بقلم رياض نجيب الريس: خمسون عاماً على حرب السويس (1ـ5)

10-10-2006

بقلم رياض نجيب الريس: خمسون عاماً على حرب السويس (1ـ5)

 الجمل:

مقدمة شخصية عن أزمة منسيّة

 عندما وصلت إلى إنكلترا في مطلع شهر آب/أغسطس من العام 1956 كان السير أنطوني إيدن رئيساً لوزراء بريطانيا وزعيماً لحزب المحافظين الحاكم، خلفاً لونستون تشرشل. وسلوين لويد وزيراً للخارجية البريطانية. أما هيو غيتسكيل فكان زعيماً لحزب العمال المعارض. وكان جمال عبد الناصر رئيساً لمصر وزعيماً للعرب وقائداً لفكرة القومية العربية، وكانت غيوم أزمة قناة السويس والحرب التي تبعتها قد بدأت تتلبد، والسماء السياسية في العالم مكفهرّة.
وكان غي موليه، زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي، رئيساً لوزراء فرنسا، وكريستيان بينو وزيراً لخارجيتها. وكان الجنرال الجمهوري دوايت أيزنهاور رئيساً للولايات المتحدة وجون فوستر دالاس وزيراً لخارجيتها. وكان خروتشوف وبولغانين زعيمي الاتحاد السوفياتي وأندريه غروميكو وزيراً للخارجية. وكانت الحرب الباردة، القريبة من السخونة باستمرار، على أشدها. ووجدت نفسي، وأنا الشاب اليافع في حدود الثامنة عشرة من العمر، المسافر لأول مرة خارج بيته وبلده، وسط عالم سياسي يغلي بالأحداث الجسام ويضج بالمتغيرات التي لم يألفها.
كانت ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي في أوجها. وكانت الثورة ضد النظام الشيوعي في المجر ومشهد الدبابات السوفياتية وهي تضرب العاصمة بودابست في كل صحف العالم. وكانت ثورات التحرر في أفريقيا السوداء وحركات الاستقلال من الاستعمار البريطاني والبلجيكي والبرتغالي والفرنسي تنتشر كالنار من شمال القارة في تونس والمغرب إلى جنوبها في موزمبيق، ومن شرقها في زنجبار إلى غربها في ساحل الذهب (غانا اليوم)، ومن وسطها في الكونغو إلى أسفلها في جنوب أفريقيا ذات النظام العنصري. كان العالم كله يغلي وأنا ألتهم الصحف الإنكليزية والعربية في صقيع إنكلترا القاسي. كان نهمي لقراءة كل ما تكتبه الصحافة البريطانية عن الشرق الأوسط تحديداً، في أوجه. كما أخذت أتابع مواقف الأحزاب البريطانية من القضايا العربية والتعرف إلى الشخصيات الحزبية والبرلمانية البريطانية.
قبل خمسين عاماً كنت شاهد عيان على أهم حدث وقع على العالم العربي في القرن العشرين، غيّر جذرياً من معالم الشرق الأوسط، سياسياً وتاريخياً، وأدى إلى تطورات لم تكن بالحسبان. هذا الحدث هو حرب السويس أو «العدوان الثلاثي» في العام 1956 . كانت مياه القناة تمر من تحتي كل يوم، ومشهد السويس يملأ ناظري وصوت جمال عبد الناصر يشنف أذني وصوَر أنطوني إيدن تطالعني في كل مكان. وكنت أنا العربي أرصد أحداث هذه الأزمة التاريخية الكبرى وأعيش تداعياتها وأتابعها عن طريقين: طريق الصحف، قراءة ومتابعة، وطريق الصحافيين الذين تعرفت إليهم في حمأة تلك الظروف، وشكلوا لي مرجعية ساهمت في إغناء ثقافتي السياسية ووعيي التاريخي.
