اغتيال سياسي على الطريقة اللبنانية

21-09-2006

اغتيال سياسي على الطريقة اللبنانية

شنّ وزير الداخلية بالوكالة أحمد فتفت، المسؤول السياسي عن «إهانة مرجعيون»، هجوماً عنيفاً على «الأخبار». اتهمها، مع آخرين، بـ«محاولة إحداث انقلاب» وبـ«خلق فتنة أمنية وطائفية» وبنشر «أخبار ملفّقة ومثيرة»... منتهياً إلى الحديث عن نفسه بلغة الغائب، كما يفعل فنانو الدرجة الرابعة، ناسباً أي كلام يتناوله إلى «محاولة اغتيال سياسي لأحمد فتفت».
هذه مناسبة، ربما، لتوضيح الموقف من سياسات فتفت بصفته برغياً صغيراً في آلة سياسية لبنانية يصعب السكوت عما تقوم به.
يمكن البدء بتذكير الوزير، ومن وراءه، بالأهداف التي حددتها إسرائيل لحربها على لبنان: تنفيذ القرار 1559، إبعاد المقاومة عن الحدود، إيجاد ميزان قوى جديد، تحقيق الشروط التي حددها المجتمع الدولي، إلخ... هل يستطيع فتفت، الذي ملأ الشاشات أمس بتواطؤ وضيع من بعض الزملاء، أن يستعيد هذه الأهداف ليقول لمواطنيه أين يلتقي معها وأين يختلف؟ نحن نزعم أن هامش اللقاء واسع وذلك برغم البلاغة والرطانة. ولعل الوزير يكون أكثر جرأة ونبلاً وجدارة بتعاطي الشأن العام لو أنه يصرّح بأن ما يسعى إليه في لبنان يتقاطع مع ما حاولت إسرائيل إنجازه، ولكن هذا التقاطع ظرفي ولا يدين أحداً هنا. سيكون ذلك أجدى من اختبائه، ومن معه، وراء إصبع. وسيكون ممكناً، في هذه الحالة، الإثبات له أن آخرين غيره، ممّن أدانهم التاريخ، وجدوا ذرائع أشد فعالية لتبرير سياساتهم، ومع ذلك...
نحن نزعم أن فتفت ينتمي إلى هذه الفئة من اللبنانيين التي وجدت نفسها في موقع حرج للغاية لم تكن تتصور يوماً أنها ستجد نفسها فيه: موقع تمني الانتصار السهل والسريع والنظيف للعدوان الإسرائيلي. هذا التقدير خطير طبعاً. وربما يشفع للوزير فتفت أنه تسبب لنفسه وأخلاقه ووجدانه بأذى كبير لأنه اكتشف هذه الرغبة في نفسه، ولكن ذلك لا يغير في الأمر شيئاً.
ليس في الأمر ما يسرّ أو يطمئن. لا بل أكثر. يمكن للحسرة أن تجتاح من يشهد تمزق مواطن تردّد بين الخيارات وفضّل أسوأها. إلّا أن ما نعيشه في لبنان، ما عشناه وقد نعيشه، لا يترك مجالاً للتعاطي بخفة مع هذه الأمور. نحن مواطنون واثقون من أنه باتت لإسرائيل حصة في سياسة هذه الأكثرية الحاكمة. حصة تُمنح باسم الخوف، أو العجز، أو الواقعية، أو الطمع في السلطة، إلخ... وتمنح، بعذاب ضمير أقل، عبر الدفع نحو صيغة من صيغ التدويل، أو عبر الارتباط الذيلي بالولايات المتحدة التي يصعب اليوم، إلى حد الاستحالة، تمييزها عن العدو الإسرائيلي.
ليس في ما تقدم أي تخوين. الوضع أخطر من ذلك. إن ما تقدم هو تحليل بارد جداً للمشهد السياسي اللبناني في ارتباطاته الإقليمية والدولية كما كان جزئياً، قبل الحرب، وكما رسا عليه بعدها.
نزعم أن لإسرائيل حصة في لبنان، ونزيد أن إسرائيل نفسها تعتبر هذه الحصة ناقصة. تريد المزيد. وما تريده تعلنه كل يوم. نقرأ عنه ثم نتابع ما يجري في بلدنا فنصاب بقلق. إن هناك، بين المسؤولين عنّا، من يريد «استكمال» هذه الحصة الإسرائيلية تحت مسميات مختلفة وبرّاقة. ومن تابع خطاب جورج بوش أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يدرك تماماً المقصود: إن المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي في لبنان هو نهوض الدولة فوق أنقاض المقاومة. أي، عملياً، تحويل الدولة إلى أنقاض. هنا، أيضاً، نطالب فتفت، وغيره، بالتجرؤ على الرد المباشر على خطاب جورج بوش. ليس الرد اللفظي فحسب بل الرد العملي الذي يحدد جدول الأعمال الأميركي المقترح للبنان بنداً بنداً ويحدد، بالتالي، كيفية التعاطي مع هذه البنود وكيفية تمييز هذا التعاطي عمّا تريده إسرائيل.
