ملابس عصر النهضة

18-10-2006

ملابس عصر النهضة

من كون الملابس ذات دلالات اجتماعية، جاء كونها ذات دلالات فكرية ورمزية أيضاً، ونحن نتحدث هنا على المستوى التاريخي والاجتماعي، وليس على المستوى الفردي، فظهور ملابس معينة في حقبة تاريخية معينة، وفي مجتمع محدد، يكون في كثير من الأحيان ذا دلالة رمزية وفكرية، سواء أكان ذلك على مستوى الفرد الذي يرتدي هذا اللباس، أم كان ذلك على مستوى الجماعة أو المجتمع الذي توافر هذا اللباس فيهما، أوساد ودرج.
من هنا، من كون الملابس «حقل دلالات ورموز» أتى كون الملابس «حقل صراع» أيضاً.
والملابس المختلفة في رمزها ودلالاتها، صارت مختلفة في تعبيراتها الفكرية ودلالتها الرمزية، ومثلما الأعلام -والتي هي مجرد قطع نسيج - تدل على الدول والأوطان، فإن الملابس، وهي من نسيج غالباً، وجلد أحياناً، هي رموز دالة على أفكار المجتمعات والأفراد، وكما تتصارع أعلام الدول، فإن ملابس الأفراد والمجموعات الاجتماعية تتصارع، أو على الأصح يكون اللباس أحياناً أحد حقول الصراع مثلما هو أحد تعبيرات الصراع الاجتماعي، وهنا تخرج الملابس من وظيفتها كحاجة فيزيولوجية بشرية، لتصبح رمزاً وهوية، ومثلما تتصارع الرموز والهوايات، فإن الملابس تتصارع، أو تكون أحد ميادين الصراع وأحد حقوله، مثلما هي أحد تعبيراته ورموزه الظاهرة.
ليس من المهم دراسة تطور الملابس، أو دراسة تطور الدرج والأزياء في هذا التقديم، ما يعنينا هو دلالة الملابس في مرحلة تاريخية محددة جرت فيها أكبر عملية «تغيير» اجتماعي - تاريخي بما فيها عملية تغيير للملابس في المنطقة العربية في العصر الحديث، وسنحاول أن نقدم هذه العملية التاريخية - الاجتماعية - الفكرية - الرمزية من خلال الصراع والمعارك التي جرت حول «تغيير الملابس» في الثقافة والمجتمع العربيين الحديثين، في الوقت نفسه التي كانت تجري فيه أكبر عملية تغيير للأفكار والعادات والتقاليد والنظم والأجناس الأدبية وبنية المجتمع العربي وأفكاره عموماً، وهذه العملية هي عملية دخول «الزي الأوروبي الحديث» مكان الزي العربي التقليدي سواء للرجال أم للنساء، وسنحاول أن نرى كيف عبرت أفكار النهضة العربية عن نفسها عن طريق الملابس، في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه عملية الدعوة للحداثة والديمقراطية والعلمانية والاشتراكية والرواية والمسرح وفن الرسم...الخ
والملابس كانت أحد ميادين الصراع، مع فارق أنها تمس كل فرد من هذا المجتمع، سواء أكان معنياً بالأمور الثقافية والفكرية والسياسية أم غير معني.
على خط أفكار النهضة العربية نفسه وقف «التقليديون» مع الملابس التقليدية «العربية» القديمة،  بينما دعا «الحداثيون» إلى «الزي الأوروبي» الحديث، بدءاً من ملابس المرأة الداخلية «المشد» وصولاً إلى غطاء الرأس، ومن هنا فإن المعركة والجدل حول العمامة والطربوش والقبعة - مثلاً - إنما كان جدلا ورمزاً وصراعاً فكرياً - اجتماعياً في أساسه، وفي دلالاته، مثله مثل الصراع حول فن الرواية والاشتراكية والعقلانية والديمقراطية والعلمانية وفن الرسم وقضية المرأة وقضية الاشتراكية وقضية الوحدة...الخ وغيرها من القضايا التي جرى حولها الصراع والجدال والحوار الفكري، مباشرة ورمزاً، خلال المئتي عام الأخيرة، أي في الزمن الذي تعارفنا على تسميته: عصر النهضة العربية.
