حوار في العمـق: من أجل التقريب الحقيقي بين المسلمين (2-7)

11-09-2006

حوار في العمـق: من أجل التقريب الحقيقي بين المسلمين (2-7)

الجمل: سلك التفسير طرقاً ومناهج متعدّدة يمكن حصرها بما يلي:
1- التفسير بالمأثور.
2- التفسير بالرأي.
3- التفسير بالقرآن.
4- التفسير الباطني.
5- التفسير الصوفي الإشارتي.
6- تفاسير حديثة غلبت عليها صبغ معينة، كالصبغة العلمية، والصبغة الأدبية، والصبغة الاجتماعية.
وسوف ينصب بحثنا في أقسام ثلاثة فقط، هي: الأول والثاني والسادس، وذلك :
أوّلاً: لما تميزت به هذه الأقسام من شمول واستيعاب وانتشار بين عموم المسلمين، بخلاف التفاسير الباطنية والصوفية التي تكاد تكون تفاسير خاصة، ضيقة النطاق، تحمل معها أسباب شللها وانزوائها بعيداً عن الحياة.
ثانياً: لأن هذه الأقسام الثلاثة هي التي زخرت بأسباب الخلاف، وكثرت فيها النزاعات الفكرية والمذهبية، بخلاف التفسير القرآني، والذي يعد أسلم مناهج التفسير وأهمها على الإطلاق.
 أ – التفســير بالمأثــور:
1- يُعدّ التفسير بالمأثور أول أشكال التفسير ظهوراً. وسمته الثابتة هي الاقتصار في تفسير النص القرآني على ما ورد في الأثر في ذلك عن الرسول (ص) أو الصحابة وأهل البيت والتابعين.
ويمكن أن يلاحظ أنّ أصحاب هذا المنهج قد سلكوا فيه مسلكين:
الأول: توقف عند حدود الرواية، فلم يزد فيه المفسر على إيراد الروايات شيئاً يُذكر، وربما ذكروا أسانيد رواياتهم وربما حذفوها اختصاراً.
ومن هذا القسم: تفسير العياشي، تفسير فرات الكوفي، تفسير القمّي، تفسيرالحبري - الزيدي-، تفسير الثعلبي، تفسير لبرهان، الدر المنثور للسيوطي، نور الثقلين.
الثاني: زاد على إيراد الروايات فوائد هامة،كالترجيح بين الروايات، نقد أسانيدها، وانتخاب الأصح منها والأنسب بالمعنى القرآني والأكثر موافقة للأصول، وكإدخال فوائد لغوية هامة في محلها.
ومن تفاسير هذا القسم: تفسير الطبري، التبيان، مجمع البيان، وتفسير ابن كثير.
2- وللتفسير بالمأثور عامةً آفتان خطيرتان:
الأولى: كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيها، لأن غرض أصحابها عادةً هو جمع كل ما ورد من روايات في معنى النص القرآني بدون النظر في أسانيدها، ولا في اضطراب متونها أو مخالفتها للأصول الثابتة في الشرع.
والثانية: عرضتها للإسرائيليات الدخيلة على ثقافتنا وعقائدنا.
ولا يكاد ينجو تفسير روائي من هاتين الآفتين.
أمّا قول ابن تيمية في تفسير الطبري: «إنّه لا يروي الموضوعات، ولا يروي عن المتهمين»(1) فهي مجازفة واضحة لا يوافقه عليها أحد حتى الطبري نفسه، إذ ردّ كثيراً من الروايات التي أوردها في تفسيره، وروايات أخرى لم يردّها ولم يعقّب عليها، قال فيها الدكتور محمد السيد حسين الذهبي: «ابن جرير يروي في تفسيره أباطيل كثيرة يردها الشرع ولا يقبلها العقل، ثم هو لا يعقب عليها بما يفيد بطلانها اكتفاءً بذكر أسانيدها»(2).
