الصراع على الشام

20-09-2006

الصراع على الشام

يحمل كتاب الصراع على الشام في عصر الايوبيين والمماليك الصادر عن بيسان للنشر والتوزيع، الرقم العشرين في سلسلة مؤلفات المؤرخ د. ابراهيم بيضون. هذه المؤلفات تتناول التاريخ العربي والاسلامي في العصر الوسيط، منها اربعة مؤلفات متخصصة في تاريخ بلاد الشام، علما بأن البقية تتناوله بشكل او آخر باعتبارها تتعلق بالتاريخ الاسلامي في العصرين الاموي والعباسي، ولا شك في ان الشام كان دورها محوريا في الاول، وثانويا في الثاني.
إذاً يشكل الكتاب الذي صدرت طبعته الاولى في نيسان الماضي حلقة في سياق، لكن اهميته لا تنبع من هذا الدأب على متابعة التاريخ العربي والاسلامي او مفاصل منه، بل لأنه يتناول مرحلة من أخطر المراحل التي عصفت بتاريخ بلاد الشام، وهي التي شهدت تضافر خطرين معا، ما هدد ليس فقط البنى السياسية مهما كانت مسمياتها، بل الحضارة العربية والاسلامية برمتها. اول هذين الخطرين كان الخطر الصليبي الذي مثلته الحملات المتلاحقة على المنطقة تحت شعار الحرب المقدسة ، وضخت اوروبا في سبيل تحقيقها لاهدافها المزيد من القوى البشرية والمادية على امتداد اكثر من قرنين. اما الثاني منهما فكان الخطر المغولي الزاحف من الشرق مكتسحا كل من يعترض سبيله من قوى مدمرا كل اشكال التراكم الحضاري التي صادفها في طريقه. لكن الخطرين وان اختلفا في مصدر كل منهما إلا انهما تساوقا في الفترة التاريخية موضوع البحث، وتغذيا من عوامل التفكك التي عرفتها المنطقة بدءا من رأس الهرم ممثلا بالخلافة العباسية مرورا بالدويلات التي نشأت تباعا سواء كانت اتابكية او مملوكية او غيرهما، وان كانت هذه رغم ما تعانيه ظلت تملك نبضا فعليا بدليل قدرتها على الممانعة وخوض الحروب وتسجيل الانتصارات، التي وان كانت في المحصلة قد نجحت في وقف الهجمتين، الا انها في نهاية المطاف لم تتمكن من اطلاق بيئة عصية على الاطماع ومحاولات الاحتلال.
ما أشبه اليوم بالبارحة على أي حال. فالمؤكد ان الغزو المغولي وهو يمثل موجة الاكتساح الأقوى على اي حال، لو قدر له الانتصار في معركة عين جالوت لكان غير وجه المنطقة السياسي والحضاري الى مئات السنوات، من هنا يمكن القول ان هذه المعركة رغم ما شهدته من وقائع ميدانية الا ان انجازها الحقيقي أعمق غورا من مجرد الانتصار العسكري، خصوصا ان بلاد الشام في حينه، وتحت تأثير الحملات الصليبية المتلاحقة، كانت قد بلغت حدا من الانهاك الذي يجعل منها عاجزة عن اعاقة الاكتساح عن التقدم نحو مصر بعد احتلال واستباحة العاصمة العباسية والقضاء على آخر ما تبقى من رموز الخلافة. إذاً، واجهت هذه الموجة المغولية حال استنهاض، لعب فيها القائد المملوكي قطز دوره، كما لعب رجال الدين ادوارهم، عندما افتى الإمام السنجاوي انه اذا طرق العدو البلاد وجب على العالم الشعب بلغة اليوم كلهم قتالهم . اذاً، لم يعد القتال فرض كفاية اذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر، بل بات فرض عين. يتوجب على كل فرد القيام به.
