السلفية في المغرب

11-12-2010

السلفية في المغرب

لا يعتبر الحديث عن الفكر السلفي في المغرب، من الناحية التاريخية، شيئا جديدا، فقد تناولته الأبحاث الأكاديمية مرارا، لكن ارتباطه بلحظات حاسمة من التاريخ القومي للمغرب، على الخصوص لحظات الكفاح ضد الاستعمار، جعل هذه الأبحاث تتناوله كفكر أطر حركات المقاومة والكفاح، أي كمجموعة مقولات ساهمت في إمداد هذه الأخيرة بالمحفزات الضرورية للانتقال إلى مرحلة أخرى كانت مشاريعها للوصول على الاستقلال أكثر صراحة ووضوحا.

كان من الطبيعي، والحالة هذه، أن يكون لهذا المدخل في البحث نتائج على مستوى مقاربة موضوع السلفية في المغرب، فالاهتمام الأساسي الذي ظل يشغل الأبحاث المذكورة ليس الفكر السلفي في حد ذاته، وإنما طرق توظيفه من طرف حركة المقاومة حتى يسبح حاملا ومغذيا للأساليب الجديدة التي ارتأتها مناسبة لخوض معركة الكفاح المسلح.

الثابت والمتغير
تحول الفكر السلفي، بحسب هذا المنطق، إلى متغير تابع لحدث أصلي وهو المقاومة، الأمر الذي اقتضى تحليل هذا الفكر في الحدود التي تم فيها توظيفه لخدمة هذا المشروع، وهو ما أدى إلى غض الطرف عن جوانب عديدة، لم يكن من الممكن الانتباه إليها بدون أن يكون الفكر السلفي هو محور الدراسة ومجالها الأساسي.

كما كان هذا المدخل في البحث، سببا لما لوحظ من قلة العناية بمسألة التأصيل المفهومي لمصطلح السلفية. والنتيجة، تعدد استعمالاته، وتسرب الإبهام إليه بشكل لا يليق بالدور التاريخي الذي لعبة هذا المفهوم في الثقافة العربية كاتجاه فكري وعقائدي في وعي الذات لأوضاعها ولضرورة إصلاحها(1).

كما أن غياب قضية التأصيل ساهم، من جانب آخر، في اصطدام الأبحاث بعائق المرجعية المعرفية التي ليست موحدة عند الباحثين. ومن المعلوم أن توحيد هذه المرجعية من الأهمية بمكان، لأنها تساعد الفكر على الاتجاه إلى شيء واحد، عندما تستخدم مفهوم السلفية، وعند غياب هذه الوحدة، يصبح المفهوم الواحد مختلفا في دلالته بين الباحثين، وينعدم بالتالي الأساس المشترك للفهم(2).

لذلك، فإن الحاجة تبقى ماسة إلى دراسة شاملة تتناول الفكر السلفي في المغرب بدون ارتباط بأية مرحلة تاريخية، وبغض النظر عن توظيفاته التي تعرض لها في هذه اللحظة أو تلك، والاتجاه مباشرة للقيام بعملية مسح للمساهمات الثقافية للمفكرين المغاربة والبحث عن أثر للمقولات السلفية فيها.

قل ذلك، لابد أن نطرح تساؤلا منهجيا يمكن التعبير عنه كالتالي:

ألا ينطوي عملية تناول الفكر السلفي بغض النظر عن أسباب إنتاجه وكيفيات توظيفه على تجاهل لنسبية المفاهيم وتاريخيتها، هي المقولة الأساسية في العلوم الاجتماعية المعاصرة، التي على أساسها يتحدد الفكر، نظريات ومفاهيم، بشروط ثقافية واجتماعية وسياسية ينطلق منها، ويهدف من خلال بدائله النظرية تقديم إجابات وحلول لما تضعه تلك الشروط من إشكاليات؟

بعيدا عن إنكار هذه القاعدة الذهبية في العلوم الاجتماعية، فإن دعوى فعالية المعالجة الشاملة لهذا الموضوع تنطلق من اعتبارين أساسيين، يتمثل الأول فيما يوجبه التحليل العلمي من توضيح للمفاهيم كشرط حاسم لكل مقاربة تريد بلورة تصور موضوعي للظاهرة محل البحث، ولهذه الخطوة المنهجية كبير الأهمية في تحديد أية سلفية نقصد أن تكون محلا للدراسة، من بين كم كبير ممن الأفكار والنظريات والمفاهيم التي تتسبب نفسها إلى هذا التوصيف.