وإذا كان الدكتور الذهبي يركز هنا على الإسرائيليات فإنّ قوله هنا جارٍ أيضاً على رواياته لتفسير السلف. بل إنّ ابن تيمية نفسه الذي قال: «إن الطبري يروي تفاسير السلف بالأسانيد الثابتة»(3) لم يلتزم قوله هذا ولم يعرف لتفسير الطبري هذا الحق في مجادلاته العقائدية... فمرّة وصف أحاديث بأنها موضوعة ولم يروها أحد من أهل العلم في حين رواها الطبري من طرق متعددة – فعن تصدق علي (ع) بالخاتم وهو راكع ونزول قوله تعالى:
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ المائدة)                (المائدة 5/55)
قال ابن تيمية: هذه من الموضوعات باتفاق أهل العلم. (4) في حين رواها الطبري بأسانيده عن السلف من خمس طرق، لا طريق واحد !!. وغير هذا كثير ذكرنا منه نماذج في كتابنا (ابن تيمية حياته... عقائده) الذي صدر حديثاً.
- ومرة أخرى رأى ابن تيمية أن خصماً له يحتج لمذهبة برواية للطبري في تفسيره، فقال ابن تيمية في الرد عليه: «إذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف، مثل: تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي، بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرد رواية واحدٍ من هؤلاء دليلاً على صحته».(5)
ومثل هذا الكلام يرد في حق من يذهب إلى تصحيح كل ما جاء في تفسير القمي، بحجة أن القمي قد وثق مشايخه، فيُرَدُ عليه:
أ‌- إن توثيق القمي لمشايخه لا يعد توثيقاً لسائر رجال السند. ففي تفسير البسملة في أول كتابه تجد في أسانيده: عمرو بن شمر ومفضل بن عمر، وكلاهما متهم بالكذب. (6)
ب‌- إن تفسير القمي قد ضم في مروياته روايات لا تستقيم مع القرآن ولا مع اللغة ولا مع الأصول، ولا يمكن حملها على أي محمل، فمن ذلك: عند قوله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ )         (البقرة 2/26)
قال القمي في روايةٍ ذكر إسنادها: «إنّ هذا مثلاً ضربه الله تعالى لأمير المؤمنين، فالبعوضة: أمير المؤمنين، وما فوقها: رسول الله»!(7) فعلى أي وجه يمكن أن يحمل هذا الكلام ؟!
عند قوله تعالى  (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ 19 بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ20 فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ 21 يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ 22)               (الرحمن 55/19-22)
قال القمي: «البحران: علي وفاطمة، والبرزخ: رسول الله (ص)، واللؤلؤ والمرجان: الحسن والحسين».(8)
وفي هذا الكلام الأخير بالخصوص، وفي أصل الموضوع – وهو التفسير بالباطن- عامة، قال الشيخ محمد جواد مغنية بالحرف الواحد: «ونُسب إلى الشيعة الإمامية أنّهم يعتقدون بأن المراد بالبحرين: علي وفاطمة، وبالبرزخ: محمد (ص)، وباللؤلؤ والمرجان: الحسن والحسين. وأنا بوصفي الشيعي الإمامي أنفي هذه العقيدة عن الشيعة الإمامية على وجه الجزم والإطلاق.
وإنهم يحرمون تفسير كتاب الله تفسيراً باطنياً».(9)
فهذا رد لهذه الرواية ولسائر ما في هذا التفسير وغيره من الباطن.
وليست هي كلمة محمد جواد مغنية وحده، بل من تتبع ما قرره أهل العلم من الأصوليين وجد أنها كلمة إجماع عندهم، فإلى هذا ذهب الشيخ المفيد، وعلم الهدى الشريف المرتضى، والشيخ الطوسي، والعلامة الطبرسي، والشيخ محمد جواد البلاغي، والسيد الخوئي وغيرهم.
