البطريرك غريغوريوس الثالث يدافع عن البابا

25-09-2006

البطريرك غريغوريوس الثالث يدافع عن البابا

راعتنا ردود الفعل في العالم الاسلامي على محاضرة قداسة البابا، بينيديكتوس السادس عشر في رغنسبورغ، حيث كان استاذاً والمعروف عنه انه من اكبر اللاهوتيين في المسيحية.
قرأنا المحاضرة في اصلها الالماني، وباللغتين الفرنسية والانكليزية. كما طالعنا ما اوردته الصحف في مختلف اللغات ومختلف البلدان حول ردود الفعل الاسلامية والمسيحية، منها التظاهرات العنيفة، والتعليقات التي تنعت البابا بأنه يشتم الاسلام والمسلمين والتعليقات الاخرى التي تطلب الاعتذار او الشرح والافصاح عن معاني هذه المحاضرة؛ والتعليقات من بعض المسؤولين في الفاتيكان وبعض اللاهوتيين والاختصاصيين في التاريخ والحوار المسيحي - الاسلامي.
انطلاقاً من هذه المعطيات، وانطلاقاً من موقعنا كبطريرك عربي مسيحي في العالم العربي، ومن مسؤوليتنا الروحية والراعوية والعلمية تجاه اخوتنا المسلمين، ورفاق الدرب الطويل في العيش المشترك بالرغم من صعوباته على مدى 1400 سنة، تجاه ابنائنا المؤمنين الذين تأثروا بما سمعوا ورأوا في وسائل الاعلام حول هذه القضية، تجاه اخوتنا المسيحيين في الغرب، وتجاه شركتنا الكنسية مع قداسة البابا ومع الكنيسة الكاثوليكية، انطلاقاً من هذه المسؤولية المتشعبة الاوصاف، رأينا ونرى من واجبنا ان نعطي بعض الملاحظات التي تساعد وتساهم في القاء الضوء الحقيقي على الموضوع وفي شرح ملابسات هذه المحاضرة وحواشيها والمعطيات العلمية والدينية والروحية والتاريخية التي لا بد من ايضاحها، لاجل تخطي ردود فعل ومواقف يمكن ان يكون لها اشنع العواقب والنتائج على الحوار المسيحي - الاسلامي الذي خطا خطوات واسعة منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، وكنا نحن الكنائس الشرقية العربية من اهم دعاته والعاملين على تنميته وتعميقه في عالمنا العربي.
ونحن بالذات، اسسنا مع اخوتنا الاساتذة والمفكرين المسلمين مركز اللقاء في القدس عام 1983، واسسنا هذا المركز بعد انتخابنا بطريركاً عام 2000، في كل من لبنان (2003) وسوريا (2003) ومصر (2005). كما ان في رسائلنا البطريركية السنوية عرضنا فكرنا المسيحي العربي حول وجودنا وخبرتنا اننا كنيسة العرب وكنيسة الاسلام.
في ما يأتي الملاحظات حول محاضرة قداسة البابا التي القاها في رغنسبورغ (المانيا) يوم الثلثاء الثاني عشر من ايلول 2006 واثناء زيارته وطنه المانيا ومقاطعته بافاريا وعنوانها الرسمي"الايمان والعقل ودور الجامعة" والعنوان الثاني الصغير:"ذكريات واعتبارات". وقد القاها في الجامعة حيث كان استاذا بين 1969 – 1971.
ذكّر قداسته في مطلع المحاضرة ببعض المناقشات العلمية الاكاديمية التي كانت تُثار في الجامعة آنذاك حول علاقة الايمان بالعقل، هذا الموضوع الذي لا يزال يتفاعل في عالم اليوم. اشار قداسته الى انه افاد في تفكيره حول هذا الموضوع من كتاب نشره عام 1966 بالالمانية الاب الدكتور تيودور عادل خوري، استاذ الاسلاميات في جامعة مونستر الالمانية بعنوان:"القيصر عمانوئيل الثاني الباليولوغوس: حوارات مع مسلم، الجدال السابع". الاب خوري هو من كهنة الروم الملكيين الكاثوليك وعضو في جمعية الآباء البولسيين، المعروفة بعملها الرائد في الحوار المسيحي - الاسلامي وبخاصة من خلال مجلتها المشهورة"المسرة". يعالج الكتاب مواضيع الايمان في"الشرائع الثلاث": العهد القديم (او التوراة) والانجيل والقرآن. والمعلوم ان في القرآن الكريم آيات مشتركة بين المسيحية والاسلام واليهودية بحيث يمكننا ان نعتبر ان الحوار الديني هو في صلب هذه"الشرائع" التوحيدية الثلاث وليس دخيلا عليها، لا بل ان النصوص الايمانية التي يرتكز عليها الاسلام والمسيحية واليهودية هي نفسها العناصر الاساسية لحوار ايماني واسع الاطياف يطال العقيدة والطقوس والعبادات والاخلاقيات وحتى السياسة والاجتماعيات...
