هل الموارنة عرب أم تحدروا من شعب المردة؟

09-09-2006

هل الموارنة عرب أم تحدروا من شعب المردة؟

الجمل ـ سعيد زكريا: من هم الموارنة؟ أصلهم، إرثهم الثقافي، ارتباطهم بالطوائف المسيحية الأخرى في الشرق الأوسط؟ هل تحدروا من شعب قديم يدعى المردة، وهل هم عرب، أم أنهم من أصل آرامي سرياني؟  يسعى الباحث العراقي  متى موسى في كتابه (الموارنة في التاريخ) إلى الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال التنقيب والبحث في المصادر والمدونات التاريخية، منطلقاً من أهمية الدور الذي لعبته الطائفة في تاريخ لبنان السياسي.
لم ير الموارنة في أنفسهم طائفة فريدة متميزة ديناً وثقافة إلا بعد مسيرة بدأت في نهاية القرن السادس عشر في عهد الأمير فخر الدين المعني عندما اتحدوا بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية وأصبحوا اتباعاً لها، ومنذئذ أخذ البطاركة الموارنة في لعب دور مميز في الشؤون الداخلية اللبنانية. في الجزء الأخير من القرن الثامن عشر، اكتسبوا نفوذا متزايداً عندما التحق بعض الأمراء الشهابيين الحاكمين بالكنيسة المارونية. في أواسط القرن التاسع عشر  وحتى عام 1975 تجلت السلطة الزمنية للبطاركة الموارنة في شؤون لبنان السياسية وأعربوا عن آرائهم في كل قضية تقريباً، وصاروا بطاركة لبنان، بل وأصبحت لبنان والمارونية مترادفين.
 يحاول المؤلف أن يثبت أصل الكنيسة والطائفة المارونية على ضوء ادعاءات الكتاب الموارنة وبيان تراثهم الطقسي وأنهم فرع من دوحة الكنيسة السريانية الإنطاكية.  فبالعودة إلى المصادر الأساسية والثانوية نجد الموارنة مختلفين عن غيرهم من ناحية ندرة المؤلفات الدينية والتاريخية التي تتناولهم، ماعدا بعض الملاحظات العابرة التي أبداها مؤرخون ربطوا الموارنة بالعقيدة المونوثيلية (الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية بأن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية متحدتان في إرادة واحدة وقدرة واحدة على التجسد)، بالإضافة إلى عدم وجود تاريخ كنسي مدون لهم حتى القرن السابع عشر، إلى أن كتب البطريرك الماروني اسطفان الدويهي تاريخ الطائفة المارونية. أما كتب العقائد فترجع إلى القرن الحادي عشر، وهما كتابان أحدهما دفاع عن المونوثيلية بوصفها عقيدة مارونية. لكن في أواخر القرن الخامس عشر يدافع الباحث الماروني جبرائيل القلاعي عن أرثوذكسية الكنيسة المارونية رداً على اتهامها بالمونوثيلية. وكان القلاعي أول ماروني في الأزمنة الحديثة ادعى بأن الكنيسة المارونية وكنيسة روما اعتنقتا الإيمان نفسه، وهو أول من أشار إلى أن يوحنا مارون أول بطريرك ماروني لإنطاكية العظمى. وعلى الرغم من تتالي كتابات خريجي المدرسة المارونية في روما عن أصل الموارنة وأسمائهم وكنيستهم، لم يكتب أحدهم بشكل واف ومنتظم عن تاريخ الكنيسة والطائفة كالبطريرك اسطفان الدويهي الذي يعد أول مؤرخ ماروني.
في حين سيرتئي مرهج نيرون أن مصطلح موارنة مشتق من اسم ناسك في القرن الخامس اسمه مارون، وبذلك وجد الكُتاب من بعده في اسم مارون حلاً لمشكلة الهوية المارونية. بينما ارتأى غيرهم من الكُتاب أن مصطلح موارنة مشتق من دير مارون في سورية الجنوبية، لكنهم أخفقوا في البرهان على أن هذا الدير هو أصل كنيستهم وطائفتهم، مع أن موارنة آخرين كالدويهي أصروا على أن أصل كنيستهم يرجع إلى دير يقع على نهر العاصي قرب مدينة حماة وأن رهبان الدير اعتنقوا الإيمان الأرثوذكسي ولم يحيدوا عنه، في حين اعترف المطران الماروني يوسف دريان بالمونوثيلية المارونية بتفسير غريب جعلها تبدو وكأنها على انسجام مع إيمان خلقدونية في كتابه "لباب البراهين الجلية عن حقيقة أمر الطائفة المارونية". ويورد الموارنة إثباتاً لادعائهم رسالة كتبت عام 517 م وقعها كهنة من سورية الجنوبية ورئيس دير مارون ووجهوها إلى البابا هرمزدا يتهمون فيها سويريوس، بطريرك أنطاكية المتوفي سنة 538م  ومطرانه بطرس أسقف أفاميا، بقتل 350 راهباً. يدعي الموارنة بأن هؤلاء الضحايا كانوا من دير مارون وأنهم قتلوا وهم في طريقهم إلى مقام سمعان العمودي في مهمة كنسية حيث أُجهز عليهم بسبب تمسكهم بإيمان خلقيدونية.  كما يذهب الموارنة بعيداً بالقول بأن بطريركيتهم هي بطريركية إنطاكية الأصلية وبأن يوحنا مارون هو أول بطاركتهم. كذلك أجمع الموارنة على أن المردة محاربون استخدمهم الأباطرة البيزنطيون في القرنين السابع والثامن، ومنهم ينحدر الموارنة، ودافع عن هذا الرأي العلامة يوسف السمعاني والمطران يوسف الدبس.
