سعاد جروس تكتب عن "نعمة الجهل"

24-09-2006

سعاد جروس تكتب عن "نعمة الجهل"

الجمل: قبل مغادرة بلدتي في محافظة حمص الى دمشق لمتابعة الدراسة الجامعية, كنت اعتقد كباقي أترابي أن الناس فريقان, إما مسلمون أو مسيحيون, يستدل عليهم من الأسماء, ومن حجاب النساء, والفريقان يذهبان إلى أبنية متجاورة, الجامع أو الكنيسة. في الجامعة, اكتشفت أن ليس كل الإسلام سنة, وليس كل المسيحيين كاثوليك, كما اكتشفت أن البوذية والوثنية أديان لا تزال حية ترزق, بل وصادف أنني تشاركت السكن مع آسيويات ينتمين لهذه الديانات, كما عرفت أن ليس كل أوروبا علمانية, فقد كان لنا صديقات أوروبيات متزمتات دينياً بمعنى أصوليات لا يقطعن فرضاً ولا سنة, إذا جاز التعبير. صدمة تدريجية حطمت أفكار مسبقة أنتجها مجتمع صغير مغلق لحماية نفسه, قدم لي عالماً يتقاسمه طرفان يحرصان على ألا يختلفان كي لا يتباعدان ويتفرقان, ينعمان الواحد بحالة جهل الآخر ضمن عقد تعايش اجتماعي يستند إلى الانتفاع المشترك, قوامه تبادل الصمت مع المجاملة, يعبر عنه حوار أخوان قال أحدهما لصاحبه: «والله يا أخي أني لأحبك في الله تعالى». فرد الآخر: «لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله». فقال الأول: «والله يا أخي لو علمت منك ما تعلمه من نفسك, لمنعني من بغضك ما اعلم من نفسي». الخروج من البيئة المغلقة وما تبعه من اكتشاف لآخرين مختلفين ربما شكلاً فقط, لا يختلف كثيراً عن الخروج الجماهيري لمجتمعاتنا من عصر الانغلاق والعزلة الإعلامية, الى عصر الانفتاح الفضائي المعولم, ألغى المسافات الجغرافية, ووضع الجميع €نحن والآخرون€ أمام حقيقة تقاسمنا للقرية الكونية, وضرورة وجود عقد يضمن حق الانتفاع للجميع. وهنا مكمن المشكلة, فالذي قدم حضارة التواصل وامتلك ناصية العلم والمعرفة, لا يقبل بأقل من الرياسة على هذه القرية, والانتفاع أيضاً من رياسته معتمداً الغزو بأشكاله كافة, أما الطرف الذي استخدم وسائل الاتصال دون مقابل, فلم يتنازل عن حلمه باستنهاض حضارته واستغلال ثرواته, وحقه أيضاً في مقاومة أي غزو مهما كان خيراً أو شراً, مما وضع العالم في تنافس بين الغزو والممانعة. في معمعة هذا التنافس الشرس حروب كثيرة ستنشب وقودها, تتجلى بانفتاح وانغلاق يلغي أحدهما الآخر؛ انفتاح يفرضه الاندماج الحضاري, وانغلاق يستدعيه تهديد غزو الآخر, في عملية تقاسم كوني جديد, يكون فيه السؤال عن هوية الـ «أنا» قبل هوية «الآخر» شرطاً لمعرفة عن ماذا ندافع, و بماذا ننافس وعلى ماذا نتنافس؟ إن المأزق الكبير الذي تمر به مجتمعاتنا جراء تراجع التيارات الفكرية وغياب الحياة السياسية, والمؤسسات المدنية, والتجفاف الثقافي, يكمن في التخندق الطائفي الذي يتم لملء الفراغ الفكري, في مواجهة سياسات دولية, للأسف أنها تستفيد من هذه الحالة لتفكيك الجغرافيا السياسية في المناطق الرخوة من العالم. وقد يبدو الجهل بميزات الأنا الطائفية نعمة تجنبنا اختراع «هوية» تعتمد أفكاراً مسبقة أنتجتها غريزة حماية الطائفة من خطر الاندماج والزوال, فتحفظ كل طائفة سلبيات الأخرى وهي عادة سلبيات اجتماعية لا دينية, تورثها للأجيال المتعاقبة, كأنها جزء من العقيدة الإيمانية, وركن اساسي في تشكيل الهوية, تتحول مع الزمن إلى قنابل كامنة وموقوتة, بانتظار انتزاع مسمار الأمان بين لحظة وأخرى, وغالباً تأتي لحظة انفجارها مدروسة بعناية ومتوافقة مع مصالح الفرقاء الدوليين, ومثال ذلك تداعيات تصريحات بابا الفاتيكان التي أثارت استياء المسلمين وقلق المسيحيين في الشرق, فالذين تضرروا من انتصار المقاومة اللبنانية, بدءاً من الأنظمة العربية التي أيدت الحرب, مروراً بالحلفاء الأوروبيين وحتى أميركا, جميعهم افادوا من تصريحات البابا, فحالة الترفع على الطائفة والتوحد تحت علم الله الواحد في مواجهة إسرائيل والمشروع الأميركي, الى جانب السخط على مساندي الحرب من الحكام, كانت بحاجة الى حدث مثل تصريحات البابا ليتم حرف مسار الاحتقان, وتفريغه في اتجاه آخر, وإلا ما سر اجتزاء فقرة صغيرة من محاضرة لاهوتية فلسفية يصعب فهمها قبل ترجمتها, وتعميم هذا المقطع على وسائل إعلام راحت تردح وترندح وتستجر ردود الأفعال ­ حتى قبل ارتداد صدى صوت البابا الى أذنه!!­ في حرب إعلامية مفتعلة من أولها إلى آخرها, أبعد أهدافها تنفيس احتقان الشارع الإسلامي, كما جرى حيال الرسوم الدانمركية المسيئة للإسلام, فبعد أسابيع من الغضب العارم وحرق السفارات ومقاطعة البضائع, عاد كل شيء كما كان وعادت «لورباك» إلى موائدنا مظفرة!! ما يجري في شوارعنا رداً على الإساءات ليس دفاعاً عن الهوية, بقدر ما هو بحث عنها, بعدما ضيعتها السياسات المحلية الغشيمة, والمخططات الدولية الغاشمة. «أنا» تبحث عن ميزاتها واختلافها وعن أسباب استنهاضها, فلا تجني سوى الدوران في دهليز يغور بها عميقاً في لجة انقسامات تعبث بها السياسة, ويكرسها وهم حماية الهوية. كذلك العصفور الذي أزهق روحه أولاد أرادوا التسلية به, ولما مات فعساً بين أصابعهم, شعروا بالندم وقرروا تشييعه في جنازة لائقة ودفنه بعد الصلاة عليه, لكنهم احتاروا أي صلاة يصلون, وراحوا يستفسرون من الأكبر سناً عن دين هذا العصفور.

 

 الجمل :سعاد جروس

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...