ومن الحبر ما قتل

17-10-2006

ومن الحبر ما قتل

إنها ليست الصحافية الاولى التي تتعرض للتصفية في عهد فلاديمير بوتين, لكنها بالتأكيد الاكثر شهرة وتأثيرا في الاعلام الروسي, وربما كانت الاكثر جرأة في كشف المجازر الروسية في الشيشان. اغتيالها قبل اسبوع صدم العالم كله وأظهر, مرة اخرى, ان البعد الاخلاقي للعمل الصحفي في روسيا صار في عداد الموتى.
لم تكن ذات شخصية كاريزمية, ولم تكن القاعة تمتلئ بالحضور لدى القائها المحاضرات, ولم تكن تظهر براعة خاصة في حلقات الحوار التلفزيونية, لكن باعتبارها واحدة من أشهر الصحفيين في روسيا, وواحدة من أشهر الصحفيين الروس في العالم, فانها تجسد, وخصوصا بعد مصرعها, القول المأثور أن لا شيء أقوى من الكلمة المكتوبة.
تركزت كتابات آنا بوليتكوفسكايا على المشهد الروسي, وتحديدا الحرب «القذرة» في الشيشان. ومع أن الاعلام العالمي نأى بنفسه منذ فترة طويلة عن الشيشان لاعتبارات متعددة, فالتغطية الميدانية كانت على جانب كبير من المخاطرة, كما أن القضية معقدة وغامضة. وقد ثابرت آنا على عملها ورواية المآسي التي ترتجف لها الابدان وتنفطر القلوب, وفي عدادها قصة العقيد الروسي الذي أنقذ 89 عجوزا من خرائب العاصمة غروزني من دون أن يتلقى ميدالية, والتلميذ الشيشاني الذي أصيب بمرض مزمن جراء التعذيب الذي تعرض له ولم يحصل على أي تعويض, وكانت كل كتبها ومقالاتها شهادة على مساعيها الدؤوبة وفشلها في الحصول على شروحات وتفسيرات من السلطات الروسية التي كانت تتهرب دائما من الاجابة. في الوقت نفسه لم تكن تتساهل مع التوجهات المتطرفة داخل حركة الاستقلال الشيشانية.
وعلى امتداد سنوات حصلت «آنا» على العديد من الجوائز العالمية, لكن في الداخل الروسي كانت تتعرض للتهديدات, وقد جرت محاولة لتسميمها من قبل السلطات الروسية التي كانت ترفض الاجابة عن أسئلتها, والاعتراف الوحيد بأهميتها الذي حصلت عليه من السلطات الرسمية هو دعوتها لدى الهجوم الذي شنه الثوار الشيشانيون على مسرح موسكو في العام 2002 للتفاوض من أجل اطلاق سراح الرهائن, وقد فشلت في مهمتها وها هي تنضم الآن, وبصورة دراماتيكية مشابهة الى الذين حاولت انقاذهم.
وآنا ليست الصحفية الوحيدة التي لاقت مصرعها اغتيالا في ظروف مشبوهة وغامضة منذ وصول فلاديمير بوتين الى الحكم في العام 2000, ومن أسوأ هذه الجرائم التي لم يتم التعرف الى فاعليها مقتل صحفيين محليين في مدينة توغلياتي لقيامهما باجراء تحقيقات عن نشاطات المافيا المحلية, ومقتل المحرر الاميركي للطبعة الروسية لمجلة «فوربس» بول كلبنيكوف لكثرة المعلومات التي كان يعرفها عن اوليغارشية روسيا, ومقتل محرر في تلفزيون «مرمنسك» كان معروفا بانتقاداته للسياسيين في البلدة.
