بقلم رياض نجيب الريّس:خمسون عاماً على حرب السويس (5ـ5)

14-10-2006

بقلم رياض نجيب الريّس:خمسون عاماً على حرب السويس (5ـ5)

الجمل : كيف كان المشهد السياسي قبل أزمة السويس وخلالها وبعدها؟
في مصر ، كان البريطانيون قد أصبحوا مكروهين إلى درجة كبيرة بسبب تصرفاتهم العنصرية الرعناء، حتى إن ونستون تشرشل، الاستعماري الأول ورجل الأمبراطورية (الذي استقال في العام 1951 وسلّم الحكومة إلى أنطوني إيدن) أخذ يشعر في العام 1951 بأنه لم يعد من الممكن مقاومة المدّ الوطني المعادي للاستعمار، عندما تكوّنت مقاومة مصرية مسلحة أخذت تهاجم القوات البريطانية ومعسكراتها في منطقة قناة السويس. وما إن مرّت أربع سنوات على قيام الثورة المصرية، حتى كانت القوات البريطانية قد جلت عن منطقة القناة وعموم مصر في حزيران/يونيو من العام 1956. وعلى الرغم من ذلك لم تتحسن العلاقات المصرية ـ البريطانية.
من جهة ثانية، كان جمال عبد الناصر مهموماً بتدبير تمويل بناء السد العالي بعدما سحبت الولايات المتحدة يدها منه. وبينما كان موضوع السد أساسياً في مشروعات عبد الناصر لتحديث مصر، كان رأي جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأميركي، أن مشروع السد سيشكل عبئاً مالياً كبيراً على اقتصاد مصر لا تستطيع تحمله.
كانت هذه صورة الأوضاع قبل الحرب، أما بعدها فتغيّرت الصورة كلياً. خرج عبد الناصر من أزمة السويس منتصراً أساسياً. قبل الحرب كان نظامه يواجه معارضة عنيفة داخل مصر، من الأخوان المسلمين ومن الشيوعيين إلى جانب الطبقة السياسية الحاكمة في العهد الملكي، وغيرها من التنظيمات الصغيرة المعارضة الأخرى. بعد الحرب سقطت هذه المعارضات كلها لأنه أصبح البطل الوطني الذي استطاع «أن يشد الأسد البريطاني من ذيله». واتسعت شعبيته في العالم العربي كله. وأصبح رائد القومية العربية وأسد العروبة وبطل حركات التحرير في العالم الثالث.
ودفع انتصار السويس عبد الناصر إلى خوض مغامرات عدة، بدءاً بالوحدة بين مصر وسورية وإرسال قوات عسكرية مصرية إلى اليمن لدعم ثورة الجمهوريين هناك ضد الملكيين، وإرسال قوات إلى الكويت للتصدي لتهديدات عبد الكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق، وقوات أخرى إلى الكونغو لدعم ثورة لومومبا. وساقه نجاح تأميم القناة إلى تأميم الصناعة في مصر والاستيلاء على الشركات الكبرى. وألهمت سياسات ومواقف عبد الناصر هذه العديد من الزعماء العرب الذين قاموا بتقليد زعامته ومؤسسات حكمه، من التأميم إلى المخابرات. ولم يوقف صعود عبد الناصر ونجاحاته إلا هزيمة حرب 1967 أمام إسرائيل. فانقلبت الأوضاع، وخفّ وهج الناصرية، إنما بقي هو في الذاكرة العربية إلى اليوم. لكن النصر الذي حققه عبد الناصر في السويس لم يكن وليد عبقرية رجل عربي فذ، بقدر ما كان أيضاً «سوء إدارة» تدخّل قوى أوروبية كبرى هرمت ولم تعرف كيف تقرأ متغيرات التاريخ في الشرق الأوسط.
في بريطانيا ، كان المجتمع إبان أزمة السويس منقسماً على نفسه في العام 1956 انقساماً لم يشهده من قبل في قضية تتعلق بالسياسة الخارجية. وعاد هذا الانقسام وتكرر في العام 2003 في قضية غزو العراق. كان العالم في العام 1956، يختلف كلياً، بل جذرياً، عما صاره بعد خمسين سنة. كانت ذكريات الحرب العالمية الثانية ما زالت ماثلة للأذهان، والمستعمرات البريطانية العديدة لم تنتفض كلها بعد، وحركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا ما زالت طرية العود، ما عدا الهند، التي لم يكن بعد قد مرّ على استقلالها عشر سنوات. كان هناك شعور «رباني» لدى معظم البريطانيين بأن لبريطانيا حقاً في خيرات مستعمراتها.