وهنا نصل الى المقطع الذي اثار موجة الاحتجاجات حول خطاب قداسته. فقد استهل قداسته محاضرته حول علاقة الايمان والعقل في"الشرائع الثلاث"، في اليهودية والمسيحية والاسلام بالاشارة الى الحوار الذي دار على الاغلب عام 1391 بين القيصر الرومي (او البيزنطي) عمانوئيل الثاني ومفكر فارسي مسلم (مجهول). والى مقطع وردت فيه على لسان القيصر الرومي عبارات تطعن بالاسلام وبرسوله الكريم، وفيها اشارة الى ان الاسلام انتشر بالسيف. ويضيف القيصر بعد ذلك ان نشر الدين بالقوة هو امر ضد ارادة الله ويخالف طبيعة العقل البشري، فهو امر مخالف لطبيعة الله ولطبيعة النفس البشرية. هذه الاشارة الى كلام الامبراطور لا يمكن ان تشرح بأنها اهانة للاسلام. انها طريقة الجدال التي فيها يحاول المحاور ان يجعل مخاطبه يكتشف ويكشف امام محاوره المعنى العميق لدينه. وكلام الامبراطور ليس اهانة للعالم المسلم، وليس حكما عليه، وعلى دينه بل هو نوع من التحدي الفكري، بحيث يجبر المسلم على التعمق في تفكيره لكي لا يُفهم دينه على عكس ما هو عليه، وهذا ما يسمى في الحوار argumentum ad ominem وهذا يعني دعوة الى المزيد من الحوار والمناقشة وليس حكما مبرما واهانة.
ونحن نؤكد ان قداسة البابا اشار الى كلام الامبراطور بهذه الروح العلمية، ومن خلال ذلك يدعو المسيحيين والمسلمين الى حوار حقيقي حول الجهاد والعنف والمناقشات التي دارت حولها عبر العصور، ولهذا فاننا لا نرى في كلام البابا اساءة الى الاسلام بل دعوة للتعرف بعمق اشد الى الاسلام ولاقناع المحاور المسلم او المسيحي ان طريقة تفكيره اذا لم تكن مستندة الى نور الايمان والعقل او الفكر، لا يمكن الا ان تقود الى المزيد من العنف في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين.
في هذا الجو الاكاديمي للمناقشة، يجب ان تفهم كلمات الامبراطور واشارة البابا اليها في الجامعة والجو الجامعي، مشيرا الى دور الجامعة وداعيا الجميع الى الحوار في هذا الجو الاكاديمي.
ويضيف قداسة البابا بعد ذلك الى ما ورد في كتاب الاب عادل خوري حول نظرية ابن حزم المفكر المسلم الذي اراد ان يؤسس مدرسة شعارها الفهم الحرفي للقرآن الكريم، ولا مجال للتفسير والحديث وما اليهما من محاولات لفهم القرآن الكريم. مع العلم ان هذه المدرسة لم يكتب لها الحياة في الاسلام. ولا يمكن تطبيق تعاليمها على عبارات مهينة للاسلام، وقد تقود الى تعميم غير مقبول تجاه الاسلام في الكلام عن الجهاد او سوى ذلك من الاحكام المسبقة او"المعلبة". وربما كان سلوكا عند بعض المسلمين المتطرفين الذين الاسلام منهم براء.
والآن نصل الى النقطة التي نحاول من خلالها ان نشرح موقف البابا من الاسلام. فمن المؤكد ان قداسته وهو اللاهوتي العالم، هو مع الحوار المسيحي - الاسلامي، وهو ايضا بعيد كل البعد من ان يطعن بالاسلام وبالمسلمين. وقد دعاهم الى وقفة ايمانية مشتركة في لقائه الاول مع الجالية المسلمة في كولونيا (آب 2005).
اما ذكره للحوار حول الايمان والعقل وحول نظرية ابن حزم في القراءة الحرفية للقرآن الكريم فهو انه اراد ان يشير الى ان هذه المسألة الايمانية هي مسألة طالعت وتطالع الاجيال كلها في اليهودية (التوراة) والمسيحية (الانجيل وتاريخ المسيحية) والاسلام (القرآن والفكر الاسلامي)، وذلك ليس فقط في العصور الوسطى (الحوار بين القيصر الرومي والمسلم الفارسي او الايراني) ولكن حتى يومنا هذا.
وهنا يستفيض قداسة البابا في انتقاد اوروبا المسيحية حيث نرى الجدال في اشده بين الايمان والعلم حيث تطلّق الدين من المجتمع ووقع الانسان الغربي في موقف نسبي شخصي، واصبح هو الحكم الوحيد في السياسة والاخلاق والاجتماع. وضاع دور الايمان في المجتمع.
ويمكننا القول ان الانتقادات الاشد في خطاب قداسته موجهة الى اوروبا"المسيحية" في موقفها الالحادي العلماني، حيث يصبح رويدا رويدا امرا فرديا شخصيا ويجب ان يبقى ضمن جدران الكنيسة ولا علاقة له بالمجتمع والشرائع والسياسة والاخلاق.
وكأني بقداسته في اشارته ربما غير المناسبة وغير الواضحة الاهداف والتي كان ينقصها الاكثر من الدقة والايضاح الى حوار القيصر الرومي مع المفكر المسلم الفارسي والى نظرية ابن حزم اراد ان يدافع عن الاسلام الذي حكم عليه القيصر (ام ظهر انه يحكم عليه) واراد ان يؤكد انه لا بد من فهم القرآن الكريم الذي هو حياة وشريعة وعقيدة، لا بد من تزاوج حقيقي بين الحرف والمعنى الايماني، بين العقل والايمان.
ان شرحنا هذا لموقف قداسته ليس من قبيل الدفاع عن قداسته، وليس من قبيل المجاملة تجاه الاسلام، بل من منطلق تفكير منطقي ومن خلال تحليل علمي لهذه المحاضرة.

البطريرك غريغوريوس الثالث

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...