رواية «صلصال» وقاحة اللقيط حين يجترح كرامة كل شيء

02-10-2006

رواية «صلصال» وقاحة اللقيط حين يجترح كرامة كل شيء

صلصال للروائية السورية سمر يزبك رواية لا تجد العنف والقسوة والظلم. بل تسعى الى اظهار جماليات النضال، الذي صارت تنهار اركان صلابته الادراكية الحسية عند استاذ التاريخ العجوز وهو يرسم/ يقاوم صورة الخراب الذي آلت إليه البلاد على يد علي حسن بطل الرواية، الولد اللقيط الذي يتسلق المناصب وهو يؤسس واحدة من اعتى الامبراطوريات المخابراتية المؤذية.
إذ تبدأ الرواية و(سحر النصور) تقود سيارتها بسرعة جنونية من دمشق الى جبلة، فتدخل الغرفة الزرقاء، توقظ زوجها حيدر في غفلة عن مخدومتهم (دلا) وزوجها محمود، ثم تعود من جبلة الى دمشق بالسرعة الجنونية ذاتها وتنتهي الرواية. وما بين هذين الزمنين نمسك علي حسن الولد الوقح كما يضعه والد حيدر علي، الولد الأناني والقاسي الذي تربى على سفرة حيدر، ولما انتسبا معاً الى الكلية العسكرية وتسلّق علي حسن المناصب حتى صار ما صار، إذا به يتخذ من سحر النصور خليلة له ويزيح حيدر علي بن ابراهيم بك الاقطاعي الذي منحه الفرنسيون الأراضي هدية لما قدمه لهم من خدمات تمثلت في عمالته وتعاونه معهم ايام احتلالهم سوريا، إذ كان يسلّم الثوار السوريين الذين كانوا يحاربون مع الشيخ صالح العلي للفرنسيين. بل وينفيه حسن ينفي حيدر الى جبلة فيقتله بطريقة مخابراتية وكأنه يقتل حشرة وليس إنساناً.
جرائم
رواية تضعنا في جو الأشرار/ العصابات/ التي ترتكب الجرائم المفجعة بحق مواطنيها، وكأن سمر يزبك تريد ان تقول ان من يحكموننا ليسوا فرساناً فهي تهاجمهم الى النهاية، وانهم مهما صنعوا من شر زينوه بالخير، فلن يكونوا أبطالاً منتصرين، وبسرد تبلغ قوته انه يصنع لنا صورة بصرية، وكأنها تسوق مشاهد فيها سينما/ مسرح، عبر دفق من المشاعر نشوفه عند (دلا) خاصة والتي هي ضمير الرواية/ الراوية الذي لا يزال على فطرته. وكأن سمر يزبك تصنع فيلماً سينمائياً انما فيه مسرح.
سمر في سردها هذا كادت تحوّل روايتها الى منبر وإن كانت رواية (رأي). لكنها وهي تسرد كنّا نحس القسوة تسري في عواطفنا، كأننا كما قلت في سينما/ مسرح، فيبرد الرأي وتسخن المشاعر لتقنعنا بحجم الفاجعة الكارثة التي اوقعها علي حسن وعناصره بنا. فموت استاذ التاريخ العجوز على يدي احد عناصره (الرجل العملاق) ينتهي بتوبيخ شفهي من علي للرجل، فيفلت صبر احد رجال القرية، ويصف ما فعله العملاق بأستاذ التاريخ بالجريمة جريمة قتل متعمدة، فيكاد ينفجر علي حسن ويتمنى لو يعيض هذا الرجل الذي فلت صبره وعبّر عن استيائه وغضبه لما يفعله هؤلاء العمالقة بأبناء وطنهم، إذ كيف يتجرأ هذا المخلوق ويقول مثل هذا الرأي!!؟
علي حسن يصيِّر نفسه إنساناً فيريد ان يحزن على قتله (موت) حيدر علي واستاذ التاريخ الذي درّسه، لكنه لا يستطيع الكذب وهو القاسي القلب، فما ان يترحم على استاذه ويمشي حتى ينقض الناس على الرجل العملاق وينهالون عليه ضرباً وركلاً بأيديهم وارجلهم. إن سمر هنا لا تريد سد ثقوب الطاغية التي احدثها في المنظومة الاخلاقية لمجتمعه هي تفتحها لتفرجينا، لنشم روائح النتن والعفن، ولكن ليس بسرد فج وقح، بل بسرد واقعي تكتب فيه حلمها، فتفرجينا عذوبة هذا الحلم. بل صوفيته التي تنفر