كان البريطانيون لا يثقون بعبد الناصر. لذلك سحبت بريطانيا عرضها المشاركة في تمويل السد العالي، بتشجيع من دالاس الذي اقترح أن يموله الروس الذين كانوا ينتظرون هذه الفرصة إذا انسحب الغرب. إلّا أن بريطانيا لم تحسب حساب رد فعل عبد الناصر الفوري، وهو تأميم قناة السويس، لاستخدام مداخيل القناة في بناء السد، واستبدال هذه المداخيل عوضاً عن القرض الأميركي ـــ البريطاني الموعود.
وأدركت بريطانيا بعد الحرب أنه لا يمكنها أن تقوم بعد الآن بأي عمل حربي من دون دعم أميركا وموافقتها. وكانت حرب جزر الفوكلاند ضد الأرجنتين التي شنتها مارغريت تاتشر رئيسة الحكومة البريطانية في العام 1982، بدعم من الرئيس الأميركي رونالد ريغان، نوعاً من الانتقام لحرب السويس قبل 26 سنة. وعندما أزف موعد غزو العراق، لم يكن أمام توني بلير إلّا اللحاق بجورج بوش. وسيبقى كل سياسي بريطاني بعده لاعباً ثانوياً يلهث وراء اللاعب الأميركي.
في فرنسا كان المشهد مختلفاً. فردود الفعل الفرنسية كانت عنيفة أيضاً، إنما لأسباب مختلفة. أولها أن لفرنسا حصة أساسية في شركة قناة السويس التي كان مركزها الرئيسي باريس، ويديرها فرنسيون من الإسماعيلية. ثانيها، أن فرنسا كانت تخوض حرباً استعمارية صعبة في الجزائر، بعد استعمار دام 130 سنة، وأن حكومة غي موليه الاشتراكية كانت مصممة على القضاء على الثورة الجزائرية هناك، بزعامة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية بكل ما تملك الجمهورية الرابعة من قوة. وبلغ عدد القوات الفرنسية التي كانت تحارب في الجزائر في صيف 1956، 400 ألف عسكري. وكان عبد الناصر يدعم ثورة الجزائر بالمال والسلاح والخبرات. لذلك كان الفرنسيون، كالبريطانيين، راغبين بالتخلص من عبد الناصر. ومن هنا بدأ التنسيق العسكري بين بريطانيا وفرنسا لإعداد خطة لغزو مصر عن طريق القناة.
عندما توقف القتال، استنتجت فرنسا دروساً واضحة، أهمها أنها لا يمكنها الاعتماد على بريطانيا أبداً لأن بريطانيا «جحودة»، على الرغم من كونها أكبر قوة أوروبية في حينه. كما أدركت فرنسا أيضاً أن بريطانيا تضع «العلاقات الخاصة» التي تربطها بأميركا، فوق كل المصالح الأوروبية. أما أميركا بالنسبة إلى فرنسا، فهي بلد مزعج بضخامته وغير جدير بالثقة. لذلك كان على فرنسا أن تتطلع إلى أمكنة أخرى بحثاً عن حلفاء موثوقين. وهذا النوع من الحلفاء لا يتوفر بسهولة. لذلك أبعدت فرنسا بريطانيا التي كانت تصفها بأنها «حصان طروادة الأميركي» عن «معاهدة روما» التي وقعت في العام 1957، بعد عام واحد من أزمة السويس. وبقيت لندن معزولة عن أوروبا حتى العام 1973، عندما وضعت قدمها داخل الاتحاد الأوروبي.
ولم يكن مستغرباً عندما جاء العام 2003، أن تؤدي فرنسا في حرب العراق دور أميركا في حرب السويس عام 1956 ، وإن لم يكن جاك شيراك في قوة دوايت أيزنهاور في إيقاف الحرب بالضربة القاضية.