قبل خمسين سنة تماماً عندما وصلت لندن، وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد أعلن تأميم شركة قناة السويس في 26 تموز/يوليو، كنت كمعظم أفراد جيلي، من المتحمسين لما قام به عبد الناصر، دون أن نعي تماماً ما سيؤدي إليه هذا الحدث من نتائج. وظل خطاب تأميم القناة التاريخي الحماسي واسم فرديناند دولاسبس، المهندس الفرنسي الذي حفر القناة، عالقاً في أذهاننا فترات طويلة من العمر. ولم يكن الكثير من أقراني يملكون إلّا القليل من المعرفة التاريخية السياسية، وكانت الصفة البارزة لذلك الجيل هي الحماسة البالغة التي أشعلها عبد الناصر فيه منذ قيام الثورة المصرية في 23 تموز/ يوليو من العام 1952، والتي توّجها تأميم القناة. وقد حملت في طياتها كل معاني النضال ضد الاستعمار على مختلف مستوياته.
انضممت بعد وصولي إلى لندن إلى «رابطة الطلاب العرب في المملكة المتحدة وإيرلندا»، كما هو اسمها الرسمي، التي كانت المنظمة العربية الوحيدة التي تجمع الطلاب العرب في بريطانيا، خارج تنظيمات الأحزاب العربية، كحزب البعث والحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب، والحزب السوري القومي الاجتماعي وغير ذلك من التجمعات والكتل العربية القطرية التي كانت قائمة أو ناشطة إلى حد ما في تلك الأيام. وعبر عدد من قدامى الطلاب العرب في الرابطة اختلط بمجموعة من الشباب الإنكليزي من طلاب وسياسيين أعضاء في الأحزاب، كحزبي العمال والأحرار، من المتعاطفين مع القضايا العربية.
وكانت الأجواء في تلك الأيام أجواء سمحة بين الإنكليز والعرب، ليس فيها من تشنج هذه الأيام. وكان أهم مَن تعرفت إليهم أيان كامبل، المحامي ومدير قسم الأبحاث الخارجية في حزب العمال، الذي كان له الفضل في تعريفي بمايكل فوت الذي بدوره عرفني إلى إديث سمرسكيل وزيرة الصحة السابقة في حكومة العمال والناشطة في الحزب. وكان فوت يدعوني وزملائي من الطلاب العرب إلى كل التجمعات الحزبية والنقابية التي تقام ضد سياسة حكومة إيدن لتحشد فيها التأييد لعبد الناصر وتأميم القناة. وكان هناك غاي موور، الموظف السابق في وزارة المستعمرات البريطانية منذ العام 1928 . والخبير في شؤون الشرق الأوسط، الذي كان يشرح لنا خفايا السياسة الاستعمارية البريطانية. إلّا أن أهم من تعلقت بهم، كان فنر بروكواي، النائب العمالي في مجلس العموم ورئيس «حركة الحرية للمستعمرات» Movement for Colonial Freedom . وكان بروكواي، رجلاً مسنّاً في حينه، يأخذني معه إلى اجتماعات الجمعية وإلى التظاهرات التي كان يخطب فيها. وتكرر ظهوري معه إلى درجة أن مجلة «جويش كرونيكل» اليهودية، نشرت صورته وأنا إلى جانبه في سياق مقال تهاجمه فيها.
