سعاد جروس تكتب عن «ما يدعونه بالاستقرار»

13-10-2006

سعاد جروس تكتب عن «ما يدعونه بالاستقرار»

الجمل-سعاد جروس: في طبعتها العربية, نشرت مجلة «نيوزويك» في صفحة رسائل مقالاً بعنوان «في ضيافة بري» كتبها الشاعر العراقي علوان حسين المقيم في كاليفورنيا, يروي فيها وقائع اعتقاله من قبل مسلحين تابعين لـ«حركة أمل»؛ يصف علوان بلغة أدبية أجواء مدينة بيروت التي لا تعتقل في سمائها الطيور: «بيروت عاصمة الأحلام والشعر والتسكع والمقاهي الأنيقة, مدينة تسكنها فيروز ووديع الصافي وأنسي الحاج والحرية وفيها عبق من باريس, تسكع على أرصفتها السياب ونزار قباني ومحمد الماغوط وأنا €علوان حسين€». ثم يتحدث عن أجواء مقهى الأكسبريس المكان الأثير للمثقفين والشعراء والصحفيين والسياسيين الهاربين من جحيم بلدانهم. ويصف مجيء الشاعر بول شاول كالطيف متأبطاً حقيبته الجلدية, ومن ثم إطلالة الشاعر عصام العبد الله أحد مصادر الفرح, يحضر فتحضر معه النكتة والدعابة «فلا ندري من أين ينبجس الضحك» ثم فجأة كيف تحول المشهد إلى ما يشبه حانة من حانات أفلام الويسترن, إذ اقتحمت العزلة الشفافة شلة من المدججين بالسلاح, فتحول المكان من خلوة هادئة لطيفة إلى مشهد عنف بوليسي, وحين هم هؤلاء باعتقال علوان, هب أحد رواد المقهى شاهراً مسدسه قائلاً أنه لا يمكن لمثل هذا أن يحدث بحضوره, ويظن الكاتب أن ذلك الشخص ربما كان من المسؤولين عن أمن المنطقة, ويجيبه المسلحون بأنهم لا يعتقلون الشاعر العراقي, وإنما يدعونه إلى شرب فنجان قهوة عند السيد نبيه بري!!
ويتطوع الشاعر عصام العبد الله لمرافقة زميله العراقي, الذي يقول إنهم وضعوا على رأسه كيس خيش, ومن ثم القي في سرداب تمرح فيه الجرذان ليقضي ليلته هناك.
المقالة كانت مفاجأة فعلاً, إذ لم نسمع أن حادثة كهذه قد وقعت, لأنها لو حصلت فعلاً لضجت بها الأوساط الثقافية السورية قبل اللبنانية, وإذا غفل الإعلام عن الحدث, فلن تسكت جماعات حقوق الإنسان, فما بالنا بوقوع هكذا حدث بوجود إعلام لبناني طنان رنان, وجماعات سورية لحقوق الإنسان بالمرصاد لحركات الأمن وسكنات الأمان, تضخ البيان تلو البيان!!
وعندما تولد لدينا الشك, عدنا لقراءة المقال المرة تلو المرة بحثاً عما يشير الى زمن حصول الواقعة, لأهميتها ليس فقط بالنسبة الى أبطال الحادثة من الشعراء, وإنما لما تحمله من مؤشرات خطيرة عن عودة الميليشيات الى شوارع بيروت, ونذر الحرب الأهلية التي يمهد لها أساطين السياسة الدولية, بالإضافة إلى أن الخبر المرعب تضمن اتهاماً لـ«حركة أمل» ورئيسها نبيه بري.