هؤلاء الأعلام على كلمة واحدة في عدم اعتماد التفسير الباطني للقرآن، وهذا ظاهر من أدنى مطالعة في ما تركوه من آثار في التفسير، وهو معلوم حتى عند عشاق التفسير الباطني، فهم لا يطلبون شيئاً منه في آثار هؤلاء الأعلام وإنما يطلبونه عند غيرهم.
وهؤلاء الأعلام أيضاً مجمعون على حجّية الظواهر في القرآن، وتفسيره بالمفهوم من لغة العرب، رجوعاً إلى العديد من آيات القرآن الكريم الدالة على ذلك، كقوله تعالى:
(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)            (النســـاء 4/82)
وقوله تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)          (الشعراء 26/195)
وقوله تعالى: (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ...)                 (آل عمران 3/138)
وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)          (يوســـف 12/2)
وقوله تعالى:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)        (القمر 54/17) (10).
‌ج-   رد الشيخ البلاغي كثيراً من روايات القمي في تفسيره معللاً ذلك بضعفها، وقد تكرر هذا في عدة مواضع من تفسيره (آلاء الرحمن) (11).
‌د-  شكك السيد الطباطبائي في كثير مما نقله عن تفسير القمي في بحوثه الروائية (12) .
هـ-  من الناحية السندية فإن هذا التفسير لم يروه عن القمي إلا رجل واحد، وهو العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى الكاظم (ع). وليس لهذا الرجل ذكر في كتب الرجال على الإطلاق، ولم يعرف إلا في كتب الأنساب بأنه واحد من ولد محمد بن القاسم، وأن عقبة في طبرستان. (13) ترى كيف يغيب عن كتب الرجال رجل يروي مثل هذا التفسير الكبير الذي ضم عدة مئات من الأحاديث المنسوبة إلى أهل البيت عليهم السلام؟!.
ومثل هذا المأخذ السندي لا يمكن إغفاله والإعراض عنه كلياً.
أما محاولة بعضهم توثيق هذا الراوي لسبب واحد عرفوه عنه، وهو أنه يتصل بالإمام الكاظم (ع) بعد ثلاثة آباء، فهي ليست من كلام أهل العلم التي تستحق النظر… فهل يستطيع هؤلاء أن يقطعوا بتوثيق زيد الذي لا يفصله عن الإمام الكاظم ولا أب واحد، لأنه هو ابن الإمام الكاظم (ع) ؟! أم يستطيعوا توثيق جعفر الكذاب وهو ابن الإمام الهادي (ع) ؟!
أما ما يرد على هذه الملاحظة من أن الشيخ الطوسي والنجاشي قد ذكرا لهذا التفسير طرقاً آخر عن ثقات معتمدين، منهم: الحسن بن حمزة بن علي العلوي، وعلي بن بابويه، وعلي ما جيلويه… فهو جواب مفيد في إثبات نسبة هذا التفسير إلى القمي .
لكن المؤسف أن هذا القدر من الفائدة يتم بعد أن أثبت التحقيق أن التفسير المتداول المطبوع ليس لعلي بن إبراهيم وحده، وإنما هو ملفق من تفسير علي بن إبراهيم، ومن رواية تلميذه العباس- راوي هذا التفسير- عن مشايخه الآخرين، (14) والذين أحصاهم الشيخ السبحاني فبلغوا أحد عشر من المشايخ الذين لم تثبت لعلي بن إبراهيم القمي رواية عنهم، (15) ومنهم من هو متأخر عن علي بن إبراهيم، كمحمد بن جعفر الرزاز !
وخلص الشيخ السبحاني من تحقيقه إلى القول: «إن الاعتماد على هذا التفسير بعد هذا الاختلاط مشكل جداً، خصوصاً مع ما فيه من الشذوذ في المتون ـ قال ـ وقد ذهب بعض أهل التحقيق إلى أن النسخة المطبوعة تختلف عما نقل عن ذلك التفسير في بعض الكتب، وعند ذلك لا يبقى اعتماد على هذا التوثيق الضمني أيضاً، (16) فلا يبقى اعتماد لا على السند، ولا على المتن»(17) !.
