شكيب الجابري مؤسس الرواية السورية

10-09-2006

شكيب الجابري مؤسس الرواية السورية

في كل ثقافة ثمة سلسلة او نسق ثقافي يحتوي على مجموعة من الاجناس والمفاهيم الادبية التي تكوّن هذه السلسلة الادبية، فالادب العربي يحتوي على مجموعة من الاجناس كالشعر والتاريخ والسيرة.. ويكاد ينفرد بجنس المقامة، بينما الآداب الاوروبية تحتوي سلسلتها الادبية على المسرح والرواية والشعر بأنواعه الملحمي والغنائي والدرامي.. وتكاد الملحمة ان تكون منذ هوميروس فناً اوروبياً.. بينما تنفرد الثقافة اليابانية بالمقطع الشعري المعروف باسم «الهايكو».
 لكن الثقافات لا تبقى منعزلةً عن بعضها .. ففي العصور الحديثة- مثلاً- حدث ما يمكن ان يُسمى «وحده العالم» بعد امتداد الرأسمالية الأوروبية و«توحيدها» للعالم عبر اقتصادها واتصالاتها ومن ثم حدث تداخل وتواصل بين المجتمعات، وتبادلت هذه المجتمعات.. فيما تبادلت الاجناس الادبية وبالطبع فإن الثقافات الاقوى فرضت اجناسها الادبية على الثقافات الاضعف مثلما فرضت باقي مناحي حياتها.
 اذا كان هناك خلاف في تفسير نشوء الرواية الاوروبية، وهل يعبر هذا الجنس الادبي عن صعود البرجوازية- كما يقول لوكاتش(1) ، وقبله وبعده كثيرون أم أنه يُعبّر عن الروح الشعبية وتدخلها في التاريخ والثقافة الرسمية كما يرى باختين (2) ، فالامر في الثقافة العربية يبدو اكثر سهولةً ، فمن شبه المؤكد ان الرواية العربية لم توجد قبل الاتصال بالحضارة الغربية الحديثة واول رواية عربية جديرة بحمل هذا الاسم لا تعدو اوائل القرن الماضي.. سواء أكانت «الاجنحة المتكسرة» لكاتبها جبران خليل جبران، كما يرى بطرس حلاق (3) أم كانت زينب لكاتبها محمد حسين هيكل، كما يرى عبد المحسن بدر(4)، ام كانت روايةً أخرى يقترحها كاتب آخر.
 صحيح إنه كانت هناك «الف ليلة وليلة» والسير الشعبية، ومعهما المقامة، الا ان الثابت أن فنّ الرواية العربية نشأ متأثراً بفن الرواية الاوروبية الحديثة، وليس بالاجناس المحلية، وقد مرّت فترة اقتباس طويلة عرّب فيها المترجمون العرب، واقتبسوا كثيراً من الروايات الاوروبية الى درجة جعلت كتاباً عرباً يشكون بذلك في  أوائل القرن الماضي (5) الى ان أتى الطفل السعيد اي الى ان كُتبِت اول رواية عربية.
 كانت السلسلة الثقافية العربية في أوائل هذا القرن تقليديةً تحتوي على علوم الدين كمباحث عقائدية، والشعر والمقامة وكتب الاخبار، كمباحث فنية، بل ان الشعر كاد يكون الفن الوحيد المعترف به، ولهذا كانت دراسة الادب تعتمد على الكتب التقليدية (6) مثل «ديوان الحماسة» او كتاب « الكامل » أو «الأمالي» او « العقد الفريد » أو «الاغاني» مع دواوين الشعراء ورسائل الجاحظ وغيره، لكنها كلها كتب قديمة بعيدة عن الواقع الحياتي كما كان، في أوائل هذا القرن(7) .
 في هذه الفترة ظهرت الرواية العربية وكأنها تدخل في هذه السلسلة الادبية الثقافية او قطع لها، تدخل كفن آتٍ من الخارج أولاً، أي من خارج هذه السلسلة- التراث، اذ تدخلت الرواية كفن يعالج اليومي والراهن، ومقابل كتب الادب التي تتحدث عن الماضي ، أليس من بعض تعريفات الرواية انها «خيال نثري » أو أنها « نثر واقعي » أو أنها « انطباع شخصي مباشر عن الحياة (3) ويبدو انه ليس من المهم أي الروايات العربية كانت الاولى، فالذي يعنينا هنا هو الظاهرة، ظاهرة القطع في السلسلة الادبية او دخول جديد على هذه السلسلة.