حتى إذا تحقق هذا التحديد المفاهيمي، أمكن، في خطوة ثانية، تتبع طرق تفاعل الظاهرة التي يدل عليها مع محيطها الاجتماعي والثقافي والسياسي. إذ ذاك، تصبح مقولة ارتباط النظرية بالواقع مفهومة ومستوعبة داخل المقولات المنهجية للعلوم الاجتماعية وغير متعارضة معها، إذ في نفس الوقت الذي يكون فيه الباحث ساعيا بجدية نحو التماس إسقاطات المفهوم على الواقع، فإنه يكون واعيا تمام الوعي بمعنى ذلك المفهوم، حتى إذا تعرض لتوظيفات خرجت به عن تعريفه الإجرائي المحدد ابتداء، كان ذلك مؤشرا عن خروج الظاهرة التي يصفها من دائرة التحليل.

مفهوم السلفية
أثناء بحثنا عن تعريف لمفهوم السلفية صادفتنا تعريفات عديدة مطبوعة بطابع العمومية، ويطرح التعميم مشاكل عديدة بالنسبة للدراسة الجزئية التي تريد البحث في أنماط محددة من الفكر والعمل، ونعتقد خلافا لعديد الدراسات التي تناولت هذا الموضوع أنه ليس من المحبذ، أن نزيد في تعميم المفاهيم بغية حسن استعمالها، لأننا عن فعلنا ذلك، فإننا سنعدم خصوصية المفاهيم لفرط تحسينها1. وستضيع على الباحث استنتاج ما للظاهرة المبحوث فيها من مزايا وانفرادات.

لكن التقليص من المعنى المفاهيم لا تعني بالضرورة حصرها في بعد وحيد، وإنما مجرد التقليل من مداها بشكل تستبعد من حقلها الدلالي، قدر الإمكان، كل ما قد يرتبط بها من مضامين لا تدخل في مجال اهتمام الباحث. وباختصار، يتعلق الأمر بنوع من الانكماش المفهومي الموظف لتحقيق هدفين أوليين وأساسيين:

- صياغة تعريف برغماتي Définition pragmatique، يروم التحديد الدقيق والمباشر للسلفية التي ستكون محل الدراسة، وذلك اعتمادا على مضمونها الأكثر بروزا، تعريف تقاس مردوديته حسب قدرته على تيسير تناول الموضوع من وجهة الجزئية

- الحيلولة دون فتح الملفات التاريخية ذات الصلة والتي تستغرقها المناقشات التيولوجية. ودون السقوط في فخ الجدل الإيديولوجي الدائر بين الاتجاهات التي تتنازع أحقية تمثيل المفهوم، على اعتبار انه يحيل إلى كونه اصدق تعيبرا عن الإسلام من بين جميع التيارات التي تنسب نفسها إليه، أو بين التيارات الذي توظفه لا باعتباره نمطا سائدا ضمن الفكر الإسلامي فحسب، ولكن كغطاء اصطلاحي لتمرير النقد الموجه لبنية التصور الديني ككل.

ولنبدأ، في سياق تحديد المفهوم، بتتبع تكونه التاريخي، حيث يقصد بالسلفية رؤية ومشروع للإصلاح العقائدي والاجتماعي، تبلور في البداية مع ابن تيمية وابن القيم الجوزية كرد على ما اعتبر انحرافا في فهم العقيدة الإسلامية وفي تأويل النصوص المقدسة. وبعد ذلك بقرون، استعادت حيوتيها على يد محمد بن عبد الوهاب، لتقاوم ما اعتبرته تسربا لأشكال الوثنية في العقيدة وقواعد التعبد 2 ، ولتقدم أساسا إيديولوجيا بنيت عليه الدولة السعودية مشروعية حكمها، ألا وهو خدمة المشروع السلفي في مختلف جوانبه السياسية والاجتماعية.

نخلص من هذا التعريف، إلى كون المشروع السلفي قائم على نظرة عقدية في الأساس، منهجا في الاعتقاد يقوم على اعتماد القرآن والسنة في إدراك العقائد مع تنحية الرأي والقياس وإبعادهما تماما في مجال العقيدة(3)، فإذا كانت أصول الإسلام هي الكتاب والسنة، فمعنى السلفية هو الأصولية: أصولية النص التي لا يعترف بغير جلالة النص حسب فهم السلف له.