من الواقع وهي على خصومة مع فكره، مع ايديولوجيته. فالراوية رهام تريد أن تحافظ على الحب، تحب وتناضل سياسياً والحب هنا يواجه اشخاصاً فظين، وقحين، مجرمين. وهي تريدنا نسمع صهيله صهيل الحب!. وهذا ما يدفعنا للقول بأن الرواية أحداثها ملفوفة بخيوط مذهبة من البوح الشعري خاصة بعد مقتل حيدر علي ودفنه على يدي رفيق طفولته وصباه علي حسن. بوح كأنه صورة سينمائية تتولد منها حكايات، حكاية من حكاية/ حكاية في حكاية، وكأن حيدر علي ملاك /وليّ/ فيموت بيد علي حسن ليحيا على أيدينا يد سمر يزبك، فنشوف عواطف خالصة، شعوراً مباشراً وآنياً تضعنا سمر في مواجهة مع الفعل ورد الفعل، صورة ثنائية: الحلم + الواقع، الجهد + المقاومة، الإثارة + الاستجابة. حيدر علي في موته يكشف وضاعة علي حسن وسحر النصور، فيضعنا امام إحداثيات اجتماعية، دينية سياسية، بسرد نشوف فيه زمنين، واحد إشاري جارح وقاطع وباتر. وآخر احالي يحفز القوة كي تصير فعلاً تعبيريا نرى فيه النور يذهب في مغامرة مع البياض، بوح تشطح فيه اللغة. سمر تشطح كأنها تحترق كأنها تصطلم. فالصورة التي يحيلنا إليها حيدر علي حين يصير في الموت الذي ما بعده موت صورة ولو انها صنعت من دفق لفظي، لكنها صورة تعيد لنا جنتنا التي سرقها علي حسن، وكأن سمر مع هاتين الشخصيتين حيدر علي الشخص الذي لم يكن له اي معنى. وعلي حسن الشخص الذي كان له اكثر من معنى، تكشف عن المأساة الجمالية لروايتها فيصير الفعل الفردي فعلاً ملحمياً، وبسرد يتجاوز السرد نرى حيدر يتحول الى شخص له اكثر من معنى، فيما يصير علي حسن شخصية ليس لها اي معنى، إذ تضعنا سمر بعد مقتل حيدر امام فاجعة صوفية وإن كانت حوادثها/ مشاهدها لا رابط بينها، إنما لتعطي لروايتها حساً/ إحساساً باطنياً غير متأمل ومخالفاً لكل ما هو مألوف موت استاذ التاريخ بيد الرجل اللوح، عنصر علي حسن حين قذفه في الهواء وسقط على الأرض ميتاً وهو يشق الطريق ليلقي نظرة وداع على حيدر هو موت لا يعد له اي موت حتى ولا موت حيدر، لكنه يمر كما لو ان الميت زائد عن الحاجة. سمر اشتغلت شخصية الاستاذ بشكل مخيف، مثلها بقية شخصيات الرواية، شخصيات مخلوقة من الفزع الرعب الذي سيفه سلّط على رقاب العباد اينما حركوا رؤوسهم بترها/ حزّها/ قطعها/ سخمها به علي حسن وعناصره، شخصيات تعيش تمرداً واعياً. علي حسن يخنق الحياة وشعب يتحمس للعيش، علي حسن تسكنه شهوة العنف والقتل، وضحايا ميالون للتمرد/ لثقافة التمرد على الشر الذي يحيقه بهم علي حسن وكأننا مع حكاية اسطورية قاسية.
رأس يتدحرج
سمر يزبك في روايتها هذه تريد لحادثتها الاسطورية عندما تسوقها حادثة فعل ان تحقق معنى/ مغزى خلقياً، أخلاقياً. بطلتها/ بطلها يسرد يفعل فعلاً ليس سياسياً وإن اصطدم مع رجل السياسة او مع العسكري. بطل يثق بنفسه فيسرد، يريد يصنع حدثاً، ذاكرة لا سطوة ولا سلطة لاحد عليها فيجتثها من جذورها، لذا يدافع عن ذاكرته، يدافع عن ذاته فيسرد ويسرد، ويظل الحدث في حالة جريان/ يجري، يمشي لا يريد ان يتوقف. كأن سمر تريد إلا يفوتها شيء إلا وتقوله. ذاتية ليس فيها أنانية، ذاتية عامة، ذاتية تاريخية تنشر شاخصاتها في المكان الجغرافي لاحداثها حدثها. ذاتية على قدر فوضويتها إنما منتظمة، متعصبة للنظام لا تريد لاحد ان يعتدي على احلامها. لقد