 معروف ان كل شكل ادبي جديد هو من حيث المبدأ استجابة لحاجة اجتماعية- جمالية جديدة، وبالتالي فإن اي شكل ادبي «جنس» جديد يدخل سلسلة ما من الخارج، شأن دخول الفن الروائي الى الثقافة العربية، او يكون نتيجة هذه السلسلة في خصوصية تطورها.. شأن المقامة في الادب العربي، يكون تجديداً، فالشكل الادبي «الجنس» الجديد- اي شكل - هو شكل «جنس» «ثوري ، ان ظهوره لأنه يخلخل السلسلة التقليدية من جهة، ويكون سلسلةً وسياقاً جديدين من جهةٍ ثانيةٍ.. لكن الشكل التجديدي «الجنس» يمر بمراحل متعددة حتى يستقر، ويصبح جزءاً من مكونات السياق الثقافي الذي دخل اليه، ومن ثم يتعرض لدورة طبيعية اخرى، فبعد ان يكون في بدايته تعبيراً عن الجديد اجتماعياً- وجمالياً، يصبح بالامكان استيعابه في سلسلة وسياق العناصر التقليدية، بل ويصبح تقليدياً في بعض استخداماته، والمثال واضح من تاريخ استقبال جنس الرواية في الثقافة العربية، فبعد ان ازدراه ورفضه التقليديون في الثقافة العربية، مثل العقاد وزكي مبارك والرافعي (8) ، جاء كتّاب آخرون يعبّرون عن رؤى وقيم اجتماعية تقليدية بوساطة هذ الفن الادبي، بل لقد حاوله بعض الذين ازدروه كالعقاد .
 وحوالي منتصف  القرن الماضي.. صار بامكان مارون عبود ان يكتب :
 « كان اكبرهم الاديب فيما مضى، أن يكون شاعراً.. اما اقصى ما يروم اليوم فهو أن يُحصى في عداد القصصيين »(9).
 من الملاحظ ان الرواية العربية ولدت مع حركة التجديد التي بدأت تظهر واضحةً في الثقافة العربية ولغتها في أوائل هذا القرن، ولذلك يبدو هذا التجديد السريع في اللغة العربية واضحاً من خلال التاريخ القصير للرواية، فإذا كان التغيير في اللغة العربية جزءاً من عملية التغيير الاجتماعي الثقافي، ككل، فإن ولادة الرواية العربية كانت جزءاً من هذه العملية الاجتماعية - الثقافية فاللغة ، كما هو معروف ليست مجرد «نظام العلامات» فقط، بل هي جزء من الكل الاجتماعي ومن نظام قيم هذا الكل الاجتماعي ايضاً، والتغيير في نظام القيم.. يعني تغيّراً في اللغة، والعكس صحيح اي ان التغيير في نظام اللغة وطرق استخدامها ، إنما هو وجه آخر للتغيير في نظام القيم، أي في النظام الاجتماعي، فاللغة جزء من نظام واقع ،سكونه هو جمودها، وحركتها هي تجديده وسواء أكان الكاتب واعياً للأبعاد الفكرية والاجتماعية لممارسته اللغوية- الفنية، أم غير واعٍ، فإن ذلك لا يغيّر من السيرورة العامة.. ومن الاستنتاجات التي تقود اليها هذه المقدمات، ولعل من اولها ان أي كاتب كان يحاول الجنس الروائي في أوائل هذا القرن.. ومهما كان يبدو تقليدياً في تفكيره ولغته، كان «تحديثياً» بمقياس خلخلة نظام السلسلة الادبية التقليدية السائدة آنذاك، ربما اكثر من اي شاعر كان يظن انه يجدد الشعر والثقافة العربية عن طريق وصف الطائرة، وربما تكون من نتائج هذه المقدمات، أيضاً، أن أية خلخلة لنظام اللغة تكون تجديداً، بل وثورية أكبر من العبارات الطنانة التقدمية و«الثورية» المصوغة على الطريقة التقليدية، وقد نكون متطرفين عندما نقول- حسب هذا المقياس- ان شاعراً كأنسي الحاج، او الماغوط، مهما كانت آراؤه السياسية هو اكثر تجديديةً وحداثةً من شعراء تقدميين سياسياً ومحافظين لغوياً وأسلوبياً، كالجواهري مثلاً ،وقل القول نفسه على خلخلة نظام اللغة ضمن الرواية نفسها، فالكتابة الروائية التي تقترب من الواقع واليومي عبر لغتها مبتعدة عن أسلوب اللغة والبلاغة العربية التقليدية.. كما في اللغة الروائية لحسيب كيالي ويحيى حقي، تكون أكثر جذريةً وتحديثية وخلخلة لنظام اللغة والبلاغة العربية التقليديين... أي لنظام القيم، من الكتابات التي تحافظ على جوهر اللغة الادبية العربية التقليدية وميلها للإنشاء والديوانية والابتعاد عن الواقع اللغوي- الحياتي، شأن اللغة الروائية لإدوار الخراط مثلاً.