في تلك الفترة المزدحمة بالأحداث يومياً، حيث أهمل معظمنا دراسته، أخذنا نزور دور الصحف لنتحدث إلى القائمين على تحرير مواضيع الشرق الأوسط فيها، الذين سبق لكامبل أن عرّفنا بهم، ومنهم مايكل أدامس، الذي كان مراسلاً لـ «الغارديان» في الشرق الأوسط، وروبرت ستيفنس المحرر في «الأوبزرفر» الذي كتب فيما بعد كتاباً عن عبد الناصر، لعله الأهم في رأيي حتى الآن عن الزعيم المصري. ودعاني ستيفنس مرة إلى حضور اجتماع التحرير ظهر السبت الذي كان يعقده رئيس التحرير دافيد استور لمحرري «الأوبزرفر».
وكان الفضاء الشخصي والسياسي في لندن واسعاً في تلك الأيام، بين المجموعة العربية الصغيرة، ومعظمهم من الطلبة، وبين الناشطين الإنكليز من السياسيين المعارضين لتوجهات حكومة إيدن والمجموعة الصحافية من الكتّاب والمراسلين الصحافيين التي فتحت لنا مكاتبها لنتبادل الرأي فيها. وكان هناك راندولف تشرشل، ابن السير ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني السابق، الكاتب في مجلة «سبكتاتور» المحافظة، الذي كان يكره إيدن أكثر مما كان يكره عبد الناصر. وكان الحديث معه في السياسة متعة وهو يعب الشراب عباً. وكان هناك الكاتب الإيرلندي أرسكين تشايلدز الذي كان يكتب في الصحف والمجلات، وأول من تصدى للدفاع عن عبد الناصر والقضايا العربية خلال أزمة السويس وبعدها.
هناك كُثر من الصحافيين البريطانيين الذين تقاطعت فيما بعد الطرق بيني وبينهم في حياتي الصحافية، إنما غيّبتهم الذاكرة اليوم. وما هؤلاء إلا حفنة من الذين عرفتهم قبل نصف قرن، وكانوا مضيئين في ثقافتي المهنية. بالنسبة لي، كان لهؤلاء الأشخاص فضل كبير في الحفاظ في ذاكرتي على تجربة حرب السويس، كمراقب من المنظور البريطاني. ولعل أغلب مَنْ ذكرت قد رحلوا اليوم عن هذه الدنيا، إنما أحفظ لهم الكثير من الامتنان والود.
تلك الأيام كانت أيام الصحافة والجرائد والراديو. لم يكن التليفزيون قد وصل بلادنا بعد، إنما بالكاد انتشر وبشكل محدود، في بلاد الإنكليز. كانت الصحف الصادرة في إنكلترا تلك الأيام هي مصدر الأخبار الوحيد لي أنا القادم إلى عاصمة الضباب، بقدر ما كانت مصدر إلهامي أيضاً. وكانت كلمة «السويس» تصفعني في عناوين كل جريدة إنكليزية يقع نظري عليها، حتى ظننت أنها تعني بالإنكليزية غير ما تعنيه بالعربية. كان هذا قبل أن تصبح هذه الكلمة الجغرافية مصطلحاً سياسياً.
وما هذه المحاولة لاسترجاع قصة حرب السويس التي تعتمد في الدرجة الأولى على جرائد تلك الفترة، إلا نوع من الحنين إلى الذكريات الشخصية التي رافقتني في تجوالي في تجمعات وتظاهرات تلك الأيام وتطوافي في أروقة الصحف ومكاتبها في «فليت ستريت» شارع الصحافة آنذاك، حيث كانت مباني الصحف ومطابعها. وحكاية أزمة السويس هي حكاية صحافة ذلك الزمان وصحافييه. أما المصادر «الرسمية» لتلك الفترة التاريخية فكثيرة جداً، إذ صدر خلال نصف قرن باللغة الإنكليزية وحدها، مئات الكتب، ناهيك باللغات الأخرى. وقد اعتمدت للدقة التاريخية آخر كتاب صدر عن السويس في آب/ أغسطس 2006(*)، ومجموعات الصحف البريطانية في تلك الفترة، الموجودة في المكتبة البريطانية العامة. فقصة السويس هي قصة الصحافة.