لكن مقتل آنا يشكل نقطة تحول فارقة, فالفاعلون لم يكبدوا أنفسهم عناء تضليل التحقيق بتصوير الجريمة كمحاولة سرقة, أ وحادثة, وقد أطلقت النار عليها في وضح النهار, وتركت جثتها في مصعد شقتها الى جانب المسدس الذي استخدمه القاتل, وهو اسلوب تقليدي في موسكو يلجأ اليه المحترفون الذين يعهد اليهم بتنفيذ هذه المهمات, كما لا يمكن ربط الجريمة بسلطات اقليمية نائية أو بالمافيا, فرجال الاعمال المحليون لم يكن لديهم حافز لتصفيتها, لكن المسؤولين في الجيش والبوليس, بل في الكرملين, كما تقول الصحفية في صحيفة «الواشنطن بوست» ومؤلفة كتاب «الغولاغ: تاريخ» أن ابلموم كانت لديهم دوافع لارتكابها, فاللصوص العاديون يعمدون عادة الى اخفاء معالم الجريمة, لكن القتلة المأجورين لا يخشون القانون.
وإذا سارت جريمة اغتيال «آنا» على نمط الجرائم التي تحصل في موسكو, فلن يتم إلقاء القبض على أحد, كما ان احداً لن يمثل أمام المحكمة. في الواقع ليس مهماً على المدى البعيد معرفة من ضغط على الزناد, ومن دفع له ليقوم بذلك, المهم أن الفاعل قد حقق هدفه. ففي روسيا وفي اوروبا الشرقية عموما, ليس من الضروري أن تقتل الملايين لارهاب البقية, يكفي مجموعة اغتيالات منتقاة تتم في الوقت المناسب وفي المكان المناسب. فمنذ توقيف رجل النفط ميخائيل خودوركوفسكي في العام 2003 لم يجرؤ أي رجل أعمال على ابداء رأي سياسي, ويصعب التصور أن صحفيا روسيا سيتبع خطى آنا وصولا الى غروزني بعد مقتلها.
في الواقع هناك موقع على «الانترنت» يتضمن لائحة بأسماء الصحفيين والناشطين في حركة حقوق الانسان الروس الذين يعتبرون «أعداء الشعب» وقد دون تاريخ ميلادهم تحت صورهم وتركت الخانة التي تتضمن تاريخ وفاتهم €أو على الاصح مقتلهم€ فارغة. اشارة توعدية مشابهة تجعل الجميع يحجمون عن التعرض للكرملين بأي شكل, مع أن هناك الكثير من القضايا المطروحة على الساحة السياسية الروسية التي ينبغي ابداء الرأي بشأنها, بدءاً بالازمات في ايران, وفي العراق, وفي كوريا الشمالية, مرورا بالمضاعفات السياسية لتصاعد التوتر بين روسيا وجورجيا, واعتماد اوروبا المتنامي على الغاز الروسي, انتهاء بتراجع مساحة الحريات الاعلامية في روسيا.
بعض منتقدي آنا كانوا يأخذون عليها نظرتها السوداوية, ونبرتها التشاؤمية الدائمة وتوقعها الدائم بحصول الكوارث والاسوأ, بحيث تبدو كأنها كتبت قصة حياتها وخاتمتها المفجعة بنفسها. وفي ذلك هي محقة بكل تأكيد.

ولدت آنا بوليتكوفسكايا في مدينة نيويورك في العام 1958, اي بعد وفاة ستالين بخمس سنوات, فقد كان والداها الاوكرانيان السوفياتيان دبلوماسيين في الامم المتحدة, وأرسلت الى بلدها حيث درست في واحد من ارقى اقسام الصحافة في الاتحاد السوفياتي, برنامج جامعة موسكو الحكومية للصحافة, وتخرجت فيه, وأصبحت واسعة الاطلاع جزئيا لأن وظيفة والديها الدبلوماسية مكنتهما من تهريب الكتب الممنوعة داخل البلاد. وبعد تخرجها عملت في عدد من صحف الدولة ثم سلكت طريقها في نهاية المطاف الى الصحافة المستقلة حيث بدأت تميز نفسها بتقديم تقارير عنيدة ومزعجة حول الشيشان لتصبح واحدة من المراسلين القلائل الذين استمروا في هذا النهج مدى سنوات. وهي تقول ان تحديات العمل كصحفية في روسيا كثيرة, وتتحدث عن التمييز المستمر والمضايقات قائلة انه يكاد يكون من المستحيل بالنسبة الى امرأة ان تصل الى عضوية مجلس التحرير, ومن السخرية بمكان ان هذه التحديات ذاتها تتلاشى في جبال جنوب القوقاز, ديارها الثانية من نواح عدة. «انه عمل خطر تماما بالنسبة الى الرجال لأن الجميع يراهم, لكنني, وكامرأة استطيع ان ارتدي ازياء النساء الشيشانيات وأن اتنقل بسهولة اكبر».