 فكيف قطعت الرواية السلسلة الثقافية العربية اذاً؟..
 كيف اصبحت الرواية- كجنس ادبي وطريقة في رؤية العالم، وتحديد الموقف منه وفيه- جزءاً من السياق الفني واللغوي للثقافة العربية المعاصرة؟!.
 في أوائل العشرينيات من القرن الماضي أجرت مجلة الهلال استفتاء بين طائفة من الادباء والمستشرقين، وقد تضمن هذا الاستفتاء الاجابة عن سؤالين هما:
 1- مستقبل اللغة العربية.
 2- نهضة الشرق وموقفه إزاء المدنية الغربية (10).
 واضح من جميع الاسئلة معاً انها مترابطة ، فاللغة العربية وقدرتها على الاستمرار مرتبطان بنهضة الشرق، أي قدرته على التواصل مع الحضارة الحديثة، والتي هي «المدنية الغربية» فهذه « المدنية» كانت سلسلةً جديدة ذات قيم ورؤى فكرية واجناس ادبية جديدة، وهي تتقدم نحو الشرق العربي مخترقةً، بل ومخلخلة السلسلة العربية التقليدية، بقيمها ورؤاها وأجناسها الادبية، وكل ذلك يحدث ضمن اللغة وبوساطتها ، فاللغة هي الميدان الذي تجري فيه هذه العملية، او قل هي المرآة التي تجلو عملية هذه الخلخلة، اللغة هي المرآة، ليس باعتبارها معاجم ومفردات وتراكيب واصواتاً، بل بما هي حاملة القيم وطريقة التفكير، بما هي مُظهرة للرؤية الكونية لثقافة من الثقافة، مثلما هي مظهر من مظاهر الرؤية الكونية لهذه الثقافة، ولهذه الجماعة البشرية او تلك .
 كان التساؤل عن مستقبل اللغة العربية في حقيقته شكاً وتخوفاً، بل ارتباك امام اختراق « اللغة» الغربية «اللغة» العربية أمام اختراق الواقع للفكر والحاضر للماضي والجديد للقديم واليومي للذهني، وهو بالتالي تساؤل عن كيفية استيعاب السلسلة الغربية في السياق العربي، وهل يستطيع السياق العربي بلغته، وهي على ما عليه من تقليد وجمود استيعاب السياق الحضاري الاوروبي بتجديده واندفاعه؟ ومنذ ذاك الوقت والمعركة تدور ظاهرياً حول قدرة اللغة العربية على مواكبة الجديد ، وعملياً كانت المعركة في حقيقتها تدور حول استيعاب المجتمع العربي التقليدي ، بقيمه ورؤاه التي تعبّر عنها لغة للحضارة ،«اللغة» الاوروبية الحديثة، والتي اصبحت عالميةً حقاً أي عملياً هل يستطيع المجتمع العربي النطق بلغة أخرى مع الحفاظ على لغته- هويته؟ هل تستيطع الرواية، سليلة التطورات الاجتماعية والثقافية الاوروبية ، ان تجد لها مكاناً في المجتمع والثقافة العربيين؟ ذلك سؤال مضمر في السؤال الرئيسي .