( * ) Suez 1956 -The First Story of the First Oil War - by Barry Turner - Hodder and Stoughton- London 2006.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ


 دور «الغارديان» و«الأوبزرفر» في فضح أخطر أزمة سياسية (1ـ 5)

عبر جريدة محدودة الانتشار في حينه كانت تصدر خارج العاصمة البريطانية، تعرفت قبل نصف قرن على قضيتين أساسيتين تلازمتا زمنياً وشكلتا بالتناوب قضايا ساخنة: تأميم قناة السويس و«العدوان الثلاثي» ــــ كما اعتدنا تسميته في العالم العربي ــــ الذي تلاه على مصر. ومن جهة ثانية انتفاضة بلاد المجر على النظام الشيوعي فيها وقمع الاتحاد السوفياتي ثورة المجريين بعنف لا مثيل له على مرأى من العالم.
هذه الجريدة هي «المانشستر غارديان» التي كانت تصدر من مانشستر، العاصمة التجارية والصناعية في شمال إنكلترا، وتطبع هناك. وكانت تُصنف بأنها جريدة محلية من الأقاليم Provincial على الرغم من أنها كانت توزع في لندن. غير أن تأثيرها السياسي ونفوذها الدولي كانا أهم وأبعد من أرقام توزيعها. ففي منتصف الخمسينيات، كان ثلثا قراء هذه الجريدة من خارج مانشستر، وبلغ توزيعها 200.000 نسخة يومياً. لكن هذه الجريدة غير العادية أدّت دوراً سياسياً (أساسياً إن لم يكن خطيراً) خلال أزمة السويس من بدايتها حتى نهايتها بحكم تميّز مواقفها المبدئية وتغطيتها المهنية الراقية ومعارضتها لحكومة المحافظين. بالإضافة إلى وجود أقنية اتصال خاصة بين وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس وبين رئيس تحريرها ا.ب. وادزورث. وكانت ملكية «المانشستر غارديان» تعود إلى مؤسسة عائلية لإحدى أسر شمال إنكلترا التجارية، قبل أن تتحول إلى شركة مساهمة كبرى وتنتقل إلى العاصمة في السبعينيات وتسقط اسم مانشستر من عنوانها لتصبح «الغارديان» فقط، إحدى أهم كبريات الصحف الليبيرالية البريطانية اليوم. باختصار، لم تكن جريدة «إقليمية محلية» عادية. كانت واحدة من أهم صحف بريطانيا في ذلك الزمان.
كان وادزورث، رئيس التحرير منذ العام 1944، مريضاً بالسرطان وعلى فراش الموت في صيف العام 1956، إبان بدايات أزمة السويس. وكان يُعدّ محرر الشؤون الخارجية في جريدته، الشاب أليستير هثرينغتون البالغ من العمر 36 عاماً، الذي سبق أن كان ضابطاً في سلاح الدبابات في الحرب العالمية الثانية، لخلافته رئيساً للتحرير. وكان كلاهما وادزورث وهثرينغتون، قد رسما خطاً لـــ «الغارديان» معارضاً لسياسة حكومة المحافظين البريطانية تجاه أزمة السويس، مما قاد الجريدة إلى دور صدامي خطير في وجه حكومة السير أنطوني إيدن أدى في النهاية إلى إسقاطها. ولم يحسب الرجلان حساب الخسائر المادية التي ستصيب الجريدة من جراء هذا الموقف السياسي المعارض. وتوفي وادزورث في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1956، في اليوم الذي بدأت فيه القوات البريطانية والفرنسية المشتركة هجومها على مصر من قبرص.
