مظلات حداثية على مفاهيم تراثية

14-10-2006

مظلات حداثية على مفاهيم تراثية

في كتابة «حالة ما بعد الحداثة» يرى ديفيد هارفي أن القرن العشرين جاء ليمزق التفاؤل بقدرة العلوم والفنون على جعل العالم اكثر فهماً للذات، والتقدم الاخلاقي والعدالة في المؤسسات، بل والسعادة لبني البشر، وعند قراءة التجربة العربية في البحث عن مسألة التقدم منذ صيحة جمال الدين الافغاني في الاقتباس من الغرب، وحسين المرصفي في التركيز على اهمية التربية والتعليم ومن ثم في مشروع مالك بن نبي للإقلاع الحضاري ووصولاً إلى فهمي جدعان في بحثه المطول عن اسس التقدم عند العرب والتنظير لإمكان التقدم من الأسوأ إلى الأمام، يرتسم سؤال مفاده هل كان مشروع التنوير والاصلاح العربي محكوماً بعالم طبائعي - نسبة إلى طبائع الاستبداد مؤلف الكواكبي الشهير-؟.

انطوى فكر الاصلاح العربي على لائحة طويلة من المشكلات والتحديات كان ابرزها استبداد الحكم، كما انه احتوى على الكثير من التناقضات المثيرة للقلق الذي ظل حاضراً باستمرار وأول تلك التناقضات مسألة التناقض بين الوسائل والغايات، في لحظة كانت تبدو فيها الاهداف نفسها عصية على الانجاز، وكانت الحرية هي الحلم المرتجى والذي لم يتحقق منه شيء، وكذلك الحال حلم بناء الدولة والديموقراطية...الخ.

الاحلام العربية بدأت منتصف القرن التاسع عشر الذي ما زلنا نعيش تداعيات ازماته التي ظلت مطروحة دونما اجابة او برنامج عملي، ففي حوارية حملت عنوان «لماذا أخفقت النهضة العربية» يرى محمد الوقيدي معقباً على احميدة النيفر، أن رواد النهضة اثاروا مسألة تكييف المؤسسات الاجتماعية والتشريعية التقليدية مع العالم الحديث، كما انهم حاولوا استعادة الامة لتوازنها. وأن العلاقة بين الحاكم والمحكومين لم تكن هي المطلب الاول للنهضة، بل كانت هناك إصلاحات أخرى أولية منها ما هو ديني وتربوي وتعليمي. ويخلص الوقيدي إلى أن رواد النهضة الأوائل كانوا قاصرين سياسياً عن بلورة تصور او نظرية سياسية ملائمة يكون فيها تصور عصر سياسي جديد للبلاد العربية والإسلامية، ويمضي قائلاً: «لقد ظل أولئك الرواد يفكرون في ظل استمرار النظرية السياسية للعصور التي سبقتهم، وعدا المجهود الذي بذله الكواكبي في الكشف عن جذور الاستبداد، فإن ما بلوره رواد النهضة من أفكار كان يتضمن تصوراً عن نهضة ممكنة في ظل استمرار الاستبداد قائماً». (ص، 388).

بهذا المعنى لم تكن المسألة السياسية مطروحة في شكل جيد، أو انها لم تكن تشكل لبّ سؤال النهضة، وعلى رغم صعوبة قبول تعميم وقيدي السابق، الذي يبدو انه تجاهل فيه الحالة التونسية، مثلاً في نموذج ابن أبي الضياف، فإن كبح جماح قوة السياسة المطلقة كان يمثل هاجساً لدى النخب العربية منذ القرن الثامن عشر، الذي يسجل حالات كثيرة وقف فيها العلماء ضد استبداد السلاطين والولاة.

في حوارية بعنوان: «ازمة الفكر السياسي العربي»، يعقب رضوان السيد على مبحث لعبد الإله بلقزيز، بقوله: «لست اختلف مع الأستاذ بلقزيز في ان المسألة السياسية ماهوية أو اساسية في الفكر العربي الحديث، بيد ان كونها كذلك يدعو إلى التساؤل بشأن الصيرورة التي آلت إليها المسألة السياسية بالذات في الفكر العربي». ويعود السيد إلى الوراء متوقفاً عند تجربة الطهطاوي الذي اعتبر ان التجربة السياسية الفرنسية كانت قائمة على أمرين: الحرية والمنافع العمومية، وعلى رغم محاولاته لايضاح معنى الحرية للقارئ العربي بكل السبل، فالواضح ان تكريزه كان على ما سماه المنافع العمومية او الصالح العام، بمعنى انه هدف إلى تطوير دور الدولة - بحسب رأي السيد - من الجانبين الجانب الشعبي، وجانب الحاكم.