 تعددت الآراء والاجابات منذ أوائل القرن الماضي.. وما تزال تتعدد، فثمة أكثرية عربية مثقفة تقول بقدرة اللغة العربية على استيعاب العصر، والدخول في سلسلته الثقافية وسياقه الثقافي ، لكن كان هناك من يقارن وضع اللغة والثقافة العربيتين الحاضرين آنذاك بالوضع المتقدم للمجتمعات والثقافة الغربية، فيقول بتخلف اللغة التقليدية العربية، ويحكم، وبسبب تاريخها القديم هذا السبب الذي يراه انصارها حجةً، بعدم قدرتها على مسايرة العصر بلغاته ذات السمات التي تختلف عن سمات اللغة العربية ، او ما يراه « سمات » لهذه اللغة(11). وبين هذا الرأي وذاك كانت اللغة العربية تختبر نفسها وقدرتها على أداء الحساسية الجديدة والمشكلات المعاصرة، وذلك عبر الممارسة الحياتية والكتابية لهذه اللغة والرواية العربية كانت أحد الميادين التي اختِيرت فيها اللغة العربية نفسها عن طريق تقديم حلول عملية للمشكلات التاريخية لأسلوبها كلغة، مثل الانفعالية والمبالغة والترادف والانشاء لقد طوّرت الرواية اللغة العربية، ونقت معجمها من كثير من عيوبه وفي الوقت نفسه كانت الرواية العربية تطور نفسها وتاريخها وعبر التاريخ القصير نسبياً للرواية العربية، تداخلت المشكلات الاسلوبية للرواية مع المشكلات الاسلوبية للغة العربية، وهذا هو السبب الكامن وراء طرح مشكلة العامية والفصحى، ومشكلة السرد الروائي، أي مشكلة لغة الرواية عموماً، ولهذا فليس من المبالغة القول: إن الرواية كفّن ذي طبيعة شعبية خاصة، من حيث لغته وتوجهه الى جمهور عريض، لا تستطيع الابتعاد عن الحياة المعاشة واقعياً وعن القيم المتداولة في حياة الناس اليومية، فقد اجبرت بخصوصيتها تلك اللغة العربية على مغادرة صحرائها الجاهلية، بل ومغادرة قصور الامويين والعباسيين ودوائر الحكام والشيوخ، ومن ثم النزول الى الحياة والتحدث بلغة الناس اليومية، ومعايشة هموم الحياة الانسانية، ومن هنا كانت الرواية العربية أحد أهم الحقول ، الى جانب الصحافة والمسرح التي جرت فيها عملية تجديد اللغة العربية لنفسها، بكل ما تعنيه هذه العملية من أبعاد اجتماعية وفكرية وفنية ، أي عملياً اختبار قدرة اللغة العربية على الدخول في سلسلة العصر الثقافية- الفنية.. وقد كان الموقف من دخول الرواية الى السلسلة الثقافية العربية، كجنس وافد ، في بعض المراحل، بعداً آخر للموقف من اللغة التقليدية ورؤيتها .
 فالتقليديون، كما هو معروف ، وقفوا ضد جنس الرواية وجوداً،  بينما دافع عنها المجددون، كما كان للموقف من لغة الرواية بعد اجتماعي، ورؤية فكرية جديدة لدى آخرين في مراحل تالية.. اي عندما نضج الفن الروائي ، وأصبح شرعياً ضمن السلسلة الثقافية العربية، وقادراً على تقديم رؤية كونية فنية.
 هكذا تقاطعت اللغة والرواية ، القديم والجديد، السلسلة الثقافية القديمة والسياق الثقافي الجديد.. فأين حصل هذا التقاطع وكيف ؟
 ربما كان الدكتور شكيب الجابري ، مؤسس الرواية السورية من اكثر من تتجلى في ريادته ونتاجه وحياته المشكلات التي قدمنا الحديث عنها فلنتحدث عنه .

 ربما تكون شخصية « الدكتور في العلوم» شكيب الجابري (1912- 1996) من أغرب واعقد الشخصيات في الثقافة العربية، واكثرها تناقضاً، منشؤه صراع موارٍ في ذات الكاتب هو - أي هذا الصراع- في التحليل الاخير ، انعكاس ومعادل فني لصراع مجتمع الكاتب.. وقد تمثل وتجلى في الجنس الروائي ولغته ، فالجابري -كما يقول- « شديد التعلق بالعروبة والاسلام» لكن تعرضه لرياح الفكر الغربي ، جعل « روحه خراباً» والجابري مهندس معادن ودكتور في العلوم ، لكنه في الوقت نفسه رومنتيكي حالم ، في مواقفه ورؤيته، وفي لغته الادبية ، وربما لهذا بدا الجابري مثل شرارة مفردة تطير فوق حريق اجتماعي ثقافي هائل .
 لم يدرك الجابري وضعه هذا ، بل ظن نفسه روحاً حالماً يطير في الخيال ، وتلك هي المفارقة في أدب الجابري عموماً ، وفي رؤيته او موقفه من علاقة الشرق بالغرب ( القديم - الجديد ) كما انعكس ذلك في أدبه.