بعد القراءة والتمحيص, لم نجد ما يشير الى الزمن, فهرب الكاتب من بغداد لا يدل إلى حقبة زمنية, فمن ثلاثين عاماً والعراقيون يهربون من العراق, وما زال الهرب مستمراً. أما المقهى البيروتي ورواده من الشعراء, فما زال الأمر كما هو, وإن تغيرت أسماء المقاهي, بول شاول يأتي صباحاً وعصام العبد الله ما زال بئراً للفرح لا ينضب؛ وأجواء بيروت التي قال الكاتب إن شبح الحرب الأهلية يخيم عليها, هي على هذا النحو منذ توقفت الحرب الأهلية. إذاً متى وقعت الحادثة؟ لا مناص من الاستفسار مباشرة من أحد ابطال الرواية, وكان الاتصال بالشاعر الظريف اللطيف عصام العبد الله, فبادرنا بضحكة مؤكداً حدوث الواقعة مضيفاً إليها بعض التفاصيل المهمة, وهي أنه تم وضع كيس على رأسه أيضاً, وعندما رفع الكيس عن وجهه اكتشف أن الشاب المسلح الذي قام باعتقاله وساقه مكبلاً كان تلميذه في المدرسة, وبمجرد فك قيده صفع الأستاذ الشاعر تلميذه المناضل العاق صفعة يشيب من هولها الولدان, فخر المصفوع ملتمساً المعذرة راجياً الغفران. وهكذا ما بين لهجة المرح وجدية التأكيد التبس الزمن, فسألناه عن زمن الحادثة إياها. فقال, خلال الحرب. فسألناه بغباء وذلك للاستيضاح وقطع الشك باليقين: أي حرب, هل هي الحرب الأخيرة في تموز €يوليو€ الماضي؟ فأجاب: لا, بل أثناء الحرب اللبنانية, أي من أكثر من خمسة وعشرين عاماً!!
فتنفسنا الصعداء, وحمدنا وشكرنا الله على أن الحادثة مضى عليها أكثر من ربع قرن, وأن «حركة أمل» لم تتورط بعد عدة عقود بإعادة المظاهر المسلحة الى بيروت, كما تمنينا ألا ينزلق أي طرف لبناني إلى هذا المطب الكارثي.
لكن ما يدعو للتأمل, عدا الأسباب التي جعلت الكاتب يغفل تاريخ الواقعة, إذا ما كانت مجلة النيوزويك تهدف للإساءة لرئيس «حركة أمل». على كل حال, وضعنا نشر الحادثة اليوم إزاء حقيقة توقف الزمن في منطقتنا, ربما إلى أكثر من مائة عام, وتكرار التاريخ لنفسه من دون ملل, وبعدة نسخ وكل منها تتراوح بين الرديء والأردأ, وإن كان الإعجاز الوحيد هو أن هذا التناسخ البليد لم يفقد لغاية الآن الإثارة, وما زال مع كل منعطف يلهو بنا ويعدنا بمستقبل لا يتقدم نحونا قيد أنملة, وكأنما هو الميت لا نحن. فما دار مثلاً في كواليس التحضير لحرب السويس, كما يعيد رواياتها الصحفي الكبير رياض نجيب الريس في سلسلة مقالات بدأ نشرها الأسبوع الماضي, هو ذاته ما دار في كواليس التحضير لشن الهجوم على لبنان, بالتشجيع العربي ذاته مع فارق أنه أيام حرب السويس كان خفياً, وبات بفضل وقاحة إدارة بوش معلناً صريحاً, وما جرى للالتفاف على ما تحقق من نصر للعرب في حرب تشرين 1973, هو ما حصل ذاته في الالتفاف على نصر المقاومة في لبنان, بتحويل النصر جزئياً كان أم كاملاً إلى هزيمة كاملة مكتملة, وقبلها ما حصل أثناء الثورة العربية الكبرى, فكان التحرر من الاحتلال العثماني مقدمة للوقوع بأسر الاحتلال الأوروبي, يتكرر الآن مع تحرر العراق لكن باحتلاله ووقوعه في أسر التوسع الإمبراطوري الأميركي... وهكذا دواليك, سنبقى نغني لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا أغنية ملحم بركات «شو بعدك ناطر, شو ناطر, ما بتسافر شو ناطر؟».
نعم, نحن ناطرين المستقبل الذي لا يأتي, طالما هناك من يرغمنا على تكرار الماضي. هل هذا ما يدعونه بالاستقرار؟!

سعاد جروس

بالاتفاق مع الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...