لمناسبة صدور طبعة جديدة من «الفرح ليس مهنتي»

09-09-2006

لمناسبة صدور طبعة جديدة من «الفرح ليس مهنتي»

فارق محمد الماغوط الحياة هذا العام، هكذا هدأ انينه وسخطه وتذمره وشكواه إلى الأبد. لكن الشعر خسر بالتأكيد حنجرة فريدة. لقد انكسر نايُ حقيقي، والذين اعتادوا على قراءة محمد الماغوط يعرفون انه أولاً مدة أسى وآهة كبيرة. الذين يقرأونه ويحبونه يعرفونه من أول
جملة. انهم يسمعون موسيقاه ويعرفونها فوراً. فما فعله محمد الماغوط في الشعر هو انه وضع فيه هذه النغمة المميزة، وبعد رحيله يكفي ان نفتح كتاباً لنعاود سماعها. في الغالب نفعل ذلك لنستزيد من السماع او لنصغي إلى هذه النغمة في داخلنا.
لم يكتب محمد الماغوط كثيراً من الشعر. إذا أحصينا كتبه الشعرية الخالصة والرائدة لوجدنا ثلاثة او أربعة: حزن في ضوء القمر وغرفة بملايين الجدران والفرح ليس مهنتي. ويمكننا أن نعد بين كتبه الشعرية العصفور الأحدب الذي كتب للمسرح لكنه في الواقع قصيدة طويلة متعددة الأصوات. انها اربعة كتب لا غير أحدث بها الماغوط فتحاً في الشعر. لم تكن قليلة إلا لأن الماغوط فقد النغمة وسقط عن جانحه الزغب الذهبي. في الغالب فارقه شيطانه كما يقول العرب. فالشعر دون سواه من فنون الأدب بارقة تهبط من عل ولا تنفع في اجتلابها إرادة. قضي على الشاعر الحق ان ينتظر نزول البرق. وقد يكافأ على انتظاره بمعجزة صغيرة، بعبارة من ذهب او من فولاذ. بكلمة كالرمح، وقد تزاوله النعمة ولا يبقى له سوى الصحراء.
محمد الماغوط نزل عليه البرق والذهب وفيراً وكثيراً وسهلاً ورائعاً اول الأمر. كان يرفع يده فيقطف، وكان يمد يده فتغوص في بحر. نزلت النعمة عليه مدرارة، وكتابه الثالث الفرح ليس مهنتي كان الذروة. انه قصائد صغيرة مكتنزة موارة وممتلئة الى اقصى حد. هنا يتصفى كلامه فيغدو رهيفا مسنونا كالجرح. هنا تنتظم عبارته في جسم وعظم وهيكل واحد. هنا يغدو للكلام كثافة وقوة ورهافة في آن معاً. هنا الجمر المتبقي بعد ان سقط الرماد، جمر الغضب وجمر الاحتجاج وجمر التسكع والحزن والنداءات المخذولة والرسائل التي لا تصل. من الغريب ان ينقطع الماغوط بعد الفرح ليس مهنتي عن شعره وان ينحدر. توقف الماغوط عن الشعر بعد الفرح ليس مهنتي. نجح في المقالة بلا شك، ونجح في المسرح وإن لم يحدث فيه فتحاً، وبدا ان الشاعر قد ضاع إلى الأبد في دهاليز المدن التي كان مجنونها ومشردها ويائسها وراجمها في آن معاً. ضاع الشاعر في قصيدته. لكن قصيدته استمرت به وبدونه، ظلت العقيدة تمنح صوتاً للمتسكعين في العالم واليتامى فيه. ظلت تحمل نداء للعاشقات والمجانين والمغدورين في كل مكان، ظلت مشعشعة بصور نادرة وغريبة كما تشعشع زجاجيات الكنائس. سكت الشاعر لكن القصيدة لم تسكت. انتشرت اكثر، وسارت اكثر، وزارت اماكن لم يزرها صاحبها، وجادلت وناضلت ومزجت كل مرة جديدة نادرة.
لا يهم ان الشاعر عاد فغلبه شوق الى الشعر لم يكن مباركا بما يكفي، لم تكن الملائكة حاضرة عندها ولم ترفرف اجنحتها ولم تصل الموسيقى من اعماق الجبل. انها لحظة عجيبة بين ان يخرج الذهب او الرمل، بين ان يكون الكلام سقطا او ذهبا او بين بين. لكن الشاعر أخيراً بضع عبارات وبضع قصائد، ومحمد الماغوط صنع ذلك وأكثر. ماذا يهم العدد او الكثرة. لم يدر الماغوط في الغالب انه وفى دينه للشعر من الكتاب الاول فكيف بالثاني والثالث والرابع. وفي دينه، وما عليه ان يلعب او يلهو او يسخر من الشعر في نهاية الأمر.

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...