 في الفن الروائي عموماً... كان الجابري من أوائل الروائيين السوريين- زمنياً - وهو كذلك اول روائي سوري صاغ علاقة الشرق بالغرب روائياً ، والعنصر الغربي هو مدار رواياته الاربع: ( نهم، 1931- قدر يلهو- قوس قزح، 1939- وداعاً يا أفاميا، 1960) بل إن كل شخوص ومسرح روايته الاولى غربي.
 بسبب ريادته الزمنية تلك.. فإن اللغة « الروائية » عند الجابري بقيت أسيرة مبالغات وبلاغة اللغة القديمة ، أي ان اللغة عند الجابري لما تصبح روائيةً بعد، أي ملتصقة بواقع الحياة والشخصيات والاحداث، إن همّ اللغة عند الجابري وظيفتها  ان تكون بلاغة وصوراً وخيالاً جموحاً محلقاً وجمالاً لا ان تكون أداة- فعل - وتوصيلاً وتواصلاً وتعبيراً عن موقف او شخص او حدث معين ، بما يتطلبه هذا الموقف او الشخص.
 هذا الموقف «اللغوي» يعكس عند الجابري موقفاً تاريخياً عقائدياً - كما سنرى - اضافةً الى انه يفصح عن حضور مفهومات المجتمع القديم، عبر جماليات ولغة هذا المجتمع ، لكن المشكلة كانت قائمةً، والجابري ابن الثقافة التقليدية كان قد تثقف ثقافة غربية ، فكان لابد من دمج اللغة القديمة ، ممثلة قيم المجتمع الذي يمثله الجابري ، بالتكنيك الروائي ، وكانت النتيجة روايات الجابري المتميّزة.
 في رواية قد يلهو- 1939 - علاء طالب عربي في برلين يدرس الطب، وذات ليلة ممطرة يتعرف الى فتاة فقيرة مشردة هي إلزا- سوف نعرف في الرواية التالية : قوس قزح أن محامياً المانياً حاول اغتصابها فهربت- يلتقطها علاء ويعاملها بشهامة، ويساعدها على ايجاد عمل ، وبعد هذا يقل لقاؤه بها... إلا ما كان مصادفةً- سوف نعرف في رواية « قوس قزح» انها كانت تصطنع هذه المصادفات - وبعد ان يعود علاء الى الوطن يتلقى رسالة من إلزا تخبره فيها انها حامل منه، وأنها تريد ان تحتفظ بالجنين ليولد رجلاً- فأمثال علاء لا يلدون إلا الرجال - كما ستقول إلزا في قوس قزح- على دين أبيه دين الاسلام.
 أثناء وجود علاء في برلين كان يفاخر كثيراً بالعروبة والاسلام.. اما عندما يعود الى الوطن... فإن الصورة تنعكس ويتحول هذا « العلاء» الى متهدم روحياً ويبدأ قلقه.. فعلاء الذي كان يحتفظ في برلين بقرآن يضعه جوار رأسه... يتحول الى مدمن على ملاهي بيروت الليلية التي تقدم الرقص الغربي - هذا معادل لحنينه للغرب الذي يرفضه - وفي أحد الملاهي يتعرف الى راقصة المانية ليعرف - فيما بعد - أنها إلزا اياها فتاة برلين التي آواها وحملت منه، ومنها يعرف انها ولدت طفلاً اسمته محمد علي - سوف نقرأ عنه في قوس قزح- ولأن  شكيب  الجابري  كاتب  رومنتيكي أصيل ، كان لابد من  ان يموت محمد علي بالسل... وكان لا بد كذلك من ان تكون إلزا مسلولة ايضاً، فالسل هو مرض الرومنتيكية المحبب، في « قوس قزح» -1946- تعاد صياغة الرواية ، لكن هذه المرة بلسان ومن وجهة نظر إلزا الفتاة الغربية.
 إن اعادة « قدر بلهو» في «قوس قزح» لكن من طرف شخصية مغايرة، وبلسان مذكراتها كان تعبيراً عن قلق الجابري الدفين، وحيرته - في اعماق لا شعوره بين طرفي معادلة : علاء وإلزا الشرق والغرب ، فهذا القلق جعله يكتب موضوع ومضمون روايته ومضمونها في روايتين، وعن طريق شخصيتين في « قدر يلهو» ثم في « قوس قزح» ثم يعيد كتابة الروايتين في رواية واحدة فيما بعد .