لا يقف الحقل الدلالي الذي يفتح عليه مفهوم السلفية عند هذا الموقف الاعتقادي، وإنما يتسع ليرسم ضوابط للممارسة نفسها على ضوء هذا الاعتقاد، فإذا كان الإسلام يقيم العقيدة على توحيد الربوبية ، فمعنى ذلك، أن السلوك والممارسة المترتبين عن عقيدة التوحيد ينضبطان بهذا التوحيد المطلق توحيد لا مجال له لاشتراك غير الله في التوجه والرجاء والخوف والدعاء والتقرب النذر والرسل...

إن امتداد المنهج السلفي، إلى مجال الممارسة جعلت المتكلمين باسمه ليسوا فقط أصحاب رؤية عقدية بالمعنى المصري للكلمة، وإنما أصحاب مواقف وردود على واقع الممارسة التعبدية، ومن تم يمكن اعتبار السلفية نزعة احتجاجية على التطويرات التي طرأت على المستويين من المستويات الأساسية للدين، وهي المستوى الفكري والتعبدي. فعلى المستوى الأول، يمكن النظر إلى السلفية كنمط من الفكر، يقتصر على استخدام القاموس الإسلامي الأصلي، ويتخذ من قيم الإسلام حسب المعنى الذي يحدده هذا القاموس المعيار الوحيد في النظر والحكم، ومن النص الأصلي مرجعه النهائي في التدليل والاثباث، دون أن يستوحي عناصر فكرية مستقلة من خارج الأصولية الإسلامية للاستعانة في تبريراته الفكرية ودفاعه العقدي، وإن فعل فبتحفظ وفي أضيق نطاق ممكن(4).

على المستوى التعبدي، تروم السلفية إعادة تقنين الشعائر الدينية، بتوحيد نماذجها، كلماتها، إشاراتها وإجراءاتها، لكي يحافظ على النشاط الشعائري الأصلي في مواجهة البدع المستجدة.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار المعنى الاجتماعي للعبادة، الذي لا يحصرها في كونها الوسيلة التي تعبر بها المتعبدون عن علاقتهم بالمعبود، ولكن في الأساس إظهار للمشاعر، وتعبيرا جماعيا عن الموقف من الكون والحياة والعلاقات الاجتماعي(5)، أمكن اعتبار السلفية مذهبا اجتماعيا يحاول من خلال عقيدته السلفية رسم صورة مجتمع آخر أساسه التضامن العقدي الذي تجعل الأمة جسدا واحدا يتضامن الكل فيه مع الجزء، ويدين كل جيل للجيل الذي سبقه برابط معنوي متصل، ويحمل على عاتقه أمانة عليه أن ينقلها إلى الجيل الثاني، إنه مجتمعه أهل السنة والجماعة الذي أساسه الثبات على الإيمان كما أوجبت التعاليم النصية، وفهمها السلف الصالح المشهود لهم بالخيرية (6).

وكما هو الحال بالنسبة لكل مذهب اجتماعي، ينطوي المذهب السلفي على رؤيا نقدية واقعية لأوضاع المجتمع المعيش المتوجه إليه بالإصلاح، معارضا كل أشكال التضامن الواقعي التي جمع الناس بروابط غير رابط الاعتقاد الصحيح كالجنس أو القرابة أو المذهب، من هنا كان رفض السلفية للاتجاهات الكلامية والصوفية والفلسفية سنيها ومبتدعها، ووقوفها في وجه محاولات فرض المذاهب الأربعة بالقوة على الأمة.

على أن تنوع تمظهرات هذه الاتجاهات عبر التاريخ الإسلامي، جعلت مهمة السلفية، منهجا ومذهبا، مستمرة في التاريخ، أي موقفا يتطور بتطور المجتمع الإسلامي، وتنفعل بأحداثه ومذهبه، مع بقاء منهجه في الإصلاح ثابتا: الاحتكام إلى القران والسنة بفهم السلف الصالح، مع رد جميع الاجتهادات الأخرى إلى نصوص القرآن والحديث، ومن تم عدم الالتزام بها كمدونة جاهزة.

