في حياتها كانت ألفتها نحوها واستفاق حبك لها بعد الموت؟
? كلنا لا نشعر بقيمة الشيء الا بعد فقدانه، صحيح ان امل كانت مليئة الحياة حياتي من كل جوانبها. ويا للأسف الآن أحسست كم انا بحاجة لها. الآن حيث أعيش عزلتي وحيدا في بيتها التي تركته لي. هذا الاحساس بالندم الشديد... لماذا لم انتبه لها كفاية؟ لماذا تجاهلت بغير قصد هذا الحضور الشفاف الذي احاتطنا به انا وولديها رغم مأساتها وتهديد الموت لها في كل لحظة؟ في العشق كانت تدرك معنى ان تحيط رجلها بالحب الصادق والأصيل، وهي ربما بسبب عنايتي بها كان الحب القوي هو ردها. لم تكن تملك الا ان تحب. تحب زوجها وولديها، بل الناس كلهم، وكانت صديقاتها الأشد مرارة وحزنا عليها، اذ قالت لي احدى صديقاتها: فقدت اختي. وأول احد الاعياد كنت ذاهبا لزيارة قبرها، وعن بعد نبهني ابني قائلا: بابا... من هي هذه المرأة المتشحة بالسواد المنكبة على قبر أمي؟ استغربت انا ايضا... واقتربنا على مهل... واذا بصديقة لها تندب وهي تبكي: وين رحت يا أمل... لمن اشكو بعد رحيلك همومي اليومية؟ وبالفعل... الى الآن تتواصل صديقاتها معي ويسألنني ان كنت بحاجة الى شيء. بل لها صديقة هي جارتنا في البناء المقابل... ما زالت الى الآن ترسل لي الطعام اذا ما طبخت أكلة معينة. صحيح ربما كانت هي العاشقة وأنا المعشوق ولكن، الآن، انعكست الآية لأصبح انا العاشق لها الى حد الجنون وهي المعشوقة.
أجل... أجل... لم اعطها حقها كما يجب. والآن اشعر بندم شديد احاول ان اكفكف ندمي ودموعي بالكتابة عنها.
عالم كتابتك... ورواياتك هو عالم دمشقي صرف. عالم القبضايات والحواري والناس العاديين في حياتهم اليومية. مع انك سافرت وزاخرة حياتك بالغربة والمنافي والتشرد. لندن على سبيل المثال... هل كتبت عن عوالم غربتك؟
? إن اي كاتب يبدأ بالجذور حيث عاش نشأته الاولى خصوصا عندما تكون تجربة البدايات ما زالت طازجة، فدمشق كانت في روايتي <مصرع ألماس> التي طبعت حتى الآن ثلاث طبقات واحدة في بيروت واثنتان في القاهرة. وهي رواية مشبعة بالجو الدمشقي وأحياء دمشق القديمة وقبضاياتها الرجال الأشداء الذين كنت معجباً بهم الى حد كبير. وكدت في شبابي اقلدهم في المسدس على جنب والخنجر على الجنب الآخر. لكن ابي وهو احد قبضايات حي العقيبة الذي ولدت فيها، كانت له رؤية مستقبلية فمنعني عن هذه المظاهر... وظل يردد على مسمعي: يا بني... لكل عصر زمان ورجال... وكل ما تراه سوف يزول، لان الحياة في تطور مستمر لكن منذ رحيلي الى بيروت اوائل السبعينيات تغيرت احوالي وبدأت اتشرب حضارة بيروت التي كانت تشبه حضارة الغرب. ولعل انطلاقة المرحلة الثانية من حياتي كانت في بيروت فكتبت عن حربها الاهلية اربع روايات، ومعظم قصصي القصيرة وخصوصا مجموعة العصافير التي صدرت الآن طبعتها الرابعة. بين عام 1963 و1974 اصبت بنوع من الجفاف الأدبي... فلم اكتب شيئا على الاطلاق... ومع عام ,1974 عندما استقرت بي الامور في بيروت انطلقت من جديد بهذا الكم الكبير من الانتاج الأدبي، بدءاً بـ العصافير التي اثارت في حين صدورها الكثير من النقاشات والدراسات نشرت بعضها في القسم الاخير من الطبعة الرابعة.
في الحقيقة كانت بيروت المفتاح الجديد لكل كتاباتي فيما بعد. لان بيروت كانت الحلم الذي سعيت الى تحقيقه منذ مطلع شبابي، فكانت روايتي رأس بيروت ثم امرأة غامضة والممر ودماء بالألوان... وهي روايات مستوحاة من الحرب الاهلية كلها. في لندن لم تفعل في ما فعلت بيروت، إذ ظللت ستة عشر عاماً وأنا الهث وراء لقمة الخبز... فلم استطع ان اكتب عنها شيئاً... إلا فيما ندر ويمكن القول ان كثيراً من الكتّاب والنقاد يظنون انني كاتب لبناني، ولا انفي ذلك ابداً، فأنا لبناني الهوى وان كنت احمل تذكرة هوية سورية... ولا تنسي ان امل اوصت ان يكون قبرها في بيروت دون سواها. ونفذنا لها وصيتها.
ألاحظ في كل كتاباتك ان هناك مشكلة لديك لها أطراف ثلاثة: الحياة. الزمن. الموت. وهذا واضح في روايتيك الاخيرتين <وميض البرق> والحياة عندما تصبح وهماً الى ماذا ترمي في ذلك؟
? الحياة. الزمن. الموت. انها اشياء تحمل مفاتيح قلوبنا بأيديها، ترسم لنا هيئة، ثم لا يلبث الزمن ان يمحوها. يلعب بنا كما يلعب طفل بدميته، وعندما يمل منها يحطمها، في حضرته نمشي على بقعة من الزيت، تارة ألوان مفرحة وطوراً قاتمة، تلك هي الحياة بمجملها، حيرة في حيرة. عجبا، كيف نتغير مع الايام، فليس هناك ايقاع ثابت لحياتنا، ننظر احيانا في المرآة، فنجد شخصا مختلفا عنا، نظن اننا ما زلنا شبانا فإذا بنا نشيخ، ان كل لحظة من اليوم تولد فينا مشاعر متناقضة. قد نشعر عندما نستيقظ صباحاً بنوع من الارتياح، ولكن سرعان ما تواجهنا الحياة بصلفها وانكسارها وهمجيتها، ويشدنا العصر ان نعيش ذواتنا، في العودة الى جو من الاستبطان الداخلي والتحركات الجوانية، وعندما نحاول في الليل ان ننام بالعودة الى أسرارنا الدفينة، يرهقنا الزمن بالمخاوف والحسرات والذكريات. يصف لنا الشاعر بيير ريفردي في احدى قصائده، كيف يتحول الإنسان في لحظة واحدة من النقيض الى النقيض:
لقد تركت أحداً ما
بعيداً عني
او يقول:
الساعة التي تدق في البيت
هي بمثابة قلب
ان نكون أفضل
او نقتل أحداً
الزمان لا يرى ولا يرحم، انه يجعلنا في لحظة ما نفرح، وفي لحظة ما يزهق روحنا
كل التواريخ خاطئة يقول ريفردي، لان الايام كلها متشابهة ولا نستطيع ان نميّز بينها، في الحقيقة اننا نشبه عابر سبيل ينام في الشوارع ولا يجد مأوى، يعيش وسط اشباح من اشباهه، وهو رقم بين الارقام لا يلبث ان يضمحل ويتلاشى.

عناية جابر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...