في الولايات المتحدة، كان للمشهد منحى آخر. فقد قابلت إدارة أيزنهاور الاستعدادات البريطانية ــــ الفرنسية بشيء من الاستخفاف والتردد، وخاصة أن أميركا كانت منذ بدء أزمة السويس تعارض استعمال القوة العسكرية لحلفائها ضد مصر. وكان محط اهتمام أيزنهاور انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، إذ كان مرشحاً لها لدورة ثانية، وكان يطمح إلى الفوز فيها كــ «رئيس سلام». وكان أيزنهاور يعلم علم اليقين أن الناخبين الأميركيين لن يصوتوا له إذا أخذهم إلى مغامرة حرب خارجية لا مصلحة أميركية فيها، وحيث يمكن أن يقتل فيها جنود أميركيون. وكان أيزنهاور أيضاً من رعيل الجيل الأميركي الذي نشأ بحكم تربيته في أجواء معادية للاستعمار التي كانت منتشرة في ثقافة أميركا في مطلع القرن العشرين، ومعادية لمؤسسات الاستعمار بعدما تحررت هي في حرب استقلالها من الاستعمار البريطاني.
ومن الأسباب الأخرى لموقف أيزنهاور، خوفه من انتشار الحرب الباردة الجديدة في بلدان العالم العربي وآسيا وأفريقيا إذا استمرت بريطانيا وفرنسا بتهديد مصر، وبالتالي دفعهم نحو المعسكر الشيوعي. لذلك، عمد أيزنهاور ودالاس إلى إلهاء الدول الأوروبية، ومنها بريطانيا وفرنسا بالطبع، بدعوتها إلى عدد من المؤتمرات حول أزمة السويس التي لا طائل تحتها، وتحت مسميات عديدة، في محاولة لإضاعة الوقت وسحب البساط من تحت بريطانيا وفرنسا لتأخير القيام بعمل عسكري. وعطلت مناورات الديبلوماسية الأميركية من اندفاع الحرب عند وقوعها. وكان أيزنهاور قد صُدم عندما بلغه أن إيدن لا يريد فقط أن يستعيد القناة ويلغي حالة التأميم، بل يريد أيضاً القضاء على عبد الناصر وإسقاط نظامه. وطرحت في الذهن الأميركي ــــ ربما للمرة الأولى ــــ فكرة تغيير الأنظمة في العالم الثالث.
عندما وقعت الحرب كان أيزنهاور آخر من يعلم بتواطؤ بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل. وشعر بأن هناك مَنْ خانه بين حلفائه. وعلّق أمام مساعديه بقوله: «إنني لم أرَ قوى عظمى تفشل بهذا الشكل في أمر كهذا». وقرر أيزنهاور أن يضع حداً لهذا العمل. وضربت أميركا ضربتها موجهة إياها إلى اقتصاد بريطانيا الضعيف وعملتها المهزوزة في حينه، عندما منعت واشنطن صندوق النقد الدولي من إعطاء قرض مستعجل إلى بريطانيا، ما لم توقف الأخيرة التدخل العسكري فوراً ضد مصر وتستدعِ قواتها من السويس. فما كان من بريطانيا، وهي تواجه إفلاس خزانتها وانهيار عملتها، إلّا أن قبلت فوراً بوقف الحرب. وفي 7 تشرين الثاني/ نوفمبر استسلم إيدن لمطالب أميركا تاركاً قواته معلقة في منتصف الطريق بين سيناء والقناة. وغضب الفرنسيون لهذا القرار، واحتجّوا، إلّا أنهم عادوا واستسلموا لأن القيادة العسكرية للعمليات كانت لبريطانيا.
ربح أيزنهاور انتخابات الرئاسة. وأكدت أزمة السويس حجم أميركا كقوة عظمى لا تجارى، لا ينافسها في حينه إلّا الاتحاد السوفياتي. وكانت السويس أيضاً آخر أزمة حرب أو سياسة تقف فيها الولايات المتحدة ضد إسرائيل وتتخذ موقفاً شبه عدائي منها، على طول امتداد أزمات الشرق الأوسط، كبيرها وصغيرها.
عند هذا المفترق أصبحت الولايات المتحدة هي القوة الفاعلة المسيطرة في الشرق الأوسط، معززة علاقاتها مع إسرائيل وإيران والسعودية. وفي كانون الثاني/ يناير من العام 1957 أعلن عن «مبدأ أيزنهاور» الذي أفصح عن استعداد أميركا لمساعدة أي بلد يواجه اعتداء أو خطراً شيوعياً. وفي العام 1958 طبق مبدأ أيزنهاور عندما تمَّ إنزال قوات أميركية في لبنان في عهد الرئيس كميل شمعون، لحماية الدولة اللبنانية الموالية للغرب.