ومما يؤكد أن هذا التفسير ملفق أنك ترى رواية بعد أن يستطرد بذكر جملة من الروايات يعود فيقول «رجع إلى تفسير علي بن إبراهيم» وهذا دليل قاطع على أن ما تقدم على هذه العبارة ليس من تفسير علي بن إبراهيم(18) !!.
و-   لقد دون السيد هاشم معروف الحسني كثيراً من هذه الملاحظات حول تفسير القمي(19).
وخلاصة القول: إنّه لا تخلو التفاسير الروائية من الأحاديث الموضوعة والأخبار الدخيلة. ولهذه الأحاديث والأخبار آثارها السلبية الكبيرة في زيادة تعقيد الخلافات المذهبية، بما تحمله من عقائد غريبة دخيلة قد يتدين بها بعض المسلمين دون بعض، فتظهر بذلك سلسلة جديدة من النزاعات بين الفريقين، وبملاحظة أن الأخبار حملت عقائد شتى ووردت في مصادر كثيرة، فإن الانقسامات ستزداد، فتزداد النزاعات تبعاً لها، وتتسع الهوة.
وكل هذا خُلق من تلك الأخبار الدخيلة والأحاديث الموضوعة التي شحنت بها كتب التفسير الروائي بالخصوص، ولو استطعنا تنقية تراثنا التفسيري من هذه الشائبة لدفعنا عن أمتنا شراً عظيماً كان ولا يزال واحداً من مصادر النزاع والخلافات بين المسلمين.
تمثيـــل:
الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات تشغل مساحةً واسعةً في تراثنا التفسيري، وبالخصوص الروائي منه، والذي سنختاره هنا من شواهد ذلك مثالان فقط يمكن أن ينسبا إلى صنف واحد من أصناف الموضوعات – لو تم هذا التصنيف الموضوعي – وهو الصنف الذي يمس مساً صريحاً ومباشراً بكرامة القرآن الكريم:
المثال الأول  :  قصة الغرانيق  :
في سبب نزول قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ )                    (الحج 22/52)
 قال بعض المفسرين: جلس رسول الله  في نادٍ من أندية قريش وفيه جمع كبير، فتمنى عندئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء ينفرهم عنه، فأنزل الله عليه سورة النجم فقرأها عليهم حتى إذا بلغ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 19 وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى20). (النجم 53/19-20)
ألقى عليه الشيطان كلمتين: (تلك الغرانيق العلى، وإن شافعتهن لترتجى) فقرأها النبي  ثم أتم قراءة السورة فسجد في آخرها وسجد القوم جميعاً معه، ورضي المشركون بذلك، فلما أمسى النبي أتاه جبريل، فقال له: يا محمد، ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن  الله!! فحزن رسول الله  حزناً شديداً وقال: افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل!! وما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه هذه الآية تسليه:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .      (الأنبياء22/52)
هذه القصة التي رقص على نغماتها المغرضون، وطال حولها نزاع المسلمين، أخرجها الطبري في تفسيره من تسعة طرق، (20) بل قال الرازي: هذه رواية عامّة المفسرين الظاهريين.