يرجع ماكسيم رودنسون ( Maxime Rodinson) نشأت هذه النزعة إلى ما يصيب الايديولوجيات الدينية من تقلص في القدرة على تعبئة المناضلين تتقلص باستمرار، بحيث يحصل نوع من البرود والفتور من وقت لآخر، وذلك بسبب اصطدام النظرية بقساوة الواقع، ولهذا السبب يجد القادة انفسهم مدعويين إلى احداث نوع من المراجعة المستمرة التي يخفونها تخت ستار الاخلاص للمبادئ الاسايسة للعقيدة وتحت ستار الاتخراط الكامل.

فعندما يصبح التفاوت كبيرا جدا بين هذا التعديل أو المراجعة وبين المنطلقات الأساسية للعقيدة، فإنه يوجد دائما بعض المؤمنين الذين ينهضون ضد هذه الخيانة، ولهذا السبب تظهر حركات العودة إلى الأصول. ففي كل عقيدة هناك دائما نصوص وجدت من اجل التأمل والتقديس. وبالموازاة، توجد في هذه النصوص مقاطع تتعارض دائما وبشكل واضح مع الممارسة، أو تتعارض مع التعديلات التي أجريت على العقيدة من خلال الممارسة، وينظر البعض إلى ذلك كخيانة للتعاليم مهما كانت مهارة المؤولين في ردم الهوة بين الممارسة و التنظير . والذي يقتصر على استلهام الشرارة الأولى للدين، بدون أن يعكس بشكل كامل وأمين كل النواميس السياسية والاجتماعية للعقيدة(7).

على أن أصوتا كثيرة تعالت عبر التاريخ الإسلامي حاملة لهذا المشروع، وبرز مصلحون متعددون على مدى حقب هذا التاريخ، كما برزت حركات اجتماعية عديدة حاولت إحداث تغيرات في الفكر والسلوك والعلاقات الاجتماعية بناء على هذه الرؤية.

كما أن هناك مجموعة التيارات المعاصرة التي يستغرق هذه الأهداف جزءا من مشاريعها الإصلاحية، لكن بدون أن تكون يتوقف عندها سقف البناء الإيديولوجي وأفق العمل الميداني الذي تتبناه عند تلك الأهداف، بل يتعدى ذلك بكثير لتمتد إلى اهتمامات أخرى، فلا تكاد الأهداف السابقة سوى نشاطا من بين مناشط أخرى أكثر أهمية في تحديد هويتها الإيديولوجية وفلسفة تنظيمها.

السلفية في المغرب: التطور التاريخي والاتجاهات الحالية
بدأ المذهب السلفي يف المغرب في الظهور منذ أمد بعيد، على يد السلاطين العلويين بالخصوص، ابتداء من السلطان المولى سليمان، مرورا بالسلطان سيدي محمد بن عبد الله، انتهاء بالسلطان مولاي الحسن الأول. وما يوضح أهمية هذه الفترة كونها تزامنت مع الفترة التي عاش فيها محمد عبد الوهاب، وهو مؤشر واضح على علمية الدعوة السلفية وقدرتها على التعبئة والانتشار آنذاك، بدليل وتجاوب الزعامات السياسية معها. تجاوبا أساسه الاقتناع بصحة ما يدعو إليه من إصلاح عقدي واجتماعي.

كما ظهر هذا المنهج في بيئة يطبعها التعدد في الممارسات العبادية، فمنها الكلامية والصوفية والطرقية.. وقد وضع تواتر هذه الممارسات وديمومتها لمدة طويلة تحديا كبيرا أمام الجهود التي بدلها رواد الدعوة السلفية من أجل تصفية العقيدة والتربية على الممارسة التعبدية الصحيحة وأوجب اختلاف طريقة الدعوة وتباين أسلوبها حسب متطلبات المكان والبيئة الاجتماعية، مما أعطى الدعوة السلفية قدرة على إدراك أثر البيئة الاجتماعية على مسلكيات الدعوة، دون أن تتخلى على رسالتها في إصلاح البلاد والعباد وفقا لتصوراتها.