 كانت الرواية في « قدر يلهو» من وجهة نظر الشرق وكان الراوي علاء في «قوس قزح» من وجهة نظر الغرب ، على حين كانت الراوية هي إلزا ولم تغيّر الرواية الثانية ولم تزد الى الاولى شيئاً ان تكنيك « ثنائية » وجهة النظر هذا، هو في ابسط تحليل تعبير عن ثنائية وانقسام ذات الكاتب، وبالتالي انقسام الذات شخصياً واجتماعياً التي يمثلها هذا الكاتب ان تخلخل ذات الكاتب وعدم قدرته على اتخاذ موقف حاسم عن طريق تقديم رواية ذات وجهة نظر واحدة حاوية ، إن هذا التخلخل هو معادل لتخلخل الرؤية التي ينتمي اليها الكاتب نشأةً وفكراً.. فالكاتب يرى مضمونه في الرواية الأولى، لكن الشكوك تراوده حول مدى صحة ما يرى وما يعتقد، فيضطر الى الاستعانة بعين ثانية، ان تكنيك ثنائية وجهة النظر هذا هو تكنيك من تزعزعت ثقته بالحقيقة المطلقة - مسرح برنديللو- رباعية داريل ميرامار نجيب محفوظ، إنه تكنيك - منطقي - ويفرض نفسه في مجتمع يتهدم، ومع تهدمه تضيع المقاييس والقيم القديمة والثقة وفي تهدمه تنقسم الذات على نفسها- ذات المجتمع وذات الفرد- وسواء وعى الكاتب ذلك ام لم يعِ، إن الموضوع هنا يشبه قضية بلزاك- الذي يعلن الجابري عن عظيم حبه واعجابه به في المقدم التي كتبها لرواية «الناعقون»- فالنتائج المنطقية والمضمون العام الذي يمكن استخلاصه من أدب بلزاك يخالف تماماً عواطف بلزاك الواعية ونواياه  وعقائد، والجابري الذي يعلن في رسالة لشاكر مصطفى- القصة في سورية- « إنك لتدرك ان كل اللعبة في الروتين - قدر يلهو، قوس قزح- تقوم على الايمان بأن العروبة لب الاسلام» قد قدم لنا عبر روايتيه هاتين وعبر شخصية علاء ، وثيقةً هامة لمجتمع قديم يتهدم وذات اجتماعية وفردية تنقسم على نفسها لكننا نلاحظ هنا ، أنه وعلى الرغم من ثنائية وجهة النظر التي تحدثنا عنها، فإن الكاتب لم يستطع في قوس قزح تقمص شخصية إلزا ( أي لم يستطع تمثل الرأي الآخر) واعطاءَها حضوراً وبعداً موضوعياً منفصلاً عن ذاته ،بل إن إلزا بقيت قناعاً لأفكار علاء او الكاتب ومشجباً لآرائه التقليدية حول المرأة.. تقول إلزا في قوس قزح « المرأة أمة لم تحب » آمنت بذلك ولا انكره لها، في عبودية الحب لذة ... وإذا كان صحيحاً ما يُقال عن عبودية المرأة في الشرق القديم فقد فهم الشرق إذاً بحدسه البداهة التي يلج الغرب في نكرانها ، وإنني اذاً شرقية بهيامي ، وإني بذلك لراضية وفخورة» ص104 بدهي ان هذا الكلام - وكلام غيره كثير ومشابه في الرواية ، هو كلام «رجل شرقي » من مخلفات الرؤية التقليدية لا كلام امرأة « غربية» هذا « العيب » في الرواية الثانية- قوس قزح- ادى الى اضعاف الصراع ، فكرياً وفنياً في الرواية ككل، بحيث لم تكن قوس قزح إلا اعادةً مكرورةً ومملةً الشخصية علاء، لكن من وجهة نظر نسائية .
 إن الجابري أراد عبر « قدر يلهو- قوس قزح» تقديم دفاع عن قيم المجتمع الشرقي التقليدي امام فكر غربي تمثله برجوازية ناشئة في سورية خصوصاً والمجتمع العربي عموماً.. وكأنه يريد الوقوف في وجه « هذا الغرب الذي ترهبه وتزدريه لشدة ما منيت به بلادك من عذابه واذلاله» قوس قزح ص 78) وقد ذهب الى الغرب ليتسلح ويعود لكن حالته بعد ان عاد صارت «لا المظاهر الغربية ترضيني الرضا كله، فتنفتح لها نفسي، ولا مظاهر قومي تقر عيني هناءً  فأنا طريد المدنيين واضيّع بين ذلك نفسي وبهجة العيش في عيني» ( قدر يلهو -ص 122- 123).