الملابس لم تعد إذاً مجرد اتقاء للبرد أو الحر، أو ستر للعورة، أو دلالة لمرتبة اجتماعية، بل صارت رمزاً لفكر، ودلالة لما تحتها، فللبس القبعة دلالة فكرية غير دلالة لبس الطربوش، والمأساة أن يحدث تضاربا بين الرمز ودلالته كما يحدث في المجتمع العربي الحديث، في كثير من الأحيان،إذ أصبحتَ ترى رجلاً يلبس لباساً حديثاً، ويفكر تفكيراً تقليدياً، وبهذا المعنى فإن العمامة والطربوش صارا داخل الرأس بعد أن كانا فوقه، وهذا ما لاحظه محمد علي باشا عندما أسر ضباط الأسطول العثماني المرتدين زياً عسكرياً أوروبياً «حديثاً» إذ خاطبهم قائلاً:
« يا أبنائي... الفرق بيني وبينكم أنكم تضعون قلنسوة أوروبية على رأس تركي، بينما أضع أنا عمامة تركية على رأس أوروبي»..ومفارقة محمد علي ما تزال قائمة في كثير من الأفراد... وتبلغ هذه المفارقة مداها عندما يبيح الرجل الشرقي لنفسه ارتداء الأزياء الأوروبية - الرجالية- بينما «يجبر» أو «يطلب» من المرأة أن تبقى على حجابها، فكأن الرجل يقبل أن «يتعولم» ويلبس «جينزاً وتيشيرت وخفافة رياضية»، لكن على المرأة أن تبقى في زيها التقليدي.
هذا المجلد:مثل غيره من مجلدات «قضايا وحوارات النهضة العربية» تتبعنا تتبعاً تاريخياً وجدلياً موضوع الحوار حول اللباس منذ القرن التاسع عشر، وبوبنا الموضوعات في أقسام ثلاثة:
 1- قضايا اللباس عموماً.
2- قضية العمامة والطربوش والقبعة.
3- قضية المشد «الكورسيه».
أما قضية الحجاب، فقد سبق أن قدمناها في مجلة «قضية المرأة»، نأمل أن يجد القارىء في هذا المجلد المتعة والفائدة والطرافة، كما نأمل ألا تحجب طرافة الموضوع مدى عمقه وجديته وأبعاد دلالاته الفكرية والاجتماعية والتاريخية... والرمزية.
فيما يلي نقدم نموذجاً للجدل في هذه القضية بين أنصار الطربوش وأنصار القبعة، والنموذجان منقولان عن مجلة الهلال عام 1927.
يصدر قريباً عن وزارة الثقافة كتاب «قضية الملابس» وهذه مقدمة الكتاب مع نموذج لموضوعاته و الجدير بالذكر أن الكتاب هو الجزء الأخير من سلسلة «قضايا وحوارات النهضة العربية».

وفي نفس الإطار فإن الجدال بين أنصار الطربوش وأنصار القبعة هو في الحقيقة جدال بين عقليتين تتنازعان أقطار الشرق العربي الآن ولكل فريق أدلة وحجج جديرة بالنظر والتأمل، وقد رأينا ان نطلب الى كاتبين من أقدر كتابنا ان يبين كل منهما رأيه في هذا الشأن فالسيد مصطفى صادق الرافعي يدافع عن الطربوش والدكتور محمود عزمي يناضل عن القبعة.

لمـــــاذا أستمســــــك بالطربـــــــــوش بقلم: مصطفى صادق الرافعي
   -لا تسأل ما الطربوش ولكن من لابسه ولا ما القبعة ولكن من حاملها، فإنما القبعة والطربوش كلاهما كسائر العروض التجارية لا قيمة لكائن ما كان منها إلا ان  يمضي منفعة ويرجع مآلاً ويخرج في صورة عمل لينقلب في صورة أجر كأن هذه الأرض بما عليها قضية مالية عند منقطع كل استدلال من أدلتها برهان من الفضة أو الذهب.