ومن المعلوم أن المغرب كان منذ الفتح الإسلامي ملجأ للعديد من المذاهب الدينية والسياسية والاجتماعية التي حاولت الاستيطان به، وجعله فضاء جغرافيا منضويا في مجالها الحيوي، وللوصول إلى ضمان الاستقرار النهائي في ربوعه، كانت تروم عقد تحالفات مع مراكز القوى الداخلية، كانت أبرز جبهة سعت هذه المذاهب إلى السيطرة عليها هي مراكز التعليم الديني التي نشطت في المغرب بفعل مسؤولية التي تحملها الفاتحون لنشر الإسلام والدفاع عنه في هذا الثغر الأقصى، فكان على للدعوة السلفية أن تسعى بدورها إلى المساهمة في بعث تعليم ديني يخدم منهجها العقدي ومذهبها الاجتماعي، فكان لمجهوداتها في هذا الإطار صيت كبير بدليل النقاشات وردود الفعل التي أثيرت حول ما هدفت إليه من مخالفة ما درجت عليه أساليب التعليم التقليدية من اهتمام بفروع العلم الشرعي وبالمختصرات المتأخرة في مجال العقائد والعبادات والخالية، حسبها، من كل استدلال من الكتاب والسنة، وما سعت إلى إبرازه من مناهج نزوع العناية بالأصول الشرعية المتمثلة من قرآن وسنة بفهم السلف الصالح، بما يكفل إعادة ربط الأمة بالعقائد الصحيحة والنقية(8).

هكذا شكلت ممارسة الدعوة بواسطة التعليم الديني مصدرا لنبوغ العديد من الرموز المحلية المدافعة عن الدعوة السلفية اشتهرت بما خلفته من آثار علمية، وما كان لها مكانة اجتماعية متميزة، فكان هؤلاء الرموز بمثابة آباء مؤسسين للمذهب السلفي على المستوى المحلي، تلقوا تلقى بعضهم أساسيات المذهب في المشرق ومارسوا الدعوة على أساسه في مختلف معاهد التعليم الديني في المغرب(9)، وكانت لهم جهود معتبرة في تطوير هذا التعليم وإعادة ربطه بأصول الاعتقاد الإسلامي، مما ساهم في تكوين نخب سلفية ساهمت، في رسم مشاريع الإصلاح السياسي والاجتماعي التي ستقدم، فيما بعد، تحفيزا نظريا لحركات المقاومة ضد الاستعمار.

بعد نيل الاستقلال، كان للدعوة السلفية أن تعيد النظر في أساليب عملها وتنظيمها، تبعا للتغيرات الكبيرة التي عرفها المجتمع المغربي على جميع المستويات، ذلك أن أنماط الفعل السابقة لم تكن لتنسجم مع ما بدأ يشهده المغرب من أوراش لبناء والمجتمع على ضوء أساليب التنظيم المؤسسي الحديث، مما كان يوجب على الدعوة الانتقال من مرحلة الارتباط بالأشخاص إلى العمل داخل المؤسسات، بما يعنيه ذلك من ضرورة تحقيق قفزة على المستوى الدعوي بتوحيد العاملين يف حقل الدعوة، والقطع مع أسلوب الدعوة المبعثرة التي يعمل فيها كل فريق على حدة، واكتساب مهارات جديدة لتقديم الإسلام في حلل جديدة، تناسب التصورات والذهنيات المعاصرة.

لكن تزامن مسعى تحديث مناهج الدعوة وضبط طرق عملها، مع قيام دعوات أخرى تستند إلى الإسلام في تبرير مشاريعها التغييرية أو الإصلاحية، كان ذلك مدخلا في تعدد الأفهام واختلاف التصورات والرؤى عند الفاعلين السلفيين...، ليس فقط بالنسبة إلى هوية التغيير وممكناته ومداخله، بل امتد ليشمل مسألة توظيف التراث الإسلامي ودوره في هذه المهمة، مما يعني الاشتغال على ما يشكل عصب الدعوة السلفية ومقومها الأساسي.

دفع هذا الهاجس بالدعوة إلى بدل المزيد من الجهود بالتعريف بنفسها وبأصالتها بالمقارنة مع مختلف الاتجاهات المقابلة، فكانت مضطرة، إلى وضع الفواصل وتعميقها، حتى يتميز حقيقة السلفية كمنهج عن جميع الدعاوى المستندة على المرجعية الإسلامية، على حساب المساهمة في إصلاح حال هذه الدعوة في عمومها، واقعها وإشكالياتها، في محاولة استشراف مستقبلها، والعمل بشكل جدي وملخص لعلاجها يعتريها من سلبيات وتصويب ما يحدث فيها من أخطاء مع ما يتطلبه ذلك من تسلح بالرؤية النقدية والفاحصة تجاه أساليب العمل والتنظيم والحركة وأنماط الفعل.

