مداخل إلى عالم نجيب محفوظ

05-09-2006

مداخل إلى عالم نجيب محفوظ

صدرت تجربة محفوظ الروائية عن ثقافة واسعة وتجربة حياتية عميقة، وعن بصيرة مبكرة ترى ما يرى الآخرون وما لا يرونه. ربما تكون شخصيته كلها ماثلة في «الثلاثية»، التي أعطاها قسطاً من عمره، وهو يرى الى مصر مجيدة قديمة، والى مصر قادمة، هي مجرد احتمال. ولهذا لم تكن رواياته إلا مدخلاً الى «الثلاثية»، أو تعليقاً لاحقاً عليها، يمزج السياسة بالتاريخ، ويمزج التاريخ المنجيب محفوظهيب بـ «النكتة السوداء».

يلتقي قارئ الثلاثية بأطياف العالم البيولوجي تشارلز داروين وبفيلسوف التشاؤم الألماني شوبنهاور، وببصيرة محفوظية، تعيد تأويل العالم والفيلسوف. أخذ الروائي من العالم فكرة الارتقاء والتقدم، واتفق مع الفيلسوف في تشاؤمه، واستولد من ذاته ما يعترف بالتقدم ولا يعترف به، ذلك أن سلطة الشر تتسلل الى الإيمان وتعكره، وتتسرب الى العلم وتحيده عن درب الصواب. وصل محفوظ، وهو يبصر وحدة الشر والتقدم الى إرجاء الحقيقة، أو تعليقها، مؤمناً بأن الحقيقة سؤال غائم الدروب. وهذا السؤال، في أساس «جمالية المتعدد» في الثلاثية، التي تجسّدت في شخصية أحمد عبدالجواد، في وجوهها المتعددة المتناقضة، معلنة أن التعدد إعلان عن: اللايقين. فلا شيء في هذا التاجر القاهري، الأزرق العينين الكبير الأنف، يقيني، لأن ما يبدو واضحاً شفافاً في عتمة الفجر الهادئة تجرفه أهواء النفس في أعماق الليل. بيد أن محفوظ، المأخوذ بالتفاصيل العميقة، التي تلغي الحدود بين دقائق «الثلاثية» ومنهج البحث العلمي، يعيد تأكيد «اللايقين»، الذي يسلب الروح الطمأنينة، بـ «مجاز الكابوس»، الذي يضع الإنسان تحت التراب وفوقه في آن. تجلّى الكابوس، في صور مختلفة: الشابة الجميلة العذبة الصوت «عائشة»، التي ينتظرها، بلا سبب، أفول مرعب قريب، المغترب الجوّال الذي دفن أطفاله صغاراً وعاش مئة عام، الغانية الجميلة المشتهاة التي تنتهي متسوّلة صلعاء تلبس شيئاً مما يلبسه الرجال... لن يكون التاريخ، من وجهة نظر الإنسان المحاصر بالعطب والأفول، إلاّ الإحساس الإنساني بلوعة الزمن، كما لو كان في ضآلة الإنسان ما لا يدرجه في التاريخ ولا يُدرج التاريخ فيه.

ما الذي يحمل الغريب في «قصة قصيرة» على العودة الى أمه طمعاً بالغفران، ليجدها عمياء صماء؟ احتفظ محفوظ في مراحله كلها بـ «الشر الأصلي»، الذي يضمن للإنسان عذابه، مدخراً موقعاً آخر لشر متأبّد سهل المعاينة يدعى: الشر السلطوي. كان فالتر بنيامين، الذي استنجد بالأموات كي ينصر الأحياء، قد تحدّث عن «مكتبات الظلام»، التي تسهر على سلامة «أرشيف» يقمع الروح، أما محفوظ المشدود الى تراث آخر، فتحدّث عن «طقوس السلطة القاتلة»، التي تستبدل بتعليم القراءة والكتابة تعليم الصمت والتطامن والخضوع.