هذا مع أن أهل التحقيق قالوا فيها: إنها قصة باطلة موضوعة:- سُئل عنها خزيمة، فقال: هذا وضعٌ من الزنادقة. ثمّ صنّف فيها كتاباً في إثبات قوله هذا…
وقال أبو بكر البيهقي: هذه قصّة غير ثابتة من جهة النقل. ثمّ أثبت أنّ رواتها مطعون فيهم…
وقال ابن كثير: لم أرها مسندة من وجه صحيح…
وأيضاً فقد روى البخاري وغيره من طرق كثيرة أن النبي (ص)  قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيها البتة حديث الغرانيق. (21)
وخلص القاضي عياض إلى أنّ هذا الحديث إنّما أولع به وبمثله المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكلّ غريب، المتلقّفون من الصحف كلّ صحيح وسقيم. (22)
ثم ذكر الرازي احتجاج أهل التحقيق على هذه الرواية أيضاً بسبعة نصوص قرآنية وخمسة براهين عقلية. (23)
بقي أن يشار إلى أنّ هذه القصة لا موقع لها في التفاسير الشيعية قاطبةً لأنها منافية لأصل العصمة الذي هو جزء لا يتجزأ من عقيدة النبوة، وإلى أصل العصمة في التبليغ خاصةً استند القاضي عياض أيضاً في إبطالها. (24)
وإلى هذا الأصل أيضاً يرجع البرهان الخامس من البراهين العقلية التي ذكرها الرازي، ففيه: إنّا لو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه (ص)، وجوزنا في كلّ واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك!.
المثال الثاني  :  قصّة الأسماء المحذوفة  :
ذكر بعض أصحاب التفسير بالمأثور أنّ هناك آيات في القرآن الكريم قد أُنزل فيها اسم الإمام عليّ، وربّما أسماء غيره من الأئمّة أيضاً، وذكروا مثال ذلك، قوله تعالى:
(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)             (البقرة 2/23)
فقالوا: إنّها نزلت هكذا: (وإن كنتم في ريب مّما نزلنا على عبدنا في عليّ فأتوا بسورة من مثله). رواها القمي وهاشم البحراني. (25) وهي مروية في الكافي أيضاً.
سخر الإمام الخوئي من هذه الرواية مطمئناً، فأين ذكر علي (ع) من موضوع إعجاز القرآن والتحديث بالإتيان بمثله!!
قال الإمام الخوئي: إنّ هذه الرواية المروية في الكافي مّما لا يحتمل صدقه في نفسه، فإنّ ذكر علي (ع) في مقام النبوة والتحديث على الإتيان بمثل القرآن لا يناسب مقتضى الحال.
ثم أبطل هذه الرواية وأخواتها جميعاً ببراهين أخرى من السنة الصحيحة. (26)
وقد يكون مستغرباً أن نجد نظير هذه الأحاديث في مصادر سنية معتبرة، مثل (تفسير فتح القدير) للإمام الشوكاني وهو المحقق الجدير الذي جهد أن لا يذكر في كتابه إلا ما يثق به، وإن هو ذكر شيئاً مما لا يثق به صرّح بطعنه….
لقد نقل الشوكاني حديثاً عن ابن مسعود، قال فيه: كنّا نقرأ على عهد رسول الله (ص):  (يا أيُّها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته). (27)
والخلاصة :
إنّ أهل التحقيق قد قسّموا هذه الروايات إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول : ما لا يصح إسناده، لطعن معلوم في بعض رواته، أو جهالة، أو إرسال، وهذا يشمل القسم الأعظم من هذه الروايات ولله الحمد، (28) فلو كلف القارئ نفسه عناء النظر في أسانيد ما يمر عليه من هذه الروايات لاستراح من أكثرها.
والقسم الثاني : ما لا يحتمل الصدق في نفسه، كالرواية الأولى ونظائرها، وهي كثيرة أيضاً.
والقسم الثالث: هو ما سلم من الطعنين الأوّلين، وقد فسّروه تفسيراً دقيقاً يؤيده الواقع المعلوم، ويستقيم مع حقيقة حفظ القرآن من أن تناله يد بتغيير أو تبديل أياً كان حجمه ونوعه… فقالوا: إنّ هذا ليس من القرآن الكريم، وإنّما هو من التأويل وأسباب النزول الذي كان بعض الصحابة من أصحاب المصاحف يكتبونه في مصاحفهم، كما هو معروف عن مصحف علي (ع) ومصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيرهما. (29)
وهذا هو التفسير السليم الذي لا مأخذ عليه.