لقد تسبب اختلاف الفاعلين في حقل الدعوة السلفية حول مغزى مهمة التميز والاستفراد بالدين، إلى تفاوت في تقدير هذه المهمة التاريخية، إنها إشكالية التفاعل مع البيئة المجتمعية تعود لطرح نفسها من جديد على السلفية كمذهب يروم الإصلاح الاجتماعي، بحيث يمكن القول أن تفاوت تفاعل الحركات السلفية مع الواقع المغربي ثم بإكراهات الواقع العالمي، أفرز تطور الظاهرة في ثلاث اتجاهات متباينة:

• اتجاه تنطبق عليه محددات الطائفة بالمعنى السوسيولوجي، من حيث قلة تأثره بالسياقات المحلية، وارتباطه بمرجعيات مغلقة وحصرية.

• اتجاه تطور نحو منحنيات راديكالية، ذي رؤية معيارية للواقع الاجتماعي ونظرة عدائية له، مع حرصه على توجيه عدائه حتى للطوائف السلفية من النمط الأول التي اكتفت بالاشتغال في نطاقات ضيقة بصفة غير رسمية.

• اتجاهات أصبحت تتخلى عن طابعها الطائفي من خلال تفاعلها القوي مع السياق المحلي، بحيث تبنت أسلوبا للدعوة أساسها المطالبة بمجال مستقل داخل المجال الديني، والانطلاق منه لممارسة الدعوة مع ما يعنيه ذلك من التزام بالمحددات الرسمية لهذا المجال.

تلك إذن بعض المعطيات الموضوعية التي تبرر الاهتمام بالسلفية داخل المغرب فكرا وحركة، وإذا كان من الممكن انسحاب بعض هذه الخصائص على حركات أخرى منتشرة في أقطاع عربية وإسلامية أخرى، خصوصا من حيث المبادئ الأساسية المؤطرة للفكر والموجهة للعمل، فإن فهم منطق اشتغال الحركة السلفية في المغرب، وبيان مساراتها وأوجه تفاعلها مع واقعها لا يتأتى إلا بتتبع الناطقين باسمها ومناحي فكرهم ودراسة تنظيماتهم وأنماط سلطاتهم وشبكاتهم الاجتماعية ،كل ذلك على المستوى القطري أساسا، آنذاك فقط يمكن اكتشاف خصوصية كل تيار من التيارات السلفية العاملة داخل المغرب، خصوصية يرفضها مسار هذا القطر التاريخي وبنائه الاجتماعي، وذلك رغم ادعاء الإيديولوجيا السلفية التعالي عن معطيات الزمان والمكان واحتكارها التعبير الصحيح عن عقيدة الإسلام.
_______________
مركز البحث في العلوم الاجتماعية المغرب
هوامش:

1- سيد الدين الأطاسي، صعوبات تحديد الدين. في: ابعاد الدين الاجتماعية، مشترك، تحت إشراف: عبد الوهاب بوحديبة ، بيروت، الدار العربية للكتاب، 1985 ، ص 26.

2- صلاح الدين الجورشي،التأثيرات السلفية في التيارات الاسلامية المعاصرة. في : اشكاليات الفكر الاسلامي المعاصر، مشترك ، مالطا، الطبعة الاولى، 1991.

3- للاستزادة راجع: لاووست هنري، أصول الاسلام ونظمه في السياسة الاجتماع عند شيخ الاسلام ابن تيمية. ترجمة محمد عبد العظيم علي، دار الدعوة، بدون تاريخ، ص 105-137.

4- محمد جابر الانصاري، الفكر العربي وصراع الاضداد. بيروتن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999، ص 25.

5- Charny Jean Paul, Sociologie religieuse de l Islam.Paris, Sinbad, pp 154-155

6- لاووست هنري: أصول الإسلام..م.س، ص 163.

7- ماكسيم رودنسون، ظاهرة التزمت الإسلامية والمحافظة محاولة إيضاح. ترجمو هاشم صالح، الفكر العربي المعاصر، 1984، عدد 22. ص29-39.

8- من اهم ما خلفه الثرات كدليل على المجهودات السلفية الخاصة باصلاح التعليم الديني كتب اللسطان محمد بن عبد الله العلوي المسمى: مواهب المنان بما يتاكد على المعلمين تعليمه للصبيان، مطبوعات وزارة الاوقتاف والشؤون الاسلامية، 1996.

9- نذكر ما على الخصوص محمد بن العربي العلوي ، وشعيب الدكالي.

د. عبد الحكيم أبواللوز

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...