في الآونة الاخيرة كاد عمل بوليتكوفسكايا ان يكلفها حياتها. فحين كانت في طريقها الى العمل مفاوضة اثناء ازمة اسرى تلاميذ المدرسة في بيسلان, وضع شخص ما السم في كوب الشاي الخاص بها, وعلى الرغم من انها غير متأكدة ممن حاول تسميمها, إلا انها تشك في اجهزة الاستخبارات الروسية. وهي تقول انه من المرجح ان يصبح الوضع اكثر خطورة فيما تعاني المؤسسات الديمقراطية في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من المخاطر كانت تؤكد «انه ليس بوسعها سوى المضي قدماً والاستمرار في ما تقوم به وما تصفه بالنظرية الروسية لـ«المهمات الصغيرة».
وبوليتكوفسكايا ام لطفلين وواحدة من اكثر صحفيي روسيا تميزا وقد جعلت من حرب الشيشان شغلها الشاغل. وفي مقابلة هاتفية اجريت معها من منزلها في موسكو, قالت مرة «من المحظور كليا تغطية الانشطة الديمقراطية, فنحن ليست لدينا قناة تلفزيونية واحدة مستقلة, فقط قنوات مملوكة للدولة, ولدينا مجرد محطة اذاعة واحدة مستقلة وصحيفتان مستقلتان, هذا قليل بصورة مطلقة بالنسبة الى بلد ضخم كهذا».
والعمل في الطقس البارد وفي ظل القمع الحكومي ليس امرا جديدا بالنسبة اليها, فقد تعرضت خلال عملها لمطبوعة «نوفايا غازيتا» المستقلة النصف شهرية للترهيب, وبوصفها واحدة من اكثر صحفيي روسيا شجاعة, غطت بوليتكوفسكايا الحرب في الشيشان من الخطوط الامامية لجبهات القتال وسافرت الى اعماق جنوب القوقاز النائي والخطر لتكتب عن كيفية تأثير الحرب في المواطنين العاديين, وواجهت جنودا روسيين ومتمردين شيشاناً ومعارك في عملها الراسخ والعنيد. وقد منحت اخيرا جائزة الشجاعة المدنية التي تقدمها مؤسسة «نورثكوت باركنسون» ومقرها نيويورك, وتمنح هذه الجائزة لتكريم من يقاومون الظلم معرضين حياتهم الشخصية للخطر. وقال نيكولاس بلات مقدم الجائزة في الاحتفال بهذه المناسبة «ان شجاعة آنا بوليتكوفسكايا, وهي واحدة من الصحفيين الرياديين في روسيا, تميزها عن الآخرين. لقد فضحت فظائع حرب الشيشان في كتب وفي مقالات في «نوفايا غازيتا», وثبتت على نهجها على الرغم من غضب الكرملين وفي مواجهة التهديدات بالقتل والترهيب والتسميم». كما حازت بوليتكوفسكايا ايضا جائزة الشجاعة للمؤسسة النسائية الدولية للاعلام في العام 2002.
وبوليتكوفسكايا لا تؤمن بأن كلمة «شجاعة» كلمة مناسبة لوصف عملها. وهي تقول «لا احب هذه الكلمة. انه الواجب. انا على يقين كامل بأنني اريد ان اقدم شيئا للناس من خلال الصحافة». وهي لا تركز تحديدا على قضايا النساء, وتقول ان كونها امرأة صحفية في روسيا اليوم يعني انها ستنظر الى كل شيء يتعلق بعملها من منظور مختلف, خصوصا حين يتعلق الامر بالحرب. وتستطرد انه وبينما قد تتجنب الصحفيات النساء تغطية الحروب, فإن الصحفيين الرجال يمكن ان يصبحوا في الغالب مفتونين بها. «انهم يحبون الاسلحة, ويحبون رؤيتها. لكن النساء الصحفيات, وأنا ايضا, كثيرا ما نعتقد ان رؤية كل هذه الاسلحة وسماع دوي المعارك امر كريه. الشيء الوحيد الذي افضله هو العودة الى منزلي, لا رؤية الحرب او شم رائحتها».