 وطريد المدينتين هذا هو الجابري لكنه، قبل الجابري وبعده هو المجتمع العربي الذي تخلخلت بنيته القديمة، ويحاول دخول الحضارة الحديثة ، والعصر الحديث ، لكن الطريق وقت ظهور الجابري وربما  إلىالآن في نظر بعضهم، لم يكن قد تحدد بعد، فالجابري ، كإنسان ينحاز الى قيم الشرق ، لكن الجابري ككاتب روائي يسجل تخلخل قيم هذا الشرق الذي يحاول الدفاع، إنه بؤرة قلق موارة، وشرارة طارت من حريق اجتماعي كبير ، ومازالت تطير حائمةً فوق حريقها.
 ربما يكون الجابري من حيث موقفه الاجتماعي التقليدي من القضية المحورية في المجتمع العربي، وفي ادبه، ومن عصره، ومن حيث الدلالة « التقدمية» والصورة الصادقة التي يمكن استخلاصها من ادبه لمجتمع يتهدم... إن الجابري بمفارقته تلك ربما يكون هو بلزاك الرواية السورية، وتلك اهمية الجابري وقيمته...
 تحيةً للجابري وتقديراً لريادته في الرواية العربية والسورية، وزارة الثقافة تقدم الاعمال الروائية الكاملة، وهي :
1- نهم 1937
2- قدر يلهو 1939
3- قوس قزح 1946
4- وداعاً يا أفاميا 1960
 5- قدر يلهو - صياغة جديدة- 1988
هوامش
1- جورج لوكاتش، الرواية كملحمة برجوازية ترجمة : جورج طرابيشي- دار الطليعة- بيروت 1979.
 2- ميخائيل باختين ، الملحمة والرواية ترجمة: د. جمال شحيد- بيروت - معهد الانماء العربي - 1982.
 3- نشأة الرواية العربية: بين النقد والآيديولوجيا مقال ضمن كتاب: الرواية العربية، واقع وآفاق ( ندوة مشتركة)- دار ابن رشد - بيروت 1980.
 4- عبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية- دار المعارف- القاهرة- 1963.
 5- يشكو أحد الكتّاب العرب من سيل ترجمة الروايات الاجنبية الى العربية قائلاً: « فمن تتبع قراءة بعض الروايات المعربة التي تنشر في مصر تباعاً ، تجلت له مضار التعريب بأجلى مظاهرها وتمثلت له عوائد الاجانب واخلاقهم ومستحسناتهم مخالفة عوائدنا ومستحسناتنا» جناية اوروبا على نفسها وعلى العالم تأليف: احمد فهمي - مطبعة المعارف في أول شارع الفحامة في مصر- سنة 1324-1906 من المقدمة.
 «سمعنا عن شيوخنا في مجالس التعليم ان اصول هذا الفن ( لادب) وأركانه أربعة  دواوين وهي: «أدب الكاتب لابن قتيبة كتاب «الكامل » للمبرد وكتاب « البيان والتبين » للجاحظ وكتاب « النوادر» لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الاربعة فتبع لها وفروع عنها» ومقدمة ابن خلدون».
 6- يحدد الدكتور طه حسين عام 1927 في مقدمته كتابه « الادب الجاهلي » السلسلة الادبية العربية التقليدية، واقتحام الثقافة الاوروبية كلها أوائل هذا القرن كما يلي : « ..وكنت ألاحظ في هذه المقدمة ( مقدمة كتاب ذكرى ابي العلاء المنشور عام 1914) إنه قد كان في درس الادب في مصر مذهبان : أحدهما مذهب القدماء الذي كان يمثله الشيخ سيد المرصفي ، حين كان يفسر لتلاميذه في الازهر « ديوان الحماسة» لأبي تمام او كتاب « الكامل » للمبرد او كتاب « الآمالي» لأبي علي القالي، ينحو في هذا التفسير مذهب اللغويين والنقاد فمن قدماء المسلمين في البصرة والكوفة وبغداد ... والآخر مذهب الاوروبيين الذي استحدثته الجامعة المصرية بفضل الاستاذ نلينو...وكنت ألاحظ ان الفرق بين المذهبين عظيم»، طه حسين الاعمال الكاملة- المجلد الخامس -ص9.