ونحن نبتاع ما شئنا منذ أصبح العالم كله سوقاً واحدة لا تنفك عروضها من سفر وتقلب، فإن صاحب الحاجة أدرى بسداد حاجته وأبصر كيف يتولاها، فحذائي انا مثلاً تجد فيه متانة الحربية الألمانية لأنه من المانيا وثيابي تكاد تستعمر جسمي لأنها من انكلترا..ولكن عند الطربوش والقبعة أجد حداً تقف اليه ذاتيتي الفردية، فلا أرى ثمة موضع انفراد ولكن موضع مشاكلة، ولا أعرف صفة منفعة لي بل صفة حقيقية مني.
ويعترضني من هناك المعنى الذي يصير به النوع الى الجنس والواحد الى
 الجماعة  وأجدني من آلامه في مثل المنزلة التي يقرأ فيها العدد المجموع فلا يطلق عليه ما كان يسمى به وهو أرقام مفردة ويكون العدد مثلاً من خمسة واربعة وستة فيقرأ مجموعاً ستمائة وخمسة وأربعين، وانه لهو ذلك لولا منزلة الضم والاتصال وتكوين الجملة التي هي أصل في حساب الاجناس.
فالقبعة على رأس المصري منفرداً بها دون قومه بائناً من جملتهم، انما هي مظهر من مظاهر التحلل الاجتماعي وارتكاس في منطق الجملة المصرية ونفي لهذا الرقم من عبارة مجموعه، بل هي في الرجال مشتقة من المصدر، المصدر نفسه الذي يخرج منه التهتك في النساء وكلاهما ممنوع من المخالفة وكلاهما ضد من صفة اجتماعية تقوم بها فضيلة شرقية عامة وان كان فيما وراء ذلك ضرب من القول في توجيه القبعة ومذهب من الرأي في الاحتجاج لها.
غير ان المذاهب الفلسفية لا يعجزها ان تقيم لك البرهان جدلاًمحضاً على ان حياء المرأة الفاضلة ان هي الاّ رذيلة في الفن..وان هؤلاء مرض وضعف وكيت وكيت، ثم تنتهي به الفلسفة الى ان تجعله من البلاهة والغفلة..وما الغفلة والبلاهة الا ان تريد فلسفة من فلسفات الدنيا ان تقحم في كتاب الصلاة مثلاً فصلاً في ...في...في ما لا يستحب ذكره.
لا يهولنك ما أقرر لك من أن القبعة علىرأس المصري في مصر تهتك أخلاقي او تهتك سياسي او تهتك ديني او من هذه كلها معاً، فإنك لتعلم ان الذين لبسوها لم يلبسوها الامنذ قريب، بعد أن تهتكت الاخلاق الشرقية الكريمة وتحللت اكثر عقدها وقاربت الحرية العصرية بين النقائض حتى كادت تختلط الحدود اللغوية، فحرية المنفعة مثلاً تجعل الصادق والكاذب بمعنى واحد فلا يقال الا انه وجد منفعته فصدق ووجد منفعته فكذب، وما فرق بين اللفظين وجعل لكل منهما حداً محدوداً الا جهل القدماء وفضيلة القدماء ودين القدماء وهذه الثلاثة: الجهل والفضيلة والدين هي ايضاً في المعجم اللغوي الفلسفي الجديد..مترادفات لمعنى واحد ومتى أزيلت الحدود بين المعاني كان طبيعياً ان يلتبس شيء بشيء وان يحل معنى في موضع معنى واصبح الباطل باطلاً بسبب، وحقاً بسبب آخر، ولم يعد يحكم الناس الا مجموعة من الاخلاق المتنافرة تجعل كل حقيقة في الارض شبهة مزورة عند من لا تكون من أهوائه ونزعاته، واحتاج الناس بالضرورة الى نواة تفصل بينهم فصلاً مسلحاً فيكسبون القانون بمدنيتهم قوة همجية تضطره ان يعد للوحشية الانسانية وتدفع هذه الوحشية ان ترصد له وتترشح بجرائمها لاعتراضه، وما القبعة على رأس الشرقي الا حد طمس حداً وفكرة هزمت فكرة ورذيلة قالت لفضيلة أنا جئت فاذهبي.
