شوقي عبد الأمير: العراقي محكوم بتراجيديته

10-10-2006

شوقي عبد الأمير: العراقي محكوم بتراجيديته

الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير، المقيم في الشعر والدبلوماسية ويعمل عليهما معا متلازمين منذ أكثر من ثلاثين عاما، صدر له مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر: مقاطع مطوقة و خيلاء . عن إصداريه الشعريين وتأمله في راهن الشعر،
ماذا عن عودتك تائبا من الدبلوماسية الى الشعر عبر إصدارين جديدين هما خيلاء و مقاطع مطوقة ، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر...
؟ لم أرحل عن الشعر لأعود إليه ولم أخن الشعر لأتوب إليه، إنني أقيم في الشعر والدبلوماسية معا منذ أكثر من ثلاثين عاما ولم أتوقف عن العمل والكتابة، كل الدواوين التي صدرت لي في فرنسا والعالم العربي كتبتها ونشرتها وأنا أمارس عملي كدبلوماسي عربي تارة أو في منظمة اليونسكو تارة اخرى كما كان عليه الحال في بيروت في الفترة بين العام 1996 و.2003 وآخرها هذان الديوانان مقاطع مطوقة و خيلاء ، الأول كُتب بعد عودتي الى العراق بعد غياب دام أكثر من ثلاثين عاما في المنفى والثاني قصائد حب.. ولعل أفضل من عبّر عن هذين الديوانين وبإيجاز، هو الصديق المفكر علي حرب عندما قال هما ديوانان في الحب وفي الحرب.
إن اللغة هي الأداة التي يقيم عبرها الدبلوماسي العلاقات مع العالم. وعلى وجه التحديد في رسم صورة الشعب والدولة التي يمثلها والتعبير عن شخصيتها السياسية والثقافية والإنسانية وفي نفس الوقت فإنه ينقل عبر اللغة نفسها صورة الآخر الذي يعيش في وطنه وبين مواطنيه...
غالبا ما يُنظر الى الدبلوماسي في كونه بريدا مُترفا بين الدول ولكنه أعمق من هذا بكثير لأن الحضور التمثيلي بكل معنى الكلمة للأمم والشعوب من خلال شخصية فرد واحد هو بحد ذاته اختزال شعري يُشكل فيه الدبلوماسي الصورة والمفردة معا.
ومن هنا فإن الكتابة الشعرية التي هي جنين اللغة بامتياز تلتقي مع هذا الشكل التمثيلي الاستعاري لدى الدبلوماسي... ثم ان التعبير والجملة المكثفة ذات الشحنات والحدود والظلال التي يفترض توفرها تظل مشتركة بين القصيدة والعبارة الدبلوماسية...
إن المفترق بين الدبلوماسي والشعري يتحدد بين الأنا الصغيرة والأنا الكبيرة من حيث المضمون وفي الأبعاد الجمالية والإبداعية من حيث الشكل.
يمكن للدبلوماسي الشاعر أن يختزل رسالة الوطن في جذرها الذي يظل شعريا بالضرورة.
ألم يكن جورج سيفيرس، الشاعر اليوناني الكبير الحاصل على جائزة نوبل سفيرا في بيروت وبغداد... وبابلو نيرودا قنصلا دائما لشيلي في جيبوتي وإسبانيا... وهل استقال نزار قباني كسفير لسوريا لأنه وجد تعارضا بين الدبلوماسية والشعر؟ لا أدري...
على أي حال مات سان جون بيرس وهو ألكسيس ليجيه الأمين العام لوزارة الخارجية الفرنسية، أعلى درجة دبلوماسية بعد الوزير بعد ان وقع باسم فرنسا معاهدة ميونيخ الوصمة كما يسمونها الفرنسيون والتي بموجبها أغمضت فرنسا عينيها عن احتلال هتلر لأوروبا الشرقية قبل أن تقع هي الأخرى ضحية لها.