كانت تغطية «الغارديان» لأحداث أزمة السويس عدائية، ومزعجة، إلى درجة أن رئيس الوزراء السير أنطوني إيدن حاول منع هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) من نقل ما تكتبه «الغارديان» عن الأزمة في أقوال الصحف التي تذيعها كل يوم. كما منع مراسل الجريدة الديبلوماسي ريتشارد سكوت من التحدث في الإذاعة. وطرح إيدن مشروع قانون خطير يقضي باستيلاء الحكومة على الــ بي.بي.سي وإلغاء استقلاليتها القانونية إذا تمّ غزو مصر. إلّا أن المشروع لم يتحقق.
غير أن أزمة السويس كانت قد بدأت تتصاعد منذ أواخر تموز/ يوليو من العام 1956، بعدما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم القناة. وصدرت أول افتتاحية لــ «الغارديان» كرد فعل على الأزمة (في زمن كان قرّاء الصحف فيه يقبلون على قراءة الافتتاحيات قبل الأخبار) تدعو الحكومة إلى التعقل، وعدم الاستخفاف بقدرات عبد الناصر، قائلة أن الغرب لا يستطيع استعمال القوة العسكرية وسيلة لضمان تدفق النفط. ووقّع رئيس تحرير «الغارديان»، الشاب الجديد، قبل أن يتسلم منصبه رسمياً، مقالاً ضد إنذار بريطانيا وفرنسا المشترك بالهجوم على مصر، إذا لم تنسحب قواتها من منطقة القناة، رافضاً التهديدات بالحرب. وبينما كانت الافتتاحية تكتب كانت إسرائيل، الشريك السري في حينه في المشروع الإنكلو ــــ فرنسي لمنع تأميم قناة السويس، تتقدم الهجوم على مصر. وكان تاريخ الافتتاحية 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1956 .
خلال أيام من صدور هذه الافتتاحية، تلقى هثرينغتون أول اتصال عبر قنواته الخلفية من مراسله في واشنطن ماكس فريدمان، الذي كانت له صلات خاصة بوزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس. وصعق رئيس التحرير بمحتوى الرسالة التي جاءته، وفيها أن دالاس قد تبلغ من سفيره في لندن، بأن الحكومة البريطانية تستعد لشن الحرب على مصر. انطلاقاً من هذه المعلومة بدأت «الغارديان» محاولة تغطية الاستعدادات السرية للحرب، وقد أدركت أن الولايات المتحدة لن تؤيد فكرة الهجوم على مصر. وحاولت «الغارديان» التحايل في تغطيتها تجنباً للوقوع تحت طائلة القوانين البريطانية التي كانت ـــ وما زالت إلى اليوم ــــ تمنع الصحافة البريطانية من نشر ما تعدّه الحكومة أسراراً عسكرية أو وطنية. وواصل المراسل النشط فريدمان من واشنطن كتابة الرسائل السرية إلى رئيس تحريره، وأهمها رسالة في 10 آب/ أغسطس لخص فيها شعور دالاس مفادها: «هناك استعدادات لعمل عسكري ضد مصر من بريطانيا وفرنسا، وإنه (أي دالاس) يشعر بأنه من الصعب أخلاقياً الدفاع عن هذا العمل الذي لن يتفهمه العالم، والذي سيؤدي إلى تحطيم الأمم المتحدة إذا تم التدخل المسلح... «إنها حالة خطرة جداً جداً» حسب قول دالاس.
