محمد شكري لم يكن أمياً كما أدعى

20-09-2006

محمد شكري لم يكن أمياً كما أدعى

محمد شكري يضرب من جديد! يبدو أن الأسطورة التي شيدها الكاتب المغربي الراحل لنفسه، خلال مسيرته الأدبية الصاخبة... بدأت تتزعزع، ويُعمل بعضهم فيها معاول الهدم. ونتصوّره يضحك ضحكته المعهودة من الآخرة، بمزيج من العبث والاحتجاج: هل نحن أمة تستكثر على نفسها الأساطير؟ لماذا ينبري لتحطيم أساطيرنا الأدبية أولئك الذين ساهموا ذات يوم في صنعها؟
حسن العشاب ليس مجرد صديق قديم لصاحب “الخبز الحافي”، بل معلمه الأول. وشكري لم يكن قط ناكراً للجميل. فقد كان يحكي دائماً ــ سواء في حواراته أو حتى في رواياته ــ عن هذا الرجل الذي غيّر مجرى حياته. كان لقاؤهما في أحد مقاهي الصيادين في طنجة نقطة تحول حقيقية في حياة ذلك الطفل المشرد الذي كان يبيع السجائر المهربة لتدبير لقمة العيش. أما حسن العشاب فظل يعمل حتى تقاعده أستاذاً في إحدى ثانويات مدينة أصيلة عازفاً عن الأضواء. وحتى عندما نودِيَ عليه ليصعد إلى المنصة لحظة تكريم صاحب “زمن الأخطاء” (1992) في أصيلة، لم يصعد. كان الرجل حريصاً بطبعه على تحاشي الأضواء.
لكن ها هو العشاب يخرج اليوم من سباته الطويل، ليمطر بتصريحاته الصحافة المغربية. يقول العشاب: “لقد تعلم شكري القراءة والكتابة في سن الحادية عشرة. وما كان يروجه من أنه ظل أمياً حتى سن العشرين، كان من أجل إثارة الانتباه فقط. وعندما كنت أثير معه هذا الموضوع، كان يجيبني بأن 60 في المئة من الكتب التي تتناول حياة أصحابها تعتمد المبالغة وبعض الكذب من أجل التشويق”.
ويعود العشاب بذاكرته إلى الوراء، وبالضبط إلى أربعينيات القرن الماضي، أيام “طنجة الدولية”: “بعد العودة من المدرسة، كنت أجلس في أوقات فراغي في مقهى شعبي للصيادين تطل نوافذه على الميناء وتحمل اسم صاحبها “موح”. كان موح صاحب المقهى وطنياً كبيراً، وكان مدمناً اقتناء الصحف. أما دوري أنا فقد كان فريداً من نوعه. موح يهيئ للصيادين مجلسهم في المقهى لأقرأ أنا الأخبار اليومية وأشرح لهم مضامينها بحماسة”. ويتابع العشاب: “كنت ألاحظ بين الصيادين طفلاً صغيراً لا يتجاوز عمره 11 سنة ينظر إلي بإعجاب. كانت تربطه بالمقهى تجارة السجائر الأميركية التي يبتاعها من السوق السوداء في الميناء ليبيعها بالتقسيط في المقهى. صارحني الطفل محمد حدو التمتماني (اسم محمد شكري الحقيقي) برغبته في تعلم القراءة والكتابة. وهكذا أخذت في تعليمه الحروف الهجائية وبعض السور القرآنية والأحاديث. ولقد استمر تعليمي إياه سنتين في طنجة، ثم واصلتُ تعليمه خلال العطل حينما انتقلت إلى مدينة العرائش”.
طبعاً حسن العشاب هو الذي سيتوسط لشكري فيما بعد لدى مدير مدرسة في العرائش عام 1955 ليسجله في مدرسته مباشرة في الصف الخامس الابتدائي رغم سنه المتقدمة. ومع ذلك يبدو أن “المعلم الأول” لم يقتنع قط بنبوغ تلميذه: “وجد محمد حدو التمتماني صعوبة كبيرة في التأقلم مع التعليم الرسمي. ورغم أننا كنا نشجعه ونساعده بالدروس الإضافية، فقد ظل مستواه متواضعاً. لذلك حينما تخرج من المعهد الثانوي بعد ثلاث سنوات وأصبح معلماً، لم يسمحوا له بالتدريس لأنه لا يجيد اللغة العربية، وكانت كتاباته ملأى بالهفوات والأخطاء اللغوية والإملائية”.
ومع ذلك فقد ظل العشاب “مسانداً” لشكري الى أن دهمته غواية الكتابة. يقول: "في العرائش، كان شكري يطلعني على بعض كتاباته التي أراد أن يؤلف منها كتاباً، شجعته على ذلك. لكنه علّق بسخرية: “كيف لي أن أنشر كتاباً وأنا أعيش فقط بالخبز الحافي؟”. فأجبته بأن “الخبز الحافي” الذي تحكي عنه الآن يجب أن يكون عنوان هذا الكتاب”. هكذا اختار العشاب لتلميذه الطموح عنوان كتابه الأول الذائع الصيت. أما لقب شكري فقد اختاره صاحب “غواية الشحرور الأبيض” بنفسه: "عند التحاق محمد حدو التمتماني في المعهد الثانوي في العرائش، كان شغوفاً بحصص أستاذ الرياضيات عبد العزيز شكري، وببراعته في شرح النظريات الهندسية والجبرية، وهذا ما جعله يتبنى اسمه”.
لكن في النهاية يبقى من الصعب إقناع حسن العشاب بأن تلميذه القديم محمد حدو التمتماني صار كاتباً عالمياً: "شكري لم يكتب أي شيء من “الخبز الحافي”. صحيح أنه كان بارعاً في السرد، وكان ذا ذكاء قوي، لكنه كان أمياً حقيقياً من ناحية النحو والصرف. ولم يكن يحسن التعبير السليم”. هكذا يُقوّم مدرس اللغة العربية المتقاعد تلميذه القديم الذي صار اليوم أحد رموز الأدب العربي رغم أنف الصرف والإملاء وقواعد النحو. أما تشكيكه في أن يكون شكري فعلاً هو كاتب “الخبز الحافي” ( 1972) فتلك قصة أخرى... والكل يتوقع دخول الروائي والناقد المغربي محمد برادة على الخط لكونه أهم المتابعين لمسيرة شكري منذ البدايات، والوحيد الذي يمكنه اليوم إنصاف صاحب “زمن الأخطاء”!

ياسين عدنان

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...