ما هو الاكبر من شيئين لا حد بينهما للصغر وما أصغر شيئين لا حد بينهما للكبر؟.
انها الفوضى كما ترى ما دام الحد لا موضع له في التمييز ولا مقر له في العرف ولا نصل به في العادة ومن هنا كان الدين عند قوم أكبر كلمات الانسانية في كل لغاتها وأملاها بالمعنى وكان عند آخرين أصغرها وأفرغها من المعنى وما كبر عند أولئك الا من انه يسع الاجتماع الانساني وهو محدود بغاياته العليا، ولا صغر عند هؤلاء الا بأن الاجتماع لا يسعه فلا حد له كأنه معنى متوهم لا وجود له الا في حروف كلمته.
فجماعة القبعة لا يرون لأنفسهم حداً يحدونها به من أخلاقنا أو ديننا او شرقيتنا وقد مرقوا من كل ذلك ولا اعرف أحداً منهم الا علمته موضع قطع او تمزيق في هذا النسيج الشرقي الثمين، وانت ترى منهم من أوفى على الخمسين من عمره ومنهم من جاوزها ومنهم دون ذلك على حين تاريخ القبعة فيهم لا يرجع الى أبعد من مدة القماط للطفل الرضيع في حول او حولين..أفليس لنا ان نسألهم اين كانوا من قبل وكيف ضاق بهم الطربوش بعد هذه السن؟.
ولكن الطربوش لم يضق وانما ضاقت العقول او ضاقت الاخلاق وهذه الامة منكوبة بالتقليد والمقلدين فهلا زياً مخترعاً او اصلاحاً في زي معروف، فإذا كانوا عاجزين عنهما فهلا عقلوا سخافة هذا التقليد وشؤم هذه المتابعة؟.
يقولون ان الطربوش يوناني ونقول انه يوناني معرب فهو في ألفاظ الحياة كألفاظ مثله في اللغة وقد أصبح رمزاً من رموزنا ففيه من ذلك قوة السر الخفي الذي يلهمنا ما أودعه التاريخ من قوميتنا ومعاني اسلافنا او فيه سر القوة الخفية التي تجمعنا حول المعاني الاعتبارية برمز تتمثل فيه تمثل الوطن في الراية وهو عندنا كالاصطلاح في الحفلة الرسمية على ثوب رسمي لا بد منه لكل من يحضرها لينسق به نظامها شئت ام أبيت، وقد تقول ان في الشرق ضروباً اخرى غير الطربوش كالعمائم والقلانس فنقول لك ان الاصطلاح واقع عليها كذلك وهذا الاصطلاح عينه هو الذي ينفي القبعة ويلحق لابسها بالفئة الاجنبية.
انا أعرف ان منا قوماً يرى أحدهم في ظن نفسه انه قانون من قوانين التطور فهو فيما يلابسه لا ينظر الى أنه واحد من الناس بل واحد من النواميس وكأنها حادثة لها مادتها الفعالة فيريد ان يكون على ما تقتضيه تلك المادة الوهمية القائمة بنفسه..ومن هنا الثقل والدعوى الفارغة وما هو أكبر من الثقل وفراغ الدعوى فانه لحق ان يكون بعض الناس أنبياء ولكن أقبح مافي الباطل ان يظن كل انسان نفسه نبياً.
انا استمسك بالطربوش لاني اريد الدقة في التعبر الذي تعبر به نفسي حين تعلن عن نسبتي وقوميتي فالطربوش وما في حكمه مما وقع الاصطلاح عليه انما هو تدقيق في التعبير بالفكر واخراج لهذا الفكر في أصدق ما يدل عليه وأصرح ما يؤديه ثم اني مستيقن ان الافكار الشرقية او الاسلامية تحت القبعة هي غيرها تحت الطربوش لان تغيير الرمز يتغير به ما كان يلهمه وهذا لا يكابر فيه أحد فقد عاد الامر الى صبغة نفسية كما ترى.