لم يقف إلى صف «الغارديان» في هجومها العنيف على التدخل العسكري ضد مصر سوى «الأوبزرفر». وكانت «الأوبزرفر» صحيفة أسبوعية تصدر صباح كل أحد، تمثل التيارات الليبيرالية في السياسة البريطانية والتوجهات الحرة في الثقافة والفنون، معادية للمحافظين ومتعاطفة مع شعوب المستعمرات. وكانت تمثل الوجه التقدمي لصحافة الأحد مقابل الوجه الآخر المحافظ لـ «الصنداي تايمز». وكان صاحب «الأوبزرفر» ورئيس تحريرها دافيد أستور، ابن أول امرأة (ماري أستور) تدخل مجلس العموم البريطاني في الثلاثينيات، بعدما مُنحت النساء في بريطانيا حق الانتخاب والترشيح. وكانت «الأوبزرفر» مملوكة من شركة عائلية خاصة لآل أستور، قبل أن تباع لعدة جهات ثم تستقر اليوم كجزء من شركة «الغارديان» الجديدة، ووجها المماثل يوم الأحد.
وانقسمت الصحافة البريطانية إلى فريقين واضحين. فريق مع حكومة إيدن في استعمالها القوة لاستعادة القناة من عبد الناصر، وفريق ضد الحكومة وضد إشعال حرب من أجل القنال. على رأس الفريق الأول كانت «التايمز» ومعها «الإكسبرس» و«الميل» و«السكنتس» و«التلغراف» و«إيفنينغ نيوز» و«إيفنينغ ستاندرد» و«الصنداي تايمز» و«الصنداي اكسبرس». أما الفريق الثاني المعادي لحكومة إيدن، فكان إلى جانب «الغارديان» و«الأوبزرفر»، مؤلفاً من «الميرور» العمالية، «نيوز كرونيكل» الليبيرالية «مورنينغ ستار» الشيوعية، «بيبول» الشعبوية. لكن «المانشستر غارديان» و«الأوبزرفر» وحدهما استمرتا في معارضة التدخل العسكري بلا هوادة طوال فترة الأزمة. وانضمت إليهما فيما بعد «الإيكونوميست»، المجلة الأسبوعية الواسعة النفوذ والواسعة الانتشار اليوم في الولايات المتحدة، في أوضح موقف مباشر ضد الهجوم العسكري البريطاني على مصر، في افتتاحية لها صدرت في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر.
وكان موقف الجريدتين «الغارديان» و«الأوبزرفر» المعاديتين لسياسة حكومة إيدن قد عرّض الجريدتين لضغوط اقتصادية من أطراف عدة، أدت إلى قطع عدد كبير من الاشتراكات ووقف الحملات الإعلانية فيهما، وعزوف عدد من القرّاء عن شراء الجريدتين. وأصبح الوضع المادي لكل منهما حرجاً، بالرغم من انضمام أعداد من القرّاء الجدد الذين لم يكونوا من زبائنهما.
كانت المفاجأة في الأوساط الصحافية، هي انقسام صحافة المحافظين. وأهمها مجلة «سبكتاتور» الأسبوعية المحافظة اليمينية، المنافسة لمجلة «نيو ستيتسمان» الأسبوعية العمالية اليسارية، التي كان يرأس تحريرها كينغسلي مارتن، أحد أشهر صحافيي إنكلترا في ذلك الوقت. وكان أيان غيلمور، الذي أصبح وزيراً فيما بعد في حكومة مارغريت تاتشر، صاحب ورئيس تحرير «سبكتاتور»، قد سارع في أول عدد صدر من مطبوعته بعد الهجوم على القناة، إلى كتابة افتتاحية يدين فيها الاعتداء وينذر رئيس الوزراء أنطوني إيدن بأنه سيواجه اتهامات بالخداع لاعتداء جائر، إذا فشل الهجوم العسكري. وكان موقف غيلمور أول خروج عن الصف.
بعد موقف غيلمور في «سبكتاتور»، أخذ عدد من السياسيين والديبلوماسيين المحافظين من الصف الثاني يستقيلون من الوزارة ومن الخارجية اعتراضاً على مخططات إيدن، بدءاً بوزيري الدولة أنتوني تاتينغ من الخارجية وإدوارد بويل من المالية مروراً بسواهما من أعضاء السلك الديبلوماسي. واتضح أن موقف المحافظين لم يكن متماسكاً وخاصة كريستوفر سومز وزير دولة لشؤون الطيران، والأهم صهر السير ونستون تشرشل زعيم المحافظين ورئيس الحكومة السابق، الذي أبدى شكوكه في موقف إيدن ورفض دعوة عمه تشرشل إلى تأييد إيدن علناً. علماً أن تشرشل نفسه كان له اعتراضات على خطة إيدن. وكان راندولف تشرشل، ابن ونستون، المعادي لإيدن، من كتّاب «سبكتاتور».
