الخـريـف والـمـوت لقسطنطين كورولنكو

22-10-2006

الخـريـف والـمـوت لقسطنطين كورولنكو

كان الخريف يقترب. اعمال الحصاد تجري في الحقول، واوراق الشجر تصفرّ. في ذلك الوقت بدأت تعتل صحة صغيرتنا ماروسيا. لم تكن تتوجع من شيء، ورغم ذلك كانت تزداد نحولا باطراد، وفي وجهها المتزايد الشحوب اتسعت عيناها القاتمتان وبات جفناها يرتفعان بعناء.
اذ ذاك، في وسعي المجيء الى الرابية، غير مبال، بأن يكون اعضاء المجتمع الفاسد في بيتهم. لقد ألفت هذه الجماعة كل الألفة، وكانت تعتبرني من المقربين اليها، وكان الاقطاعي توركيفيتش يقول لي: انت صبي طيب وستصبح، ذات يوم، جنرالا. كان هؤلاء الناس جميعا يقطنون بمعزل عن الاقطاعي الآخر تيبورتسي الذي يقيم مع اسرته في منزل يشبه السرداب. كان اعضاء المجتمع الفاسد الآخرون يقطنون منزلا آخر من النوع نفسه لكن اكبر قليلا وتفصله عن الاول ممرات ضيقة، وكان ثمة قسط من النور أقل، على مزيد من الرطوبة والظلمات. على طول المنزل وضعت مصاطب خشبية وقطع من جذوع الاشجار تُستخدم كمقاعد. كانت المناكفات مستمرة بين الاقطاعي تيبورتسي والاقطاعي توركيفيتش.
- انت اشبه بصرصور الليل. قال تيبورتسي لتوركيفيتش.
- وانت خنزير. اجابه توركيفيتش.
وسط هذه المعمعة الكلامية كان يبرز البائس لافروفسكي حاجباً وجهه بين راحتيه، مسدلاً شعره الطويل المشعث، او يروح يتمشى على المصاطب بخطوات سريعة، ومن كل كيانه كان ينبعث انطباع مرهق ومحزن الى درجة تعجز اعصاب المرء عن احتمالها. لكن البؤساء الآخرين الذين كانوا يشاطرونه هذا المكان، اعتادوا شذوذه منذ وقت بعيد. لَمنظرٌ مؤذ ان تشاهد لافروفسكي وقد تعتعه السكر، رأسه يتأرجح وهو متدلّ من جهة الى أخرى، فيما على وجهه تعابير من الألم ودموع جارية على خديه. كان الاقطاعي تيبورتسي يتمتع، في هذه الاماكن، بسلطة لا جدال فيها، والجميع ينفذ اوامره. كان الخريف يفعل فعله والسماء تحتجب وراء السحب باطراد متزايد، والضواحي تتغطى بظلمات مكفهرة، وسيول الامطار تتدفق على الارض بصخب. في هذا الوقت، كانت ماروسيا تتلاشى أكثر فأكثر. كانت لا تخرج البتة الى الهواء الطلق بل تمضي معظم وقتها في الفراش. مرّ وقتٌ صحا فيه الجو، وهربت السحب الاخيرة من السماء، وعلى الارض التي اخذت بالجفاف تلألأت الايام الاخيرة الشامسة. ثم أفلت ايام الصحو وساءت حالة ماروسيا فلازمت الفراش واصطبغ وجهها بحمرة غير عادية من الحمّى، وكانت خصلات شعرها الأشقر تنسرح مشعثة على الوسادة وكانت غائبة عن الوعي لا تعرف احدا.
في هذا الوقت سألني الطبيب فاليك:
- ما العمل الآن؟
- هذه شغلتك. قلت للطبيب.
وبينما الحديث جار كان الاقطاعي تيبورتسي يجلس مطأطئ الرأس تحت ثقل الأسى، وكرر كلمتين غير مفهومتين بصوت مخنوق كأنما ينطق من حلقه بجهد موجع، وشعرت بيده ترتجف حتى خُيّل اليَّ اني اسمع غليان سورة الغضب في صدره، فأحنيتُ رأسي أكثر وراحت الدموع تنهمر فوق الارض قطرة اثر قطرة، الا اني ظلّلت متماسكا.
حرّك شقاء ماروسيا في قلب الاقطاعيين تيبورتسي وتوركيفيتش مكامن النبض في قلبيهما، ومزّق النياط في الاحشاء. كان تيبورتسي غادر مكانه ليفتح الباب متوقفا عند العتبة، محملقا في ماروسيا بعينيه الحادتين النفاذتين ثم هزّ رأسه وكان في صوته رنة من الأسى اكثر مما فيها من سخريته المعتادة.
- هي... هي... هي! ارى صديقي الصغير في وضع جدّ حرج. فحدجه الطبيب فاليك بنظرة قاتمة، متعجبة، تقبّلها تيبورتسي بهدوء. كان اذ ذاك رصينا ولم يكن وجهه يتغضن، وكانت عيناه تعبّران عن حزن عميق فقال بصوت ناعم:
- ايها الطبيب القاضي. انك رجل عادل. دع هذا الطفل ينصرف. هذا الصغير كان في المجتمع الفاسد، لكني اقسم بالله الذي يرانا انه لم يرتكب ايّ سيئة، واذا كان قلبه مع ولديّ المسكينين فاني لأقسم بالعذراء على ان تأمر بسوقي الى المشنقة. اما ان يتألم هذا الصغير من جراء ذلك فأمر لا قبل لي باحتماله.
- دع هذا الصبي ينصرف. كرر تيبورتسي. ثم توجه الى الطبيب القاضي:
- فلنمض الى الغرفة الاخرى.
اطاع الطبيب وهو يوجه الى تيبورتسي نظرة ذاهلة منبهتة. خرجا كلاهما وبقيت مكاني تحت وطأة المشاعر التي كانت تملأ قلبي بسبب حالة ماروسيا. كانت ماروسيا ترقد على مصطبة في زاوية مظلمة من المنزل. لم تكن كلمة الموت تعني حتى تلك الفترة حدثاً جللاً في مسمع طفل. واذ ذاك فقط، امام منظر ذلك الجسد الفاقد الحياة، خنقني سيل لاهب من الدمع. كانت صديقتي الصغيرة ترقد وقورة وكئيبة وقد برزت قسمات وجهها اللطيف بروزا موجعا. كانت عيناها المغمضتان غائرتين بعض الشيء، وكان فمها منفتحا قليلاً، وعليه تعبير من أسى طفولي.
بعد هذا الحادث المفجع والأليم تفرق اعضاء المجتمع الفاسد ولم يبق سوى الاقطاعيين توركيفيتش وتيبورتسي مع بعض الفلاحين المسحوقين. بقي هناك قبر واحد فقط، يحوطه سياج كانت اعشابه الطريّة تخضوضر مع كل ربيع وتزدان بالزهور. كان معارف ماروسيا يزورون هذا الضريح مع رغبة في الجلوس هناك في ظل شجرة بتولا تفضي بهمسها المغمض، والبلدة امام انظارنا تتلامع في الضباب هادئة ناعمة.
مع الوقت اختفى الاقطاعيان، وبقي في البعيد وجه الموت نضرا على جسد ماروسيا المتلاشية.

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...