أتذكر بهذه المناسبة الحوار الذي أورده ليفي شتراوس، عالم الأثنولوجيا الكبير مؤلف الإنسان العاري في مذكراته التي نشرها تحت عنوان من بعيد ومن قريب ، بينه وبين جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار عندما زاره في منزله في نيويورك وكان يشغل منصب المستشار الثقافي لفرنسا وفيه يذكر ان ضيفيه كانا على مسافة وبرود في النظر إليه كدبلوماسي وعالم أثنولوجيا في آن، خاصة ان سيمون دي بوفوار حينما علمت ان زوجته منشغلة في الاعتناء بطفله الذي لم يكن له سوى بضعة أيام من العمر قد أثار لديها نوعا من التهكم... ترى هل يعكس هذا التناقض بين المثقف الحر كما تخيله سارتر ودي بوفوار وبين الموظف الدبلوماسي ليفي شتراوس... أم تُرى هو الصراع الأعمق بين الوجودية كنظرية لتفسير العالم والسلوك البشري وبين نظرية علم الأجناس كما أسس لها شتراوس؟
الجملة الغرامية لديك مغلّفة بأردية وأوشحة كثيرة من الوطن تارة ومن الأرض وسواها ترى لماذا لا تُبقي العبارة الغرامية عارية؟
؟ سؤال جميل، لا أدري إذا قلت مثلا:
 في أعالي ذراعيكِ جنائن معلقةٌ
وأنا لست آدم...
هل في هذه العبارة غلاف ميثولوجي؟ وهل هي مؤطرة دينيا؟ لنفهم بالضبط ماذا يعني بالنسبة لكِ أن تكون العبارة الغرامية عارية.. إنني أشعر ان الأعماق هي في الواقع أكثر أشكال العري تجسدا ولكنها تلتحف بالضرورة بعتماتها هل التعري هو كشف الظاهر أم كشف الباطن؟ وإذا كان لي ان أعشق امرأة فذلك يعني أنني أقودها الى تلك العتمات حيث أستطيع أن أضيء بها فأراني كما أنا. ولكن بالطبع هناك الجسد... وتلك محاورة في أوائل الألف باء وهو مسبار يمكن ان يحلق بعيدا عاليا عندما تتقد فيه كل مباضع اللهب التي هي مصادر الطاقة والاشعاع الروحي آتية منه.
أمام مكتبي تمثال صغير لأفروديت، أرى فيه تقاطيع قريبة بشكل ما من جسد حبيبتي، لا أقول هذا بالمعنى المجازي بل إنني أرى مفاصل التمثال أمامي وأقيم مقاربة فعلية مع صورة الحبيبة العارية.. هل في ذلك غلاف أسطوري للعبارة الغرامية؟ إذا كان الأمر كذلك فإنني على الأقل في الشعر أقرب الى هذا الاشتباك بين الماضي والحاضر بين الطيف والمادة، هذا التداخل الذي ربما هو الظل الأعمق للاشتباك بين جسدين بالنسبة لي في حالة الحب.
لا أكذبكِ ان سرير اللغة الوثير يمكن ان يجرف بعيدا الى مقاربات في التعري والتقنع يصعب التمييز بينهما، وانني أجد في العشق لغة الحرية المطلقة فأرى العراء أجمل ثوب والثوب حالة من العري الملتبسة التي تسعى الى التجرد الكلي وفي هذا السعي عري ليس هناك ما هو أجمل فضاء منه.
التراجيديا العراقية
العراقي محكوم بالعراق في شعره وسوى ذلك. هل في الأمر خصوصية للعراقي أكثر من أي مواطن في بلد آخر في مثل هذه العلاقة؟
؟ يشبه هذا السؤال سابقه بالنسبة لي فهو التلاحم والاشتباك بين الفرد والمحيط الجغرافي البشري المحدود في خارطة اسمها الوطن.. والحالة هذه.. العراق.. كتبت في مقاطع مطوقة :
 لم أتوسّم وعداً يكون الوعدْ
ولا حقاً يكون الحقْ
ولا أرضاً تكون عراقْ..
ذلك نزوع أتنكّر له وبصوت عال في هذه الأبيات.. فأنتِ تقرئين هذه الصيحة ب لا.. ليس العراق بالنسبة للأرض هو الوعد بالنسبة لكل وعد.. ولكن في هذا الإنكار بصوت عال التباس لا يُطمئن وبالأخص لا يُطمئنني أنا ولهذا أحاول التخلص من هذه الفكرة تماما كما كان يقول الحلاّج من على صليبه:
 أغيثوني منه
انه العشق الإلهي الذي وصل بالحلاج الى الاستغاثة بالآخرين طلبا للخلاص والنجاة بعد ان قطع العشق أوصاله و نثرها رماداً فوق دجلة.