وسط هذه الأجواء المرتبكة داخل المحافظين، الحزب الأكثر تشتتاً، تولى هارولد ماكميلان الحكم، فتحول من أحد الصقور إلى كبير الحمائم، وبدأ عملية تصفية الإمبراطورية البريطانية، التي قال عنها أيان غيلمور: «إن ثورة العراق في تموز/ يوليو 1958 واغتيال الأسرة المالكة العراقية في بغداد كانا المؤشر الأكيد على انسحاب بريطانيا النهائي من الإمبراطورية. بعدها، وبسبب السويس، جرت عملية التسلم والتسليم بين بريطانيا والولايات المتحدة، لتتربع واشنطن على عرش إمبراطورية جديدة ورثتها، لم تعد لندن قادرة على حملها».
وظل أيان غيلمور، طوال حياته الصحافية والسياسية، من المحافظين المعتدلين المحسوبين من أصدقاء الشرق الأوسط والمتفهمين لظروفه.
مقابل «الغارديان» كانت «التايمز» التي أدت، بطريقتها الخاصة، دوراً أساسياً في أزمة السويس. فكان إيدن يجتمع باستمرار مع رئيس تحريرها السير وليم هايلي ويعطيه من المعلومات والأسرار ما لا يعرفه معظم وزرائه. وكان هايلي وجريدته يؤيدان في بداية الأزمة إيدن وسياسته في أزمة السويس، لكنه سرعان ما ابتعد عن إيدن، عندما لم يعد رئيس الحكومة البريطانية يتقبل أي موقف حيادي لا يدعم سياسته مباشرة. وتوقفت اجتماعات الرجلين. وابتعد هايلي عن إيدن، ولم تعد «التايمز» تعبّر أو تدافع عن سياسة «داونينغ ستريت» ومواقفه، وعمَّ الفتور بين الجهتين حتى سقوط إيدن، وكان هذا الفتور من التقاليد «الجنتلمان» بين الصحافة والسياسيين في تلك الأيام، من غير أن تنتقل العلاقة من حالة التأييد إلى حالة العداء السافر.
وكانت افتتاحيات دافيد أستور في «الأوبزرفر» الأعنف والأقوى ضد الإنذار البريطاني ــــ الفرنسي المشترك لمصر، وضد العمل العسكري، حتى أصبحت مقالاته توزع في التظاهرات التي كانت تنظم في حينه ضد العدوان. في ذلك الوقت، كانت صفحات «الغارديان» و«التايمز» مسرحاً لنقاش مستفيض حول قانونية الموقف البريطاني وحججه في تأميم القناة، وحول شرعية التهديد العسكري بالتدخل. ولم يكن الرأي العام البريطاني قد شهد انقساماً بهذا الشكل منذ أيام أزمة ميونيخ في العام 1938 (التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية)، ولم يكتف المؤيديون لحكومة إيدن والتدخل البريطاني بالضغوط الاقتصادية على «الأوبزرفر» و«الغارديان»، بل أخذوا يقاطعون مراسلي الجريدتين في الاجتماعات والندوات التي كانوا يعقدونها ليمنعوا تغطيتهما، ويتهمونهما «بالخيانة» لأنهما لا تؤيدان «أولادنا بالكاكي» ــــ أي الجيش البريطاني.
وتصاعد العداء للجريدتين وازداد نفور القرّاء المحافظين منهما، واتُّهمت «الغارديان» علناً بالخيانة و«الأوبزرفر» بالتجديف. وعلى الرغم من المقاطعة الإعلانية ارتفع قليلاً توزيع الجريدتين. لكن الضرر كان على المدى البعيد قد وقع.