وانت تعلم ان النفوس تضع احلامها في كل ما تلابسه حتى تصبغ كل جامد من المادة بأثر من آثارها كأن الانسان لا يكون انساناً الا بتحويله كل ما حوله في ألوان انسانية، والمدنية هي التي تزيد في هذه الاحلام وتنوع منها أنواعها ولولا ذلك ما كان للرؤوس غطاء الا ما غطاها الله به من هذا الشعر الكثيف المسترسل يضرب الى المنكبين ويرد على الصدغين والعنق ويتم تمامه باللحية كثة مرسلة، وذلك أفضل الأغطية وأوفاها بالحاجة وأردها على الجسم بالصحة والعافية لولا النفس وأحلامها.
فنحن من الطربوش أو القبعة بإزاء مظهر فيه أحلام النفس كما فيه المنفعة لا بد من الاعتبارين جميعاً، وما نظن أحلام النفس كأحلام النفس الغربية الا اذا أزيح الحد الذي يفصل بينهما.
وهاهنا أمر لابد من التنبيه اليه وذلك ان الاوروبيين لا يتخذون من القبعات الا أغطية للطريق فهم ينزعونها في مجالسهم وبيوتهم وأماكن عملهم ومن ثم كان بناؤها عندهم على أحكام الطرق وأرواح الشارع وهندسة الثلج والضباب والرطوبة، وبلادهم تعمى الشمس فيها أكثر السنة ولا تبصر اذا أبصرت الا في أشعة كليلة، فمن سخافة التقليد بل من الغفلة ان ننزع نحن الى ما اتخذوه وننشأ على الوقاية من شمس أرضنا بهذه الوقاية المحكمة في حين انه ان لم نجعل بيننا وبين الشمس ونورها وحرها ملاءمة فنبرز لها ونعتادها من الصغر ونلقاها بوجوهنا-هيأنا ذلك لضرباتها عند ايسر الاسباب ووهنت فينا قوة الاحتمال ولم نعد نصلح لهذا الجو بعد، ولعله لا تمر بضعة أجيال حتى تظهر جنايتنا على أعقابنا في لعنة تعد ضربة من ضربات الطبيعة.
وأعلن ان ما يزينونه للشرقي من فضائل القبعة ان هو الا منطق شهوات في جملته ولقد تسمع الجائع الصائم يتكلم عن الطعام فترى كلاماً في معانيه معان أخرى لا يعدها غير الجائع الا حماقة ساعتها.
ولم أعرض في هذه الكلمة للجانب الديني ففيه كلام آخر يجعل اللعنة لعنتين..وفي واحدة لما يذهب بالقبعة.

-لمـــــاذا لبســــــــت القبعــــــــة بقلم: الدكتور محمود عزمي

تفضل «الهلال» فسألني ان أفضي لقرائه بسبب لبسي القبعة، فعدت الى نفسي اسائلها تاريخ هذا السبب وتطوراته، فان له عندي تاريخاً وتطورات.
وقد رجع بي التفكير في هذا الصدد الى أيام الصبا، أيام كنت بالمدرسة الثانوية، وأيام ظهرت كتب «قاسم أمين» عن المرأة والحجاب، فقد أثر في ذيوع بعض ما تضمنته الكتب من آراء، ثم قراءتي هذه الكتب بالذات، أثراً عجيباً جعلني أمقت الحجاب مقتاً شديداً يرجع الى اعتبار خاص هو اعتباره من أصل غير مصري وهو اعتبار دخوله الى العادات المصرية عن طريق تحكم بعض الفاتحين الاجانب وتملق بعض الوطنيين بالتقليد المرذول.
وكنت في تلك الايام منتظم الذهاب الى القرية أمضي فيها فترة العطلة المدرسية كلها فكنت ارى مظاهر السفور الطبيعي عند القرويات اثناء عملهن واثناء راحتهن، وكنت أقارن بينه وبين ما هو متجل منه داخل دار الآثار، فكان حنقي على أولئك الاجانب من الفاتحين «الاسلاميين» يزيد، وكان تنطع بعض المفسرين لآيات القرآن يضيف الى ذلك الحنق ما يثبت أركانه ويدعم قواعده.