إذاً، بموازاة البحث عن اصلاح الحكم والبحث عن الدولة المسؤولة، كان هناك بحث عن دور للدولة وتوصيف لمهامها، حاول الطهطاوي شرحه وتقريبه، لكن البحث العربي الذي جاء بعد الشيخ الازهري صاحب «تلخيص الابريز» صبّ جام غضبه على الدولة ومؤسساتها وانتقل هذا الأمر طوال العقود الخمسة من القرن العشرين، وربما لا يزال حتى اليوم، وهو يعيد السؤال عن نظرة الفكر العربي السياسي، لدور الدولة وكيفية تعامله معها، وهل قدم لها تصوراً حول طبيعة دورها ام انه اكتفى بتذكيرها بالنموذج القديم التراثي دون ان يتكلف بالجهد الفكري السياسي ليقدم بدائل ممكنه.

لكن، مع إرجاع خطاب الإصلاح إلى أسسه المرجعية ومناخاته الفكرية التي قادت إلى انضاجه وتبلوره، ربما يجد المرء ان الظروف الموضوعية للرفض ما زالت مهيمنة على الساحة العربية، ومع الإقرار بشرعية القراءة الثانية لتجربة مصلح سياسي مثل عبدالرحمن الكواكبي او حسين نائيني على الجهة الاخرى من ديار الإسلام، ومن دون تناسي السؤال النهضوي الذي كان مطروحاً في مصر آنذاك أو في المغرب الكبير وبخاصة تونس مع تجربة خير الدين التونسي وابن ابي الضياف، فإن البحث في اسباب الفشل الحداثي او التحديثي لا يزال قائماً انطلاقاً من إمكان إعادة الأسئلة إلى بيوت الخبرة التي انتجتها، كونها لم تحدث تقدماً ولم تغير واقعاً ولم تحمل المجتمع من قاع الاستبداد إلى باب الحرية.

سياسياً، كان الهم تغيير وجه الدولة من المستبدة القبلية والغنائمية إلى الشورية أو الديموقراطية، لكن النتجية كانت تجذر التوريث والقبلية السياسية وتراجع صوت التحديث والإصلاح، كما ان الحداثة السياسية على رغم أنها كانت مؤهلة لتقدم أفقاً جديداً في النظر والعمل يُمكن العرب في حال بنائه وإعادة بنائه من تهديم أوهامهم القديمة ويسعفهم في تقويض دعائم الاستبداد السياسية ومختلف أشكال الحكم المطلق، بهدف فسح المجال أمام مختلف المبادرات القادرة على تطوير نظرنا السياسي، إلا انها أيضاً اصطدمت بمجتمع رافض للتحديث المنشود، وقابل بمصيره ومآله المتراكم في المخيلة المجتمعية التي رأت استحالة التغيير وفضلت بقاء القديم على قدمه.

وفي الوقت ذاته الذي اخفقت به مصائر الاصلاح، فقد خضعت عمليات التحديث إلى اهواء الجماعات المسيطرة والنخب السياسية، كما ان التحديث لم يلامس المجتمع والتراث والفكر والعلم في عمق مكوناته، بل تمت محاولة اضفاء مظلات حداثية على مفاهيم تراثية، ونجمت عن الإخفاق محاولة للذهاب في جهة مخالفة، كانت ترى ان اللهاث وراء الحداثة الغربية هو الضمانة الوحيدة للتحديث، وكانت النتيجة كارثية لأن من انبهروا بالحداثة الغربية ظنوا انها لزاماً تعني إلغاء الماضي بكل أشكاله بحسب رأي سماح احمد فريد في مقالتها التي نشرتها في مجلة «التسامح» - العدد 13، بعنوان: «الحداثة والتقاليد المبتدعة».

مهند مبيضين

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...