هنا حدثت ثلاثة أمور صحافية أدّت دوراً مصيرياً في أزمة السويس:
1 ـــ إزاء تطور أحداث السويس يوماً بعد يوم، استعانت «الأوبزرفر» بدينغل فوت، المحامي والقانوني الضليع والنائب السابق عن حزب الأحرار في مجلس العموم (وشقيق مايكل فوت، زعيم حزب العمال في سنوات لاحقة والكاتب في صحيفة «تريبيون» اليسارية حينها، وأيضاً شقيق هيوفوت حاكم قبرص ومندوب بريطانيا باسم اللورد كارادون في الأمم المتحدة فيما بعد). وكانت افتتاحية دينغل فوت من أعنف ما كتب في إدانة احتيال سياسة حكومة إيدن وعدم شرعيتها وتواطؤها. وهاج نواب حزب المحافظين في مجلس العموم وماجوا، وأدانوا كاتبها واتهموا الجريدة وصاحبها بالخيانة. ودخلت هذه الافتتاحية، التي كانت سبباً في تقويض حكومة إيدن فيما بعد، تاريخ حكاية السويس.
2 ـــ كان لــ«الغارديان» مراسل في الشرق الأوسط اسمه جيمس موريس(**) (اشتهر كثيراً فيما بعد) بعث من قبرص رسالة نشرتها الجريدة في صدر صفحتها الأولى في 20 تشرين الثاني/نوفمبر يؤكد فيها أن فرنسا، والطيارين الفرنسيين بالذات، أدّت دوراً أساسياً في التواطؤ مع إسرائيل في الهجوم على مصر. وروى موريس على لسان الطيارين الفرنسيين الذين التقاهم في مطار القاعدة العسكرية البريطانية في قبرص، كيف كانوا يهاجمون المصريين في سيناء وهم يطيرون فوق الأراضي الإسرائيلية ويرمون المؤن والذخائر للإسرائيليين فوق سيناء. ويقول موريس في رسالته لــ«الغارديان» إن الطيارين الفرنسيين هم الذين كانوا يقصفون بالنابالم، وبدقة متناهية، المركبات والآليات المصرية المحملة بالعتاد والجنود، والتي رآها تحترق في الصحراء. وعزا موريس انتصار إسرائيل في حرب سيناء إلى دور الطيران الفرنسي.
لكن سرعان ما نفى وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال موشي ديان ما ذكره موريس، كما نفت وزارتا الدفاع والخارجية لكل من فرنسا وإسرائيل هذه المعلومات. وكانت «الغارديان» أول من أشار علناً وبوضوح إلى التواطؤ البريطاني ـــ الفرنسي مع إسرائيل في الهجوم على مصر. وقد نفاه إيدن ـــ كاذباً ـــ أمام مجلس العموم في 20 كانون الأول/ديسمبر بقوله: «ليس هناك معرفة سابقة بأن إسرائيل ستهاجم مصر».
3 ـــ الأمر الثالث، والذي جاء نتيجة للفتور بين «التايمز» وإيدن لوقوفها على الحياد، أنها نشرت خبراً هز صدقية إيدن، مفاده أن رئيس الحكومة البريطاني حاول إقناع كل من الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية بإتلاف نسخ الاتفاق المكتوب معها والموقع في «سيفر» بباريس، وينص على تواطؤ الثلاثة في العدوان على مصر، وكيف رفضت كل من باريس وتل أبيب طلب لندن.
يروي أحد مؤرخي الصحافة البريطانية، أن لورنس سكوت، مدير إدارة «المانشستر غارديان» دخل على هثرينغتون، رئيس التحرير، حاملاً أخباراً سيئة عن هبوط التوزيع وغياب الإعلان نتيجة لموقف الجريدة السياسي. وبعدما أعطى مدير الإدارة الكثير من الأرقام عن تدهور الأوضاع الاقتصادية في الجريدة، التفت إلى رئيس التحرير وقال له: أتمنى أن لا يؤثر هذا كله فيك، فتضطر إلى تغيير سياسة الجريدة. رأيك يجب أن يبقى حراً لتبقى الجريدة مؤثرة وحرة، مهما كان الثمن. القراء يعودون والإعلان يعود. لكن الحرية ستفقدها إلى الأبد إذا فرّطت فيها!


رياض نجيب الريس
الجمل

الحلقة المقبلة:
أسرار التواطؤ بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل

هوامش

(**) جيمس موريس صحافي وكاتب إنكليزي، كان مراسلاً لعدة صحف بريطانية، منها «الغارديان» و«التايمز» في الشرق الأوسط، خلال الخمسينيات والستينيات، وأمضى سنوات عدة في معظم البلدان العربية. له عدّة مؤلفات أهمها كتاب «سوق سلوقيا» الصادر في مطلع الستينيات عن العالم العربي، وثلاثية «وداعاً للأبواق» عن سقوط الأمبراطورية البريطانية. تحول اثر عملية جراحية إلى امرأة في السبعينيات وغيّر اسمه من جيمس إلى جان. وكان قبل ذلك متزوجاً وله أولاد. وألّف عدداً من كتب الرحلات والتاريخ.

رياض نجيب الريس يكتب لـ(الجمل)عن حرب السويس والتاريخ الذي يعيد نفسه

 خمسون عاماً على حرب السويس (2 ـ5) (3ـ5) (4 ـ5) (5ـ5)

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...