في إسرائيل كانت هناك عدة مشاهد، أولها أن إسرائيل حققت أهدافها رغم إرغامها على الانسحاب من سيناء في العام 1957 . فبعد حرب السويس، ونتيجة لها، جرى وضع قوات دولية على الحدود في سيناء بين إسرائيل ومصر، التي شكلت نوعاً من الحماية لحدود إسرائيل وتعريفاً لها، وظلت هذه القوات الأممية هناك حتى ارتكب عبد الناصر غلطته التاريخية الفادحة عندما طلب سحبها في العام 1967، مما أدى إلى هزيمته في الحرب التي تبعتها. واستفادت إسرائيل من فترة السنوات العشر التي مرت بين 1957 و1967، فعملت على استيعاب مليون مهاجر يهودي جديد. وبنت قواتها المسلحة بما في ذلك سلاحها النووي، واستبدلت حليفتها فرنسا، بحليف أهم وأقوى وأبقى هو الولايات المتحدة. وأصبح هناك أمر واقع جديد شرحه مؤرخ آخر بقوله، إنه «وضع غير مستقر في حالة سريعة الاشتعال إلى درجة أن أي «كبريتة» قد تفجرها».
هكذا كانت الأوضاع نتيجة للعدوان الثلاثي والتواطؤ المشترك بين الدول الثلاث، التي جعلت من إسرائيل أداة للاستعمار ووسيلة للاعتداء وجسراً لخدمة المصالح السياسية الأجنبية في الشرق الأوسط. وظلت عملية التواطؤ الثلاثي على مصر في حرب السويس تعيش في الذاكرة العربية، فحتى عندما وقعت حرب 1967، الأقصر زمناً من حرب السويس، سارعت الدول العربية إلى اتهام كل من بريطانيا وفرنسا بأنها تحارب مع القوات الإسرائيلية. وعندما نفت الدول المعنية هذا الأمر بشكل قاطع، لم يصدقها أحد من العرب. فقد كانت «الكذبة الكبرى» التي جرى استخدامها في حرب السويس، ما زالت ماثلة في الذاكرة العربية ــــ وستبقى إلى أمد طويل.
أما المشهد في الأمم المتحدة، فكان مختلفاً جداً عما سبقه وما تلاه في الخمسين سنة الأخيرة. ولعبت أميركا في هذا المشهد دوراً أساسياً في تاريخ الأمم المتحدة، عندما تقدمت بقرار إلى الجمعية العامة في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1956 يدعو إلى وقف إطلاق النار وفاز بأغلبية 64 صوتاً مقابل اعتراض خمسة أصوات. وصوّت الاتحاد السوفياتي إلى جانب أميركا في هذا القرار.
وللتحايل على «الفيتو» الذي تملكه كل من بريطانيا وفرنسا داخل مجلس الأمن، دعت أميركا الجمعية العامة، لأول مرة في تاريخها، إلى اجتماع طارىء بدلاً من مجلس الأمن (حيث لا تملك أي دولة حق الفيتو في الجمعية العامة) لبحث اقتراح كندي يدعو إلى جمع قوات طوارىء وإرسالها إلى القناة لوقف إطلاق النار. وكانت هذه أول فرقة «قبعات زرق» للطوارىء تنفّذ مهمات حفظ السلام في مسيرة الأمم المتحدة.
تشير أزمة السويس، بعد نصف قرن من حدوثها، إلى نقص في تفسير التاريخ، قوامه أن الذين لا يستطيعون تذكر الماضي، محكومون بإعادته دائماً. وقد يكون هذا صحيحاً، لكن الأصح أن الذين يسيئون تفسير الماضي محكومون بعدم إتقان التعامل مع الحاضر. حذار! &

 


رياض نجيب الريس
الجمل

رياض نجيب الريس يكتب لـ(الجمل)عن حرب السويس والتاريخ الذي يعيد نفسه 

 خمسون عاماً على حرب السويس (1ـ5)  (2 ـ5)   (3ـ5)  (4 ـ5)

فصول من كتاب يصدر للمؤلف
في الخريف المقبل بعنوان:
«الحرب المنسية: السويس 1956»
«عن شركة رياض الريّس للكتب والنشر» ـ بيروت».

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...