الأكوان الممكنة وتفسيرها الفلسفي

25-09-2006

الأكوان الممكنة وتفسيرها الفلسفي

يُقدِّم العالم الفيزيائي كاكو Kaku في كتابه الجديد الأكوان المتوازية أطروحة مفادها أنه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة. نشرح هنا هذه النظرية ونعرض للتفاصيل العلمية الأساسية التي تؤدي إليها. فالمعرفة كامنة في التفاصيل وليس الشيطالغلافان من يكمن لنا فيها؛ بالفعل لقد مات الشيطان.
يؤكد الفيزيائي كاكو أن نظرية الأوتار تؤدي إلى وجود أكوان ممكنة مختلفة وعديدة. بالنسبة إلى نظرية الأوتار، كل شيء في الكون يتكوّن من أوتار وتذبذباتها؛ فمع اختلاف أنغام الأوتار تختلف الجسيمات. فالذرات تتكوّن من جسيمات، والجسيمات (كالإلكترون والفوتون) تتكوّن من أوتار. باختصار، العالَم سمفونية أوتار. لكن نظرية الأوتار تستلزم وجود أبعاد عدة، بالإضافة إلى الأبعاد المكانية الثلاثة والبُعد الزماني. وفي هذه الأبعاد الإضافية تتذبذب الأوتار فتؤدي إلى نشوء القوى المختلفة الحاكمة للكون. هذه الأبعاد تلتفّ حول نفسها بحيث لا نراها في عالمنا. وبما أن الكون يحتوي على هذه الأبعاد المختلفة بهندساتها العديدة والمتنوعة، وعلماً بأن قوانين الطبيعة تعتمد على هندسة الطبيعة، إذن من المتوقع أن تُشكِّل هذه الأبعاد العديدة أكواناً مختلفة في قوانينها وحقائقها. هكذا تؤدي نظرية الأوتار إلى نتيجة أنه توجد أكوان عديدة ومختلفة (ص 200 ,199 ,19). بالإضافة إلى ذلك، يشير كاكو إلى حقيقة أنه تم اكتشاف بلايين من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار. وكل حلّ من هذه الحلول يصف كوناً متناسقاً رياضياً ومختلفاً عن الأكوان الأخرى التي تصفها الحلول الأخرى لنظرية الأوتار. هكذا تدلّ نظرية الأوتار على وجود أكوان عدة (ص 240 ,208 ,207).
من جهة أخرى، بالنسبة إلى النظرية الكوزمولوجية المعتمدة حالياً، نشأ الكون من خلال التقلبات الكمية القائمة في العدم. لكن بما أن العدم يمتدّ إلى مساحات شاسعة، فإنه من الممكن علمياً نشوء أكوان عديدة في أمكنة مختلفة من العدم. تضيف هذه النظرية أنه بعد أن نشأ عالمنا تعرّض إلى تضخم هائل، ولذا يبدو العالم مسطحاً ومتجانساً. وبما أن الكون قد مرّ بمرحلة تضخم في بدايات تكوّنه، إذن من الممكن أن الآلية ذاتها التي أدّت إلى تضخمه ما زالت تعمل، ما يؤدي إلى نتيجة أن عالمنا بالذات قد تضخّم في مراحل مختلفة. وهذا التضخم المتوقع للكون في مراحل مختلفة يتضمن إمكانية أن عالمنا يلد أكواناً مختلفة. هكذا تنجب الأكوان أكواناً أخرى. فالانفجارات العظيمة تحدث باستمرار فتنتج عوالم مختلفة (ص 95 ,94 ,15 ,13). 
ليست العلوم وحدها التي تُعنَى بدراسة الأجسام الضخمة كالكوزمولوجيا تؤدي إلى نتيجة أن الأكوان الممكنة موجودة، بل العلوم التي تدرس عالم ما دون الذرة هي أيضاً تؤكد وجودها. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، عالم ما دون الذرات محكوم بمبدأ اللا مُحدَّد. تقول ميكانيكا الكمّ إنه من غير المُحدَّد سرعة الجسيم ومكانه في آنٍ معاً. لقد عَبَّر العلماء عن هذا القانون الطبيعي من خلال قولهم إن قط شرودنغر حي وميت في الوقت ذاته. فبما أنه من غير المُحدَّد مكان الجسيمات وسرعتها، إذن من غير المُحدَّد ما إذا قد أُصيب قط شرودنغر بطلق ناري ومات من جراء ذلك أم لم يُصَب ولم يمت. لذا قط شرودنغر حي وميت في آنٍ معاً. لكن من المستحيل أن يكون قط شرودنغر حياً وميتاً في الوقت ذاته، لأنه من التناقض أن يكون كذلك. من هنا استنتج بعض العلماء أن عالمنا يتكوّن من أكوان مختلفة بحيث إن قط شرودنغر حي في بعض تلك الأكوان، ولكنه ميت في بعض الأكوان الأخرى، وبذلك نتجنب التناقض. هكذا تقترح ميكانيكا الكمّ أنه توجد أكوان ممكنة ومختلفة. بالإضافة إلى ذلك، بما أنه بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ مبدأ اللا مُحدَّد يحكم العالَم، من المحتمل أن تُخلَق الجسيمات من العدم وأن تختزل بعضها بعضاً، فتوجد بذلك الجسيمات الافتراضية التي ترقص في تجليها في الفراغ لتفنى فيه. على هذا الأساس، قد تولد الأكوان المختلفة من العدم لكي تزول فيه مجدداً (ص 168 ,145 ,132 ,135).