تضيف بوليتكوفسكايا ان مثابرتها في تغطية حرب الشيشان الثانية, التي بدأت في العام 1999, تسببت في انهيار حياتها الزوجية, فقد خرج زوجها حينما لم يعد بإمكانه تحمل القلق بشأنها او الوحدة الناجمة عن رحلاتها الدائمة. وتؤمن بوليتكوفسكايا بأن دورها كصحفية وأم بيّن لها ان تغطية الفظائع ليس كافيا على الاطلاق. وهي تقول «انت في حاجة الى ان تكوني كاتبة اولا. ولكن, ثانيا, انت في حاجة الى ان تفعلي شيئا من اجلهم. فإذا كان هناك ناس لا طعام ولا شراب لديهم, يتعيّن عليك ان تؤمني لهم الطعام والشراب».
وتضيف: «انها نظرية روسية خاصة تقول بأنه ان لم يكن في وسعك تغيير العالم كله, فإنك في حاجة للقيام بأشياء صغيرة لمساعدة اناس بعينهم. ولقد كانت الصحافة الروسية ولا تزال الآن الامكان الوحيد لمساعدة الناس اولا وقبل كل شيء في حياتهم اليومية وحياتهم الكارثية, ولقد اقتنعت بأنها نظرية جيدة بالنسبة الي».
الصحف الغربية اظهرت غضبا حقيقيا لاغتيال الصحفية الروسية, واعتبرتها شهيدة الحرية التي كانت تصر على ان تنقل الحقيقة لشعبها وللآخرين, في بلد يمارس القمع على الرغم من انه يتطلع الى الغرب في نظامه الاقتصادي. وقد ركزت التعليقات على ان هناك روابط محتملة بين مقتل الصحفيين في افغانستان واغتيال «آنا» التي كانت تحرص على نقل المعلومات من مصادرها من دون تجميل او تحريف, بدءا بالتعذيب وحوادث الاختطاف والقتل في القوقاز.
وردة الفعل الاميركية كانت الاكثر حدة, ويمكن تلمسها في تصريحات المتحدث باسم الخارجية الاميركية شون ماكورماك الذي قال «ان الولايات المتحدة تشعر بصدمة وقلق عميق لنبأ عملية القتل الوحشية». وبالمناسبة وصف ماكورماك آنا بأنها «صحفية لا تتعب من البحث والتقصي وتحظى باحترام كبير كونها عملت تحت الضغط المستمر للتهديدات بالقتل». وأضاف ان «الولايات المتحدة تطلب بإلحاح كبير من الحكومة الروسية اجراء تحقيق فوري وشامل للعثور على المسؤولين عن هذه الجريمة البغيضة وملاحقتهم ومحاكمتهم». وذكر ماكورماك بأن 12 صحفيا اغتيلوا في روسيا في السنوات الست الماضية, موضحا ان ترهيب الصحفيين وقتلهم يشكل «اهانة لوسائل الاعلام الحرة والمستقلة وللقيم الديمقراطية».
منظمة العفو الدولية التي تدافع عن حقوق الانسان عبرت, من جهتها, عن «غضبها» اثر مقتل بوليتكوفسكايا مؤكدة «انها استهدفت بسبب عملها الصحفي» الشاهد على انتهاكات حقوق الانسان في الشيشان. وقالت المنظمة في بيان انها «على يقين ان بوليتكوفسكايا استهدفت بسبب عملها الصحفي الشاهد على انتهاكات حقوق الانسان في الشيشان ومناطق اخرى في روسيا», مبدية «حزنها وغضبها الشديد», ودعت «السلطات الروسية الى التحقيق في هذه الجريمة في شكل دقيق وحيادي ونشر نتائج التحقيق ومحاكمة مرتكبيها في اطار احترام القانون الدولي».
الرئيس الشيشاني علي اخانوف اعلن اسفه, والرئيس فلاديمير بوتين تعهد بتحقيق كامل, لكن «الريشة الذهبية» انكسرت الى غير رجعة ومجازر الشيشان المتواصلة لم تتوقف بعد.

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...