وكانت تقوم حملة على «التبرج» وكانت تقوم دعوة الى النهوض بالمشروعات الاقتصادية ولا سيما ما اتصل منها بصناعة الملبوسات، فكان هذا كله يجر الى التفكير في الزي وما يجب ان يكون منه «حشمة ووقاراً» وما يجب ان يكون منه «مصرياً في مادته وصناعته».
وانتج ذلك كله التفكير في الزي وموافقته للمظاهر القومية والاحوال الجوية، وتعدى التفكير دائرة زي السيدات الى دائرة زي الرجال، ووضح ميل البعض بهذا الشأن الاخير الى تقرير ان «الطربوش» ليس لباساً قومياً وليس لباساً صحياً، وذهبوا الى حد الاعراب عن ضرورة العودة الى ما كان يحمله «المصريون القدماء» على رؤوسهم من «عمارة» يتدلى منها على العنق ما يتدلى ليمنع عنه الشمس وما لها عليه من سوء.
وكنت أنا من هؤلاء المعربين، أنقم على الفرس ومن كانوا واسطة نقل «حجابهم» الينا، وعلى البيزنطيين ومن كانوا واسطة نقل «طربوشهم» الينا، وكنت في ذلك أحس اني مدفوع بعامل من «الوطنية» قوي.
ثم حدث ان ذهبت الى أوروبا ادرس بباريس فتجلت لي آيات «السفور»  بما جعلني انظر اليه على أنه وسيلة اصلاح اجتماعي كبرى، وتجلت لي آيات البشرية بما جعلني أفقه«الوطنية» على انها احساس غور يجب ان يتعهده المرء في عمقه لا في اتساع سطحه، وهكذا اخذت انظر الى حضارة القوم والى حضارة العالم نظرة اخاء وتضامن لا نظرة عداء وتنافس، ودعم من هذا النظر ان نظرية «التضامن» هي التي كانت تجرى بها البحوث الفقهية والاجتماعية في ذلك الأوان نستمع اليها كل يوم في الدروس وفي المحاضرات ونقرؤها في البحوث والمجلات.
واذاً فقد دعتنا «البيئة المكتنفة» الى تقرير العلائق بيننا وبين الحضارة الغالبة، وكان طبيعياً ان يكون الزي-وقد خرجنا من مصر في وقت ماجت فيه الآراء باعتباراته- هو أول ما نفكر فيه من تلك العلائق، فوجدنا أننا نأخذ عن حضارة اليوم الشائعة كل مظاهر زيها الا ذلك الذي دخل الينا عن طريق الفتح العثماني وصار رمزاً للقوة القاهرة والسلطان المستبد.
لكن هذه المشاعر قد وقفت عند حد الاحساس بها والتفكير فيها والتمدح بفضائل تنفيذها والهيام بهذا التنفيذ، ولا سيما كلما جاء الصيف وأحس المقيم منا هناك بخفة قبعة الفصل على رأسه او أحس المقيم منا هنا بشدة «كبس» الطربوش على يافوخه.
على أنّا لم نقو على تحقيق هذا الذي كانت النفوس اليه اللهم الا واحداً لبس القبعة في مصر أحياناً ثم عاد الى الطربوش تحت تأثير ما كان الناس يقابلونه به من التهكم حيناً ومن الرمي بالزندقة والمروق والالحاد والكفر أحياناً.
ثم جاءت الحرب الكبرى وأصيبت مصر منها باعلان الحماية البريطانية عليها، فوجدنا طائفة من اخواننا الشرقيين يستبدلون القبعة بالطربوش هروباً من «العثمانية» وتقرباً من الدولة الحامية او فراراً من عدوان الجنود الاستراليين، فكان من هذا ان ازداد تمسك المصريين بالطربوش يعلنون به دائماً استعدادهم، الى تحمل أكبر انواع الاذى في سبيل عدم رضاهم عن الحماية التي فرضت عليهم فرضاً.
وتكشفت النهضة التي كانت كامنة، وتفجرت العواطف التي كانت مضغوطة فزاد تكشفها وتفجرها ذلك الاستمساك بما يحسبه الناس مظهراً للشرقية ورمزاً للمصرية ورسخت اقدام الطربوش من جديد فوق الرؤوس جميعاً.