تم الاعتداء على جسدها وعلى المكان الذي تربى فيه جسدها ليس بالإقناع إنما بالقوة القوة الباطشة القامعة، لكنها تبقى ذاتاً تروي حدثها، صورها، بصدق يذهب ليجترح ما وراء الإنساني، فنشوف ان (السلطة) كانت على علم وهي تذهب بنا الى التوحش الوحشية، كأنها تمّن علينا لتنفرد بكل شيء من الإنسان الى الوطن. سمر تذهب بالسرد في (صلصال) الى حد الصراخ. هي لا تسعى الى اصلاح الحياة ولا الى تخديرنا، هي تصرخ للرد على العنف، على ولد لقيط يعبث وهو يمسك بعصا السلطة بكل القيم، ويعطي يمنح كل اللقطاء، الاولاد غير الشرعيين حق التصرف بالحياة على انها لهم وحدهم. لقطاء يقومون بإلغاء، بمصادرة الحياة فنصير موضوعاً/ هدفاً نضالياً لحروبهم وغرامياتهم وشذوذهم، كأننا مع شخصيات خرافة. سمر تكشف بسردها وقاحة اللقيط حين يتجرأ ويجترح كرامة كل شيء. بل وكيف هو يهين العقل فيصنع ما يصنع من اشخاص هم من عتاة المارقين الجهلة فيمثلون البلاد رسمياً، ويحكمونها بقوانين الدم. وإذ ينتقمون فكأن لهم ثأراً. تقول سمر في روايتها <صلصال> وبسرد تزدحم فيه العبارة بغزارة من المعلومات التي تحمل اسى: (أنت من قتل وقطع رأس كل من قال (لا) لبني أمية، وأنت من كنت تستلذ بالموت المجاني للبشر بالحرق والسلخ والتقطيع... اذكر ولا اذكر نفسي، واسمع صليل سيوف جنودك وهم يحرقون الأخضر واليابس، ويحولون البشر الى قطيع اغنام، ويبنون السدود والطرق والعمارات الجديدة، ويسرقون تاريخ البلاد في جيوبهم). سمر هنا تذهب بالسرد الى الذروة، فحركة اشخاص الرواية لم تعد قادرة على فعل/ قول فعل الجريمة التي يرتكبها علي حسن. فبتداعيات متماسكة تحيلنا الى حجم الكارثة التي اوقعها علي حسن بالبلاد، فتفرجينا موهبته، فرط حساسية الشم عنده حين يقرأ حتى في لوح الغيب نوايا خصومه فيعمد الى تصفية حسابهم!؟ الى تصفيتهم. صلصال تريد تكون (إلكترا). تريد نشوف تجربة الروح التي ما تروح تتعذب وهي تبحث عن حريتها مذ كانت وثنية فلا هويته فعقلانية، وإن لم تكن صورها فيها مباشرة إنما نحس النور الذي في ضوئها. هي اشارات تبثها بلسان حقيقي وليس زائفاً، فنشعر بحياة الكلمات بحقيقتها. هي رواية (رأي). سمر يزبك تبدي رأياً آراء في واقعات محسوسة من الناحية التجريبية، كأنها تروح مع (نيتشة) الى انه لا يمكن لشعب من الشعوب، لأمة من الامم ان تعيش دون ان تبدي، دون ان تقول رأيها. وفي هذه لذة، استعراض لقوة الذات حين تشوف وجودها في (رأيها) فلا يصير الجسد وشهوته والذي استباحه علي حسن على طول الزمن الروائي مادة العقدة الروائية، بقدر ما يصير (الرأي) الذي غذى السرد هو الرواية، هو جسد الرواية. صلصال لا تروي احداثا فحسب، هي تقول رأيها، تبدي دهشتها من كون الإنسان لا يزال ضحية قديمة جديدة، لا يزال رأسه يتدحرج في الحروب التي يحددها ويشعل نارها (السلطان) في فراش النوم، في الساحات العامة، في المعتقلات، في جبهات القتال. قد نلمس انفعال سمر يزبك وهي تسرد روايتها، لكننا نمسك تشددها في قول رأيها. عفتها حتى الزهد، فلا يغريها ولا يثنيها عن قوله شيء. كأنها الناجية الوحيدة من الموت، من الحلم بالحياة، إنما مثل فارس حزين وإن هزم إنما لن يهزم.

انور محمد

المصدر: السفير

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...