لا شك في ان المنطقة العربية الاسلامية في بلاد الشام ومحيطها الأوسع كانت مخلّعة الابواب امام اي غزو خارجي، وهو وضع كان نتيجة طبيعية للوضع الذي آلت اليه الخلافة العباسية. لكنه ليس بأي حال من الأحوال، ابن وقته بل يرتبط بمسارات هذه السلطة منذ بروز تغلب السلاطين على الخلفاء، ثم تحول ذلك كله الى دويلات تتصارع في ما بينها اولا على مراكز النفوذ، من دون ان يكون الخطر الخارجي في حساب اولوياتها. بل العديد منها عملت على نسج علاقات التحالف مع هذه القوى الخارجية او تلك بهدف ضمان استمرارها، وبعد ان اختبرت كلفة الصراع. اذاً، لم تكن هناك قوى على مستوى التحديات المطروحة، سواء كانت بيزنطية او صليبية، او مغولية. يصح هذا اكثر ما يصح على الدولة السلجوقية والاتابكية. ومثل هذا الوضع سيمكن الغزو الصليبي ليس فقط من ايجاد مواطئ قدم، بل ممالك تجاوزت السواحل الى الدواخل العربية والاسلامية وبلغت سيطرتها القدس، مع ما في هذا الامر من دلالات عميقة. يتبين من كتاب بيضون ان أمام هذا الطوفان من التحديات، سواء كان مصدرها شرقيا او غربيا، هناك حال من المقاومة والممانعة تبرز. يصح ذلك على المستوى السياسي الفوقي كما هو فعلي على المستوى الشعبي. رغم كل التوصيف الذي يمكن ان يطلق على هذه الدويلات التي برزت هنا وهناك تعبيرا عن فقدان المنطقة لنقاط الارتكاز الحقيقية، كانت تبرز في مواجهة هذا الطوفان الاستعماري تشكيلات شعبية مقاومة للاحتلال الصليبي، تارة تحمل اسم المتطوعة وطورا تحمل اسم الاحداث ، هذا الى جانب انضواء العديد من القبائل العربية في مجرى الصراع، ولا ننسى اولئك الذين هرعوا من دول المغرب العربي للدفاع عن قبلة المسلمين الاولى وثالث الحرمين في القدس. إذاً، كان الموقف الشعبي صراعيا متكاملا مع الموقف السياسي العام الذي مثله الايوبيون والمماليك. وعليه يمكن القول ان انتصار حطين كما عين جالوت، كلاهما كان ذا دلالة على قدرة المنطقة على ممارسة سياسة رد التحدي ودحر الهجمة. فكما كسرت هذه الاندفاعة فعلت تلك. والدراسة بالأساس تتناول المنطقة العربية بين صحوتين، الاولى منهما زنكية ايوبية امتد خطها الصراعي من الرها وحتى حطين. والثانية مملوكية انطلقت من عين جالوت لتكسر الغزو المغولي ثم تتابع مسارها الصراعي في اقتلاع آخر الحصون الصليبية من ارض بلاد الشام. هذه الفترة عبارة عن خط بياني من المعارك التي تركت بصماتها على المنطقة حتى اللحظة. يبقى القول ان بيضون في عمله الجديد وان كان يتابع عملية الحفر التي بدأها في اعماله السابقة، الا ان أهمية العمل الأخير اليوم تتجاوز التأريخ بالمفهوم العام، الى محاولة ملامسة الواقع كما نعيشه اليوم. فالمؤكد ان احتلال العراق من جانب قوى التحالف الاميركي البريطاني وما أصاب فلسطين على يد المشروع الاستيطاني الصهيوني، فضلا عن حال التفكك، تجعل التاريخ كأنه يعيد نفسه، ويظل الاساس هو البحث عن هذه الصحوة والممانعة وشروطها وقواها وامكاناتها ومشروعها في تحصين هذه المنطقة، سواء كانت بلاد الشام او العراق او مصر.

زهير هواري

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...