أقلق محفوظ في «الثلاثية» الشر السلطوي بالشر الوجودي، فكلاهما قائم، من دون أن يعقد النصر لأحدهما. فقد جاء «الوفد» وحكم من دون أن يتغيّر في مآل «الوفدي كمال» شيئاً، باستثناء شيب يغزو الفودين، بلا تقصير. كان محفوظ قد استهل بالشر السلطوي روايته الأولى «عبث الأقدار» (1939) مستلهماً حكاية الملك، الذي أمر بقتل الأطفال، كي يضمن الحكم لابنه، وعاد الى السلطة العابثة في رادوبيس (1942). لكنه، وهو المؤمن بتأجيل الحقيقة، انفتح، لاحقاً، على «الحياة الواقعية»، موازناً بين شر الوجود وشر السلطة، الذي أعطته «الثلاثية» ترجمة واضحة. عدل الروائي، بعد سنوات من التجربة الناصرية، عن منظوره في «أولاد حارتنا» (1959) منتهياً الى أمرين أساسيين: الشر السلطوي متواتر ومنتصر في جميع الأزمنة، والشر الوجودي، أو الشر الأصلي، شكل من أشكال الشر السلطوي، أو نموذجاً أولياً له. كان في قوله، الغارق في التشاؤم، ينصّب الشر جوهراً للوجود، وينصّب السلطة السياسية جوهراً للوجود الشرير. فكل الدروس تقود الى قصر قاتل لا يقوّضه الزمن، وكل محاولات الأخيار، المتجدّدة المتأبّدة بدورها، مآلها الإخفاق. بعد حوالى عشرين عاماً، كتب «الحرافيش» (1977) محاولاً تخفيف تشاؤمه المطلق. لكنه، وهو المتسق في حياته نظراً وعملاً، لم يهزم الشر السلطوي في «الدنيا»، انما أوكل هزيمة الشر «المحتملة» الى اليوتوبيا، تلك المدينة الجميلة المتخيّلة، التي تنبعث من المتخيّل الروائي، وتلوذ بالفرار ان اقتربت من «مكتبات الظلام».

يحتل الشر مركز الوجود يواجهه هامش من الخير لا يغيب. فكرة جوهرية عند محفوظ أقرب الى العقيدة. فلا انتصار الشر يستأصل الخير ولا الخير المتشبّث بمواقعه قادر على هزيمة نقيضه. في روايته الأخيرة «يوم قتل الزعيم»، التي أعقبت مقتل أنور السادات في مطلع ثمانينات القرن الماضي، استأنف الروائي حديث الصبا، كما لو كان يكتب «عبث الأقدار» في زمن آخر. ولعل انتصار الشر، الذي لا سبيل الى هزيمته، هو الذي دفع بالروائي العجوز عام 1985 الى كتابة «العائش في الحقيقة». رواية أقرب الى الشهادة الفكرية، موضوعها حاكم مختلف، خرج على القاعدة، اسمه: أخناتون، أراد العدل وخذله الجميع، لأنّ البشر اغتربوا عن فكرة العدل، منذ زمن طويل، كما لو كانت سلطة الشر المتأبدة وضعت في «الرعية» أشياء من طبعها.

«العائش في الحقيقة» هي شهادة محفوظ الأخيرة عن مآل الحقيقة، التي تجيرها العقول الحكيمة، وتلقي بها السلطات الى النار. تتكشّف نجابة محفوظ في تأكيد ما عرفه شاباً، ذلك أن رواية أخناتون، استكمال لرواية «المرحلة الفرعونية»، التي استهل بها كتابته الروائية. فلا جديد في الحكم الملكي ولا ما هو مغاير في الحكم الجمهوري، وليس بين «الجديد الشمولي» و «الجديد الليبيرالي» فرق كبير: كل السلطات تنتهي الى الاستبداد، وكل السلطات، مستبدة أو غير مستبدة، تحتضن الفساد، وإن كان المستبد المثابر أكثر فساداً من غيره. هكذا يأتي داروين ويذهب، ذلك أن التقدم الإنساني، مهما كان شكله، لا يغيّر من وضع المحكومين شيئاً، وهكذا يأتي شوبنهاور ويظل، فالتشاؤم مشروع والوعي المتشائم لا يأتي من فراغ، وما التفاؤل إلا رغبة ضرورية تنتظر «المدينة الفاضلة»، المؤجلة الوصول. تتراءى بصيرة محفوظ في حواره مع ما شاء من المذاهب الفكرية، واحتفاظه بمنظور لا يشيخ، عثر عليه قبل الشيخوخة بزمن طويل. لا غرابة، ربما، أن يعقد القارئ، إذا شاء مقارنة، على المستوى الفكري، بين «أولاد حارتنا» التي تتطلع الى عدل قتيل، وكتاب «الفتنة الكبرى» لطــه حسين، الذي رثى عدلاً لم تشهده الدنيا، وسقط بدوره قتـيلاً، ولم يثأر له أحد.

فكرتان أساسيتان لازمتا إبداع محفوظ، تقول الأولى: الكتابة الروائية، وهي نقد متواتر للسلطة، محصلة لفضاء سياسي ودعوة الى سلطة تقبل بالرواية والحياة السياسية معاً، فلا إمكان للكتابة الروائية في مجال اجتماعي لا سياسة فيه. وتقول الثانية: الكتابة الروائية فن ديموقراطي معادٍ للتسلّط السياسي بامتياز. النتيجة البسيطة المنتظرة هي: تنتمي السلطة الى حيّز الشر، وينتسب الفن الروائي بالمعنى النبيل الى عالم القيم الخيّرة، وانتصار الرواية، وهو هامشي بالضرورة، انتصار مجزوء للخير ومكتبات النور.

فيصل درّاج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...