يعرض يوسف متى لنظريات المؤرخين المختلفة ويخلص إلى أن الموارنة حاولوا أن ينسبوا أصل كنيستهم وطائفتهم الى مارونين اثنين أحدهما ناسك وقديس عاش في بداية القرن الخامس عشر، وثانيهما راهب من أواخر القرن السابع عشر، مع تأكيدهم التمسك بإيمان كنيسة روما. ويدرس مسألة دير مارون في ضوء المصادر القديمة، فيلاحظ اختلاف الباحثين الموارنة حول موقع الدير، ثم ينتقل إلى المصادر التاريخية الأولى التي تتحدث عن دير مارون وعن المذهب الماروني، فيتبين أن هناك أكثر من دير كان يوجد قبل نهاية القرن السادس، يحمل اسم دير مارون. ويناقش كذلك الادعاءات المارونية في ضوء مراسلات القرن السادس، كما يجادل في  حقيقة تلك الرسائل ومصادرها، ويدرس العلاقة بين الموارنة وسمعان العامودي، فينفي انتساب الموارنة إليه، مشيراً إلى وجود سيرتين سريانيتين للقديس سمعان العامودي.
كما يورد الباحث ما يذكره بعض الدارسين الموارنة حول استعمال التقديسات الثلاث التي ظلت الكنيسة المارونية حتى أواخر القرن السادس عشر تترنم بها، ويبين أن الموقعين على تلك الرسالة والوثائق ذات الصلة لا تذكر أسمائهم مع اسم الدير، مما يخالف الأعراف الكنسية المتبعة.
ويتعرض إلى قضية يوحنا مارون الذي يؤكد بعض الموارنة أنه أصل تسميتهم، ويعتمد بصورة أساسية على ما يذكره تاريخ تلمحري والمؤرخ الحسن المسعودي وغيرهما، ويرى انه لا يوجد دليل تاريخي يؤيد تلك الأقوال، فالدويهي يخلط بين الموارنة والمردة الذين كانوا مقاتلين من أصل مجهول، كما يناقش الادعاء القائل بأن يوحنا مارون كان بطريركاً لإنطاكية من خلال تتبع المصادر المارونية نفسها، ومناقشتها في ضوء المصادر التاريخية لتلك الحقبة.
وفي  حقيقة المؤلفات المنسوبة إلى يوحنا مارون، يناقش الباحث فيما إذا كان يوحنا مارون قديساً معترفاً به رسمياً، من خلال ما روي عن أصله الفرنجي ورحلته إلى روما، وتعيينه أسقفاً ثم بطريركا وتحريره للكتب بأنها رواية تفتقر إلى أساس تاريخي. أما في علاقة الموارنة بالمردة والجراجمة، فيجد أن الموارنة جماعة دينية لا طائفية مكتملة، وللبرهنة على ذلك يسعى لتحديد هويات الجماعات الثلاث، فيعرض لآراء المؤرخين القدامى ويثبت أن الربط بين الموارنة والمردة نظرية حديثة العهد قام بها كتاب موارنة معاصرون.
ولأهمية الكتاب، ينبغي التعريف بالباحث متى اسحق موسى، وهو عراقي من الموصل، كتب العديد من المؤلفات الأدبية كـ" جبران في باريس" و"جذور الرواية العربية المعاصرة" وغيرها، وفي التاريخ الديني "غلاة الشيعة" وكتابه المنجز حديثاً عن حروب الفرنجة في المصادر السريانية، وكتابنا هذا "الموارنة في التاريخ" بالإضافة إلى مقالات في المجلات والدوريات المتخصصة. أصدر مجلة أدبية في العراق، وعمل مستشارا للمحاكم السريانية الأرثوذكسية، ثم هاجر إلى أمريكا ليعمل في التدريس الجامعي.
الكتاب في جوهره، دراسة وتحليل لأصل الموارنة وتراثهم التاريخي، مع تقص يستند إلى مصادر قديمة وحديثة كتبت بلغات عديدة مازال العديد منها مخطوطاً. كتاب على مستوى أكاديمي رفيع من الجهد البحثي، يضيف لبنة لا غنى عنها، تؤسس لدراسة تاريخ الموارنة في المنطقة.

الكتاب: الموارنة في التاريخ
المؤلف: متي موسى
الترجمة: بإشراف المؤلف
الإصدار: دار قدمس للنشر والتوزيع

 

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...