كما أنّ هذا التقسيم الثلاثي يقدّم الحلّ الشافي والنهائي لهذه الشبهة التي تفرزها تلك الروايات.
وأيضاً فلا بُدّ أن يقال: إنّ أمثال هذه الروايات من القسمين الأوّل والثاني خاصّةً لا يكاد يوجد لها أثر في التفاسير المعتبرة؛ كالتبيان، ومجمع البيان، وآلاء الرحمن، والميزان، والكاشف. وإنّما هي من بلايا التفاسير الروائية.
(3)- هناك محاولات علمية قيّمة قام بها بعض المفسّرين، فناظّر في تفسيره بين الروايات المنقولة عن مصادر الفريقين، وحاكم بينها مستعيناً بالنص القرآني والسياق والأصول لينتخب الأنسب منها، فربّما اتّفقت عنده روايات الفريقين فأقرّها جميعاً. وربّما ردّها جميعاً، وربّما اتّفقت عنده روايات الفريقين فأقرّها جميعاً. وربّما ردّها جميعاً، وربّما رجّح رواية أحد الفريقين وفق القواعد المذكورة بعيداً عن التحيّز والهوى والعصبية المذهبية.
وهذا المنهج منهج حقّ، جديرٌ أن يُقتدى به.
وفي حدود مطالعتي لم أجد أحداً يتقدّم في هذا المنهج على الشيخ البلاغي في تفسيره  (آلاء الرحمن).
ثمّ هو منهج تقريبي ممتاز، جاء البعد التقريبي فيه تابعاً للبعد العلمي التحقيقي السليم، وهذا هو التقريب الحقيقي.
وهو منهج متقدّم على ما سلكه الشيخان الطوسي والطبرسي في تفسيريهما حيث حاولا إيراد المهم والمعتمد مّما قاله أصحاب المذاهب المختلفة في تفسير كلّ آية، مع ما في هذا الذي سلكه الشيخان من اعتداد ظاهر بآراء المذاهب على اختلافها، أو على الأقلّ فهو منهج ينطوي على تقدير لتلك الآراء، فلا إنكار ولا تهجّم، ولا ازدراء ولا تناسي! وفي هذا من الأثر التقريبي ما لا يخفى.
(4)- ثمّة ملاحظة هامّة أثيرها، ولا أمتلك جواباً عنها، الآن على الأقلّ، وهي:
إنّ أصحاب التفسير الذين نقلوا تفاسير السَلَف قد تسالموا على أنّ أكثر الصحابة تفسيراً هو عبد الله بن عباس، ونقلوا عن ابن عباس أنّه أخذ تفسيره عن علي ..
قال ابن عطية: أمّا صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم فعليّ بن أبي طالب، ويتلوه عبد الله بن عباس، وهو تجرّد للأمر وكمّله، وقال ابن عباس: ما أخذتُ من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب.(30)
والسؤال الذي أثيره هنا، هو: إنّ هذه النقطة تمثّل موضعاً هامّاً وكبيراً من مواضع الوفاق، والتي تشغل المساحة الأوسع في التفسير، وكان هذا لا بدّ أن يظهر في تفاسير المسلمين عامّةً، وفي التفاسير الروائية التي اعتمدت المأثور خاصةً. لكنْ لم يظهر شيء من ذلك، فما هو السرّ في ضياع هذه المساحة الواسعة من مساحات الوفاق؟ وهل من سبيل إلى تدارك هذا الأمر؟
أرى أن هذه إثارة جادّة، جديرة بأن تحظى بعناية المتخصّصين في هذا الباب، بالدرس والتحقيق الموضوعّيين، وسوف تعود تلك المساعي على الأمةٍ بنتائج حسنة بلا شكّ.

 

 

صائب عبد الحميد

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...