 7- هذه التعريفات وردت في الكتب التالية على التوالي :
 !- فورستر ، اركان الرواية ، ترجمة كمال عيد - القاهرة - 1961 - الألف كتاب .
2- مدخل الى الرواية الانكليزية ، ارنولد كيتل ، ترجمة : د. هاني الراهب - المجلد الاول .
3- هنري جمس، مقالة الفن الروائي، وهي موجودة في اكثر من مصدر منها : نظرية الرواية ( مجموعة مقالات) ترجمة انجيل بطرس سمعان- القاهرة الهيئة العامة للكتاب - 1971.
 8- كمثل على عدم ترحيب التقليديين العرب بجنس الرواية نذكر رأي العقاد الذي كان يقول :« لا اقرأ قصة حيث يسعني ان اقرأ كتاباً او ديوان شعر ، ولست احسبها من خيرة ثمار العقول ... ولكن الرواية تظل بعد هذا في مرتبة دون مرتبة الشعر ودون مرتبة النقد او البيان المنشور... إن خمسين صفحةً من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيه بيت كهذا البيت :
 وتلفتت عيني فمذ بعدت
 عني الطلول تلفت القلب
 او هذا البيت ... او هذا...» عباس محمود العقاد في بيتي ص 27-28- سلسلة اقرأ (33) - دار المعارف - القاهرة- 1945.
 اما زكي مبارك فيصف « كتاب القصة العربية بأنهم ينتمون الى الطبقة الدنيا من الادباء، وبأنه من النادر ان يكون بينهم من ظفر بثقافة ادبية وافرة، تبيح له ان يكون ذا رأي خاص او اسلوب طريف وبأنهم عالة على الآداب الاجنبية» من مقالة حياتنا الادبية - مجلة المعرفة - م1 ع1 (آذار - مارس 1932) والنص المتقدم منقول عن كتاب دراسات في حضارة الاسلام، هاملتون حب، ترجمة : احسان عباس وآخرون- بيروت - دار العلم للملايين - 1974 - ص 3 -ص 386.
 9- « مارون عبود » رواد النهضة الحديثة- ص 141- دار العلم للملايين - بيروت - 1952- والنص منقول عن كتاب « في النقد الادبي » سلسلة الفكر العربي الحديث رقم (5) ص 204 - مؤسسة ناصر الثقافية- بيروت - 1980 وقد كان لمارون عبود موقف متميز في تجديد اللغة عبّر عنه في كتابه « مجددون ومجترون» - بيروت - 1948.
 10- فتاوى كبار الكتّاب والادباء في :
1- مستقبل اللغة العربية
3- نهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية ( عُنيت بنشره ادارة الهلال في مصر- 1923).
 11- كان وما يزال غالبية المثقفين والكتّاب العرب يرون ان اللغة العربية قادرة على الاستمرار واستيعاب الثقافات الأخرى قديماً وحديثاً ، وأن لها مستقبلاً على الرغم من الاختلاف في تحديد مشكلاتها ..اما الرأي الآخر والذي يدعو الى نظرة مختلفة بقدر كبير او قليل عن رأي الاغلبية فيتمثل بآراء سعيد عقل المعروفة وربما يكون سلامة موسى من أوضح من صاغ موقفاً ، معللا ضمن هذا التيار ، إذ صاغ مطالب محددة ففي كتابه ( البلاغة المصرية واللغة العربية) الصادر عام من 1945 يرى:
 1- ان على اللغة العربية ان تتخلى عن كلماتها التقليدية التي ترتبط بمعانٍ قديمة.
 2- ان تأخذ لغة العلوم العصرية- الاوروبية كما هي .
 3- ان تتخلى عن الشواذ والمترادفات
 4- ان تترك الخط العربي الى الخط اللاتيني .
 وربما يكون موقف سلامة موسى الجذري في معاداة التقليدية والاخذ بالثقافة الاوروبية كامناً في خلفية موقفه « اللغوي » هذا .
 وفي كل الاحوال يبدو ان مثل هذا النقاش قد اصبح اليوم قديماً ومتجاوزاً، فالمواقع اللغوية الآن يقول لنا ان تطور اللغة العربية سار في اتجاه آخر ، فاللغة العربية بقيت ،لكن بعد ان تخلت عن كثير من سماتها التقليدية واقتربت كثيراً عبر الادب الجديد والصحافة ووسائل الاذاعة والاتصال وشيوع التعليم من لغة الناس المتداولة، لغة الحياة اليومية..

محمد كامل الخطيب

المصدر: البعث


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...