توجّه واشنطن وتل أبيب دعوة مفتوحة إلى السلطة اللبنانية لاستكمال انقلاب بدأ منذ فترة ويقضي بإعادة التموضع على الصعيدين الإقليمي والدولي وبإعادة صياغة العلاقات السياسية الداخلية حماية لهذا التموضع الجديد. ويعني ذلك، عملياً، أن الممنوع ليس قيام حكومة اتحاد وطني فحسب بل الممنوع استمرار هذا الحد الأدنى من الممانعة ضمن الحكومة الحالية!
عندما نذكر أن فتفت برغي في هذه الآلة لا نكون نقصد الإهانة. إنه مُطالَب بأن ينفّذ، حيث هو، وضمن صلاحياته، انقلاباً يتساوق مع الانقلاب الكبير ويخدمه ويصونه. إن الإقدام على إحداث «انقلاب أمني» هو جزء من قيام الوزير فتفت بواجباته السياسية في ظل الشروط الراهنة لعمل الحكومة وبعد إقدامها على إسقاط البيان الوزاري.
لن نسقط في فخ الكلام عن «نظام أمني جديد». إن المقصود هو إقامة أمن يكون في خدمة النظام الجديد أو، بالأحرى، النظام الناشئ.
ولا يمكن النظر إلى هذا النظام الناشئ بمعزل عن التدويل الزاحف الذي يتعرض له لبنان. إنه تدويل تقوم به الأساطيل، والقوات البرية. والحراس على الحدود، والفنّيون في المعابر والمطار والمرافئ... إنه تدويل تقوم به المهمات المنسوبة إلى هؤلاء الوافدين خلافاً لقرار مجلس الأمن 1701. أسوأ هذه المهمات ما عبرت عنه زلة لسان أنجيلا ميركل (حماية وجود إسرائيل!) وربما أفضلها ما ذكرته إليو ماري من أن القوات ستدافع عن نفسها (هل جاءت من فرنسا لكي تدافع عن نفسها في بلدات الجنوب) مضيفة إلى ذلك حملة ترويجية لدبابات لوكلير بعد أن مر على لبنان «قطوع» الميركافا!
إن المشروع السياسي الذي يحدد ملامحه أركان في الأكثرية الحاكمة هو مشروع لا يجد أي تناقض جوهري بين تعريف هؤلاء للمصلحة الوطنية، وتعريف إسرائيل لمصالحها في لبنان، وتعريف الولايات المتحدة لمصالحها الإقليمية. وينهض هذا المشروع على فرضية تقول إن الغلاف الدولي المحيط بلبنان لا يستقيم إلّا مع إعادة هيكلة للتوازن اللبناني الداخلي وإنه من غير الجائز تفويت الفرصة لأن الأساطيل، مثل النِّعَم، قد لا تدوم.
إن «المسألة الأمنية» بتشعباتها هي نقطة التقاء محورية بين «الخارجي» و«الداخلي»، ويمكن لكل ذي عين أن يرى أن التدويل بات يفوق الاستعداد اللبناني لاستقباله بالشروط التي يحددها له بوش وميركل وبلير وأولمرت (كل تناس لشيراك مقصود). لذا فالمهمة العاجلة هي «الارتقاء» بالوضع اللبناني، بوضع المؤسسات الأمنية، إلى المستوى الذي تطلبه الجهات الدولية. لا بد من الإسراع. لا بد منه حتى لو كان تسرّعاً.
هذه هي المهمة التي أوكلت إلى أحمد فتفت. هكذا شاء له حظه العاثر في رأينا، والسعيد، ربما، في رأيه. ولأنه في هذا الموقع بالضبط، ولأن هناك من يريد الإضاءة على ما يقوم به، فإنه يستشعر «محاولة اغتيال سياسي». كلا معالي الوزير. لستَ أنت المقصود. إن المقصود بـ«الاغتيال السياسي» هو الحصة الإسرائيلية في نهج السلطة اللبنانية. هذا هو فعل «المقاومة السياسية» الجدي. إنه واجب وطني، وبما أننا جريدة فإنه واجب مهني.

جوزف سماحة

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...