مثل هذه العلائق تولد بين العاشق والمعشوق بالمفهوم الصوفي، وليس الديني بالطبع، وفي العلاقة مع العراق بالنسبة لي شيء من هذا... خاصة ان مشهد الذبيحة العراقي الملون مثل زجاج الكنائس أمام أشعة الشمس على كل الشاشات هذا المشهد بحد ذاته يقودك دون أي تردد الى حالة التماهي هذه والتي تحس بالاختناق كلما ذهبت بعيداً فيها. إن العراق مشهد تراجيدي ليس في الحاضر فقط... وهذه التراجيديا بحد ذاتها مصهر إنساني للعراقيين أنفسهم وقد عبّرت عن ذلك ايضا في مقاطع مطوقة :
 في زمن التراجيديا تتضاعف جاذبية الأرض، تبلغ درجتها القصوى من الامتصاص... هكذا أتذكر نيوتن في مدرسة الفرات الابتدائية للبنين في سوق الشيوخ عام 1956 .
ولهذا سأقول ان العراقي محكوم بتراجيديته.. ولعل المتأمل لتأريخ العراق يجد شيئا من هذا التواصل التراجيدي حيث ان أقدم مرثية كتبت في العالم كانت في أور وعنوانها الشعب ينوح ترى هل هي الاقدم ام الاحدث لا أدري...
العولمة السفريه
لننتقل الى عالم الآن... وكل ما يقال عن هذه العولمة... اين الشعر منها؟
؟ الشعر يا سيدتي هو العولمة في جذرها والشعر الذي لا يصدر عن عولمة يظل في جحر مهجور فوق هذه الارض... لكن المشكلة ليست قائمة في العولمة الشعرية التي هي هدف وغاية قصوى ولا أقصد العالمية طبعا بل انها قائمة في العولمة السياسية التي تعني هيمنة السلطة العظمى ككوكب مشع أحادي تدور حوله النجوم والافلاك والنجميات التي يكابر بعضها ويخر البعض الآخر.
لا حياة للشعر خارج هذه الكونية التي قد تختصرها عبارة هنا وصورة هناك، لا بل قد يمنحها روحاً وألقاً انتقالها الى اللغة وتحولها الى حدث من خلال تجسدها في القصيدة.
كنت أقول دائما ان الشعر منبث في كل شيء حتى في الموت لم نقرأ بعد تلك الملحمة التي يقول البعض عنها انها مكتوبة بحبر الضوء فقط عندما ينتقل هذا الشعر الى الكلمات واللغة نسمي ذلك قصيدة.
العولمة السياسية ديدن آخر... وهكذا شأن كل الافكار والخلاصات والقيم عندما تنتقل الى السياسة فهي تأخذ شكلا كارثيا في الغالب بسبب الطابع القسري الذي تفرضه السلطة وتحيا به... ولكنها عندما تظل في المثال الافلاطوني فإنها تحتفظ بالجانب الجمالي بالاحرى ومن يتأتى مفهوم الحرية في الابداع الذي يصل الى الانفلات في حين يقود مفهوم الالتزام في السياسة الى الاستبداد .
كيف تنظر الى النص الشعري، حدوده الفكرية والحسيّة، الفيزيائية والميتافيزيائية، الذاكرة والنسيان فيه؟
؟ إنني أعتقد اننا نقف فوق هرم زمكاني ارتفاعه ستة آلاف عام على الاقل، يمثل الانجاز الإنساني في الكتابة الابداعية التي هي العنصر المكوِّن الاقوى في ملامح الشخصية البشرية... وان هذه الحالة الإنسانية بامتياز هي استقراء شعري قبل كل شيء. يجب أن نملك قدرة ممحاة هائلة لتوجيهها له بنفس الدرجة من النسيان الذي نستطيع في ما بعد فقط ان نكتب القصيدة اليوم، بمعنى، وكما قال أبو نؤاس الى هاو يريد ان يتعلم الشعر إذهب واحفظ آلاف الأبيات... ثم انسها... عند ذلك فقط تكتب الشعر... اننا بحاجة في كتابة الشعر اليوم الى استحضار واختراق واختزال اقصى درجة من المحصلة المعرفية ومن ثم نسيانها ومحوها في عناق، في لحظة عشق، في سفر ولكن بالقدرة الرائعة التي يذكرنا بها جلجامش في اول جملة في الملحمة التي تحمل اسمه:
 هو الذي رأى كل شيء
فغنِّ باسمه يا بلادي...
أجل اننا بحاجة الى مثل هذه الاشراقات التي يمكن وإياها وبعبارة واحدة الاضاءة والمحو والغناء معا... انه الشعر الذي لا يقبل لا صفة لكي تميِّزه ولا لغة لتحده... الشعر... فقط... بالمعنى الذي كان يقوله نيتشه بتواضعه المتعالي:
 إنني لا شيء
شاعرٌ وحسب...

عناية جابر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...