لقد رأينا عرض الفيزيائي كاكو للحجج والنظريات العلمية المختلفة التي تُلزِمنا بوجود الأكوان الممكنة. لكنه أيضاً يُقدِّم دفاعه الخاص على النحو التالي: بمجرد ما إن نسمح بإمكانية نشوء عالم واحد، نفتح الباب أمام احتمال نشوء عوالم ممكنة ولا متناهية. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، الإلكترون لا يوجد في مكان مُحدَّد بل يوجد في كل الأمكنة الممكنة حول نواة الذرة. لكن الكون كان أصغر من الإلكترون، وبذلك إذا طبقنا ميكانيكا الكمّ على الكون ككل، تصبح النتيجة أن الكون يوجد في كل الحالات العديدة والمختلفة والممكنة في آنٍ معاً. وهذه الحالات الممكنة والمختلفة ليست سوى الأكوان العديدة. وبذلك يستنتج كاكو أنه لا مفر من الاعتراف بإمكانية وجود الأكوان الممكنة (ص 179 ,93 ,92). هذه الأكوان التي نتحدث عنها ليست المجرات المختلفة في عالمنا بل إن المجرات جزء من عالمنا الواقعي بالذات. فالأكوان الممكنة قد تشبه عالمنا وقد تختلف عنه. وبعض من الأكوان الممكنة يختلف في قوانينه الطبيعية وحقائقه وظواهره عن الأكوان الممكنة الأخرى وعن عالمنا الذي نحيا فيه. والفيزيائيون اليوم يعتقدون بقوة بأن هذه الأكوان موجودة (ص 184 ,107 ,101 ,96).
نظرية الأكوان الممكنة ليست مجردة فقط بل لديها تطبيقات تفسيرية في العلم والفلسفة. فمثلاً، يستشهد كاكو بالعالِم الفيزيائي ريز Rees الذي يفسِّر لماذا يوجد عالَم كعالمنا من خلال وجود الأكوان الممكنة. يقول ريز: بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لا متناهية، إذن ليس من المستغرب أن يوجد عالم كعالمنا له قوانينه وحقائقه الخاصة به. ومثال ذلك إذا دخلنا إلى متجر لبيع الثياب حيث توجد ثياب بمقاسات مختلفة وعديدة، لن يكون حينئذٍ من المستغرب أن نجد ثوباً بمقاسنا. هكذا ليس من الغريب أن يوجد عالمنا بالذات (ص 253).
أما أحد التطبيقات الفلسفية لنظرية الأكوان الممكنة فهو التالي: بما أنه (على الأرجح) توجد الأكوان الممكنة، إذن لكل عالم ممكن قوانينه وحقائقه التي قد تتشابه وقد تختلف جذرياً عن قوانين وحقائق العوالم الأخرى. على هذا الأساس (وعلى الأرجح) توجد أكوان ممكنة تشبه جداً عالمنا الواقعي، لكن تختلف عنه في بعض حقائقها. بذلك من الممكن أن تنشأ في تلك الأكوان عقول مختلفة عن العقل الموجود في عالمنا الواقعي. وبذلك من الممكن في تلك الأكوان أن يتجسّد العقل في أدمغة مختلفة جداً عن بعضها البعض وتحديداً مختلفة عن أدمغتنا، كما من الممكن في تلك الأكوان أن يوجد العقل في آلات كالكومبيوترات المتطوِّرة بدلاً من أن يوجد فقط في أدمغة بيولوجية كأدمغتنا. وبما أن هذه الأكوان شبيهة جداً بعالمنا، إذن من الممكن أن يتجسّد العقل في تجسدات مختلفة في عالمنا. وهذا يُرينا خطأ النظرية المادية في العقل التي ترفض تلك الإمكانية من جراء اعتبارها أن العقل هو مجرد الدماغ البشري. فرغم أن قوانين الطبيعة والظروف التاريخية تحكم نشوء العقل وطبيعته، من الممكن وجود عقول مختلفة عن عقولنا في عوالم تختلف بعض ظروفها الطبيعية عن عالمنا. وبسبب اختلاف بعض الظروف الطبيعية في تلك العوالم يختلف العقل فيها عن عقولنا مما يسمح بتجسدات عدة ومختلفة للعقل.
أخيراً، لقد رصد الفيزيائي كاكو في كتابه الأكوان المتوازية المعالم الأساسية لنظرية الأكوان الممكنة وكيف أن النظريات العلمية تستدعي وجودها. كما رأينا أن نظرية الأكوان الممكنة ليست نتيجة علمية مجردة فقط بل لها تطبيقها العلمي والفلسفي.

حسن عجمي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...