وفازت النهضة بأولى ثمار جهادها، وفازت مصر بنعمة الدستور والحياة النيابية وسمعت اذان المصريين جميعاً مبادىء الحرية يرن صداها في صلب الدستور يقرها في نصابها أبداً ويكفلها تامة ويطلقها من اغلالها اطلاقاً كما وصلت مصر في علاقاتها مع الانكليز الى نوع من التفاهم يرجو الطرفان ان يستكملاه بعد حين.
فعادت الى العقول طرائق تفكيرها المعتدل اعتدالاً يزيد قوة ما اعلنت كفالته في الدستور من مبادىءحرية واطلاق، وأخذ المفكرون يعودون الى ذكر الحضارة الغالبة في هذا العصر-ولكل عصر حضارة غالبة تخضع لها الحضارات الاخرى خضوعاً حتمياً- وضرورة الاخذ عنها مبادرة الى الرقي واسراعاً في الخطا نحو التقدم، وكانت فكرة الزي هي الشاغلة حيزاً كبيراً من تفكير القوم، وأدوار الانتقال تعنى دائماً بالمظاهر العرضية توطئة للعناية بالبواطن الجوهرية، فعادت حركة الكلام في القبعة والطربوش لكن عادت في جو أصلح من ذلك الجو الاول الذي عدل صاحبنا فيه عن لبس القبعة تحت ضغط الاتهام بالإلحاد والخروج على التقاليد.
ذلك ان السيدات المصريات خطون في طريق التحول من «الحجاب» خطوات واسعات فسفر منهن كثيرات محترمات كل الاحترام، وذلك ان النهضة التركية التي قوضت دعائم«الخلافة» وما كان يحيط بها من مظاهر العسف والاذلال والجمود والاستبداد القت بالطربوش الى حضيض الغياهب وزينت الرؤوس بالقبعات تزييناً دون ان يقول فقيه اسلامي عاقل ان الاتراك خرجوا بهذا على الدين او أصبحوا من أجله ملاحدة كافرين، وذلك ان الدستور المصري قد أطلق حرية الاعتقاد.
وقامت في بلاد الشرق المتكلمة باللغة العربية نهضات وثابة الى الاستقلال والانطلاق من القيود وكثر خلالها اللجاج بين ان يعود القوم الى المدنية العربية وان يأخذوا من المدنية العصرية، وحاول  البعض ان يوفق بين الرأيين ورأى البعض ان هذا التوفيق محال لانقطاع الصلة -بفعل محن التاريخ- بين حاضر هذه الشعوب الشرقية وماضي الامة العربية او الأمم الاسلامية، بتعبير أصح، وانه لا محيص من الاختيار بين المدنيتين.
ولست ادرى على التحقيق ما هو الرأي الغالب لكني ادرى اني أنا من الذين ينادون بملء فيهم بضرورة الاخذ من المدنية العصرية وهي الحضارة الغالبة وبأن الخير كل الخير في شخوص الكتلة الشرقية المتكلمة لغة عربية الى شواطىء البحر المتوسط الشمالية الغربية، وبأن كل نظرة الى رمال التيه والبادية انها تكون نكوصاً على الاعقاب في ميدان الجهاد الذي يسير فيه العالم سيراً هائل السرعة الى الامام.
وسط هذه التيارات المتقابلة اقبل صيف سنة 1925 وكان علي ان أمضيه في القاهرة، وعندي ان بعض الاصلاحات الاجتماعية لا تجدي فيها المناقشة ولا يفيد الجدل، بل تجدي القدوة ويفيد العمل، من أجل هذا اعتزمت ان انفذ ما أنا مقتنع به من رأي في صدد المدنية العصرية وفي صدد القبعة، لكن «الاخطاء الوراثية» المتراكمة كان لها في عزيمتي بعض الاثر، فجعلتني اجد من «حسن الفطن» الا افاجىء اخواني وأصدقائي بما سأضع على رأسي في مصر من عمارة جديدة، وان انذرهم قبل الموعد بأيام حتى لا ينقضوا علي بالسؤال والاستفسار. واذن فقد حددت لنفسي اليوم الاول من شهر يوليه سنة 1925 لالبس فيه القبعة واخذت منذ العشرين من شهر يونيه اعلن كل من أقابله من الاخوان والاصدقاء اني مغير لباس الرأس من أول الشهر التالي.
وجاء أول الشهر وقصدت في حزم وهرولة الى بائع القبعات بميدان «سوارس» ولاحظت ان سرعة الخطا قد أخذت تقل عندما اقتربت من الحانوت، ولاحظت ان السيد قد وقف بي عند باب الحانوت، ولاحظت اني اخذت أنظر الى القبعات المعروضة خلال الزجاج، ولاحظت اني استأنفت سيري في شارع قصر النيل دون ان اشتري القبعة ودون ان ادخل حانوت القبعات، ولاحظت اني اخذت أتهم نفسي في صوت غير خافت بأي«جبان» وبأن «الاخطاء الوراثية» لا تزال تجد مني منفذاً، ومنيت نفسي  بالعودة الى الحانوت بعد الظهر لكني لم أعد اليه عاماً كاملاً.
ومضى الصيف ومضى الخريف ومضى الشتاء ومضى الربيع واقبل الصيف من جديد، صيف سنة 1926 والمناقشة حول «الطربوش والقبعة» يتسع نطاقها حتى وصل الى «الرابطة الشرقية» التي ارادت ان تتذرع «بفتوى» يصدرها الاطباء فتقدمت الى جمعيتهم بأسئلة واستيضاحات انتهت الجمعية الى الاجابة عنها في اجتماعها العام الذي عقدته صباح يوم الجمعة الموافق للثاني من شهر يوليه سنة 1926.
وقالت «هيئة كبار الاطباء» في فتواها ان الطربوش لباس رأس غير صحي وان للباس الصحي شروطاً عددتها واذا بها متوافرة في القبعة وغير متوافرة الا فيها.
واعلن القرار او أعلنت الفتوى مساء فكانت هي القاضية على «اخطائي الوراثية» من هذه الناحية اذ قصدت صباح اليوم التالي السبت الثالث من شهر يوليه لسنة 1926 الى بائع القبعات نفسه واشتريت قبعة الصيف وخلعت على الحوذي ما كان على رأسي قبل هذا من طربوش.
ومنذ ذلك اليوم البس القبعة متناوباً انواعها المتمشية مع كل فصل من فصول السنة.
تلك هي ظروف لبسي القبعة وتلك هي تطورات الاعتبارات التي دفعت الى لبسها، انتهت آخر الامر بان كانت اعتبارات صحة واعتبارات شخوص الى الشمال الغربي للأخذ بالحضارة العصرية الغالبة بدل افتقاد العمر في ندب الماضي الذي ليس من سنة الكون ان يعود.
وقد قابل اثنان من أصدقائي لبسي القبعة بتعليقين أرى مناسباً ان تختم بهما هذه الكلمة.
ذهبت الى «القدس» في اليوم التالي للبسي القبعة لاول مرة في مصر واستوقفت صديقاً من أصدقائي هناك هو «فحل من فحول الادباء  والمفكرين العرب» ولم يكن قد عرفني «بها» فما عرفني قال على فوره:« الآن أخذ الشرقيون يفكرون برؤوسهم».
وغداة عودتي من فلسطين تلك المرة ذاتها خرجت الى محطة القاهرة أودع صديقاً «عالماً فاضلاً وأديباً مجيداً ظريفاً» وهو مسافر الى أوروبا، فضمن أولى«مذكرات سفره» الى جريدة«السياسية» اشارة الى قبعتي وقال على لسان صديق يحدثه:
«أما العمامة العربية فقد دخلت مصر على يد الفتح الاسلامي فاتصلت بالروح الديني من أول يوم، وأما الطربوش التركي فهبط الينا من رؤوس المتسلطين لباساً رسمياً للجنود والموظفين فهو رمز التسلط والحكم، هذه القبعة تنتشر في الوسط الآخذ بالمذاهب الحديثة فهي تمثل لوناً خاصاً، وليس النزاع بين العمامة والطربوش والقبعة ولكنه تنازع بين صور مختلفة  من التفكير والذوق